استراتيجية فلسطينيي القدس الشرقية في وجه الاستيطان

بقلم: 

 

يشعر الكثيرون من عرب القدس الشرقية بأن المعركة على مدينتهم انتهت إلى حد ما بخسارتهم، فالمستوطنات باتت تحيط بأحيائهم التي غدت تجمعات سكنية بائسة وسط استيطان يهودي مستمر بلا هوادة، فيما ضيق الجدار العازل ونقاط التفتيش التجارة مع الضفة الغربية وتلاشت الحياة السياسية المنظّمة جراء القمع الذي تتعرض له المؤسسات الفلسطينية. لقد تغير وجه الحياة السياسية الفلسطينية في القدس بشكل جذري منذ اتفاقيات أوسلو التي استبعدت المدينة من ترتيبات الحكم المؤقتة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وسرقت المؤسسات الوطنية التي نشأت في رام الله الأضواء عن العاصمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية لفلسطين التاريخية. حافظت القدس بالكاد على مكانتها في تسعينيات القرن المنصرم بحكم الدور غير المتناسب الذي كان يلعبه سليل إحدى العائلات العريقة في المدينة، وهو فيصل الحسيني. إلاّ أن المدينة لم تتعاف من الضربة الثلاثية التي عانت منها والتي تمثلت في وفاة الحسيني عام 2001، واندلاع الانتفاضة الثانية وما ترتب عنها من قيود فُرضت على الوصول إلى المدينة، وإغلاق بيت الشرق مقر منظمة التحرير الفلسطينية في القدس

حاولت العائلات الكبيرة في المدينة ملء الفراغ للسلطة، إلاّ أنها لم تتمكن من وقف تردّي النسيج الاجتماعي بل وأصبحت فعلياً إحدى عوامل هذا التردي. وذلك لأن القدس الشرقية باتت منطقة محظورة على الشرطة الإسرائيلية إلاّ عندما تتعرض مصالح اسرائيل الأمنية للتهديد، فإن تلك العائلات انخرطت في أنشطة إجرامية، وباتت القدس الشرقيــــة الــيوم مكانا يجوبه العنف والغضب.أما اللجان الشعبية المحلية، ورغم أن جذورها السياسية تضرب في الانتفاضة الأولى وما قبلها، فقد كان عليها أن تركّز على ترميم النسيج الاجتماعي. الحرم الشريف هو المكان الوحيد الذي يبدو فيه أن للحشد والتعبئة هدف، وبنتائج تؤدي إلى ازدياد حدة التوتر كما هو متوقع، خصوصاً في ضوء النشاط اليهودي المتعاظم هناك.مع انفصال القدس عن عمقها الطبيعي في الضفة الغربية، فإن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل والنشطاء الإسرائيليين دخلوا حلبة الصراع بشكل متزايد. تأرجحت جهود حركات التضامن الإسرائيلية والدولية نيابة عن السكان العرب في مواجهة المستوطنين اليهود بين مد وجزر، ولكنها بشكل عام لم تحقق الكثير من النجاح

 

ولعب الفرع الشمالي من الحركة الإسلامية في إسرائيل، وهي مجموعة من عرب إسرائيل بقيادة الشيخ رائد صلاح، دوراً أكثر أهمية. إلاّ أن كثيرين يعتبرون مقاربته ذات طابع ديني مفرط ولغته قائمة على الذم والإدانة

وتعبّر اسرائيل عن استيائها من خطابه التحريضي في بعض الأحيان.قاطع الفلسطينيون منذ عام 1967 بشكل كامل المؤسسات الإسرائيلية في المدينة على أساس أن عدم قيامهم بذلك سيمنح الشرعية للاحتلال

لجأ عرب القدس الذين اختاروا الحصول على الإقامة الدائمة بدلاً من الجنسية الإسرائيلية إلى القنوات الرسمية لحماية هذه المكانة والتي تبدو أكثر هشاشة اليوم بالنظر إلى قيام إسرائيل بإلغاء العديد من الإقامات الدائمة وبناء الجدار العازل الذي ترك حوالي 50,000 منهم على الطرف الشرقي منه. وارتفع عدد المتقدمين بطلبات للحصول على الجنسية الإسرائيلية خلال السنوات القليلة الماضية، حيث لم يعد هذا الموضوع من المحرمات. كما بدأ البعض أيضاً بالمشاركة في الأنشطة البلدية، بما في ذلك ممارسة الحشد والتعبئة لدى بلدية المدينة. لقد بسطوا علاقات مع الجزء الغربي من المدينة، من حيث المدارس، والعمل والحياة الاجتماعية على الرغم من عدم ارتياحهم للقيام بذلك. فعنوانهم الوطني هو رام الله، غير أن ممثليهم التنفيذيين والتشريعيين ليس لهم أي سلطة عليهم، في حين أنه يتعين عليهم التعامل مع ممثليهم البلديين المحتلين. وبالنسبة لمعظمهم، فإن هذا الواقع الفصامي هو واقعهم الوحيد.تتمثل الاستراتيجية الفلسطينية السائدة التي طالما حثت القيادة على تبنيها في مقاطعة أي اتصال طوعي مع بلدية القدس. والإحجام عن التعامل مع المؤسسات الإسرائيلية كان أمراً مفهوما في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم عندما كانت القدس الشرقية ما تزال منطقة ذات ملامح متميزة ومختلفة. أما اليوم فقد باتت جزءاً مهمشاً ومندمجاً في القدس الغربية: مهمشة لأن ما كان في الماضي مركزاً مستقلاً للمدينة بات اليوم مجرد حي مزدحم ومطوّق لا يحظى سوى بخدمات سيئة وببنية تحتية بحاجة ماسة للتحديث. وايضا مندمج حيث أن عدداً ليس بالقليل من عرب القدس يعملون ويدرسون ويمارسون حياتهم الاجتماعية على جانبي الخط الأخضر، كما تشكل الطرق والسكك الحديدية الخفيفة والمرافق التي تمر في النصف الشرقي جزءاً حيوياً من آلية العمل في المدينة بمجملها

 

باتت المقاطعة بشكلها الحالي مجرد قطعة فنية موروثة من حقبة ماضية. إنها نتاج الركود واللامبالاة أكثر منها نتيجة تفكير وتخطيط متعمدين. لقد أصبحت شكلاً رمزياً لسياسة تغطي غياب السياسة. من المنظور الفلسطيني، فإنها تحمل بعض المزايا التي تتمثل في تأكيد الاختلاف والهوية وترفض منح الشرعية للاحتلال، إلاّ أنها لها تكاليف لا يمكن إنكارها. لقد أُهملت الأبعاد المادية للسياسة وتلك التي تتعلق بتوزيع الموارد، فيما بقي السؤال المتعلق بكيف يمكن لهذه المجموعة البشرية أن تحظى بالموارد لتعزيز قوتها ليس من دون جواب فحسب، بل ودون حتى طرح. وفي المحصلة

فقد سهّل ذلك على إسرائيل والقيادة الفلسطينية تهربهما من مسؤولياتهما.وعلى الرغم من صعوبة إجراء حوار فلسطيني حول فعالية استراتيجية المقاطعـــــة، إلا أنه لابد من إجرائها. إذ من شأن ذلك أن يخرج بعدد من الإجابات المحـــتملة عن فاعليتها أو حاجتها للمراجعة أو التخلي عنها بالكامل

كما أن ثمة عدد من الخيارات للتأقلم: كتمكين فلسطينيي القدس الشرقية من الترشح للانتخابات البلدية أو التصويت لمرشحين من مواطنين فلسطينيين في إسرائيل، أو تمكينهم من تشكيل بلدية ظل في رام الله، أو إقامة تمثيل جماعي يعمل بالتنسيق مع البلدية الإسرائيلية

يعد طرح السؤال المتعلق بما إذا كان ينبغي تعديل أو إنهاء استراتيجية المقاطعة محرماً بالنسبة لكثير من الفلسطينيين. إلاّ أن مسألة الاستراتيجية الفلسطينية، في القدس وفي غيرها، بحاجة ماسة لإعادة النظر، وإلى أن يتم طرح القضايا الصعبة وغير السارة، فإنها لن تلقى جواباً

مدير المشروع العربي ـ الإسرائيلي في مجموعة الأزمات الدولية