أمان: مهنة قذرة تتعلّق بالضعف البشري

بقلم: 

عشية اندلاع حرب العام 1948، التي دخلت من خلالها الجيوش العربية في الصراع، افتقرت إسرائيل بحسب مؤرخيها إلى معلومات حول القدرات العسكرية للدول العربية. وحتى تلك الفترة، لم يكن قد تمّ بناء جهاز استخبارات عسكرية بعد، إذ اعتمدت منظمة "الهاغاناة" على مخابراتها "شاي" الذي كان جهازاً مدنياً في جوهره.

منذ نشوب حرب 1948، شرع رئيس الحكومة الإسرائيلية دايفيد بن غوريون بعمليةٍ أدّت في نهايتها إلى بلورة منظومة الاستخبارات الإسرائيلية. فتم بناء ثلاث قنوات أساسية: الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش، وجهاز مخابرات مسؤول عن التجسّس وجمع المعلومات في الخارج – الموساد -، الى جانب جهاز أمن داخلي – الشاباك.

تمّ تكليف قائد شعبة العمليات في الجيش آنذاك يغآل يدين بتأسيس الاستخبارات العسكرية خلال النصف الأول من العام 1948. وكانت، في البداية، تابعةً لشعبة العمليات. ألقيت على عاتقها مسؤولية جمع المعلومات العسكرية تمهيداً لتنفيذ الهجمات العسكرية، وإحباط التجسس، والرقابة العسكرية على النشر، والتنصت.

بعد حرب 1948، ساد اعتقادٌ لدى المنظرين العسكريين والسياسيين الاسرائيليين، أن الاستخبارات هي خط الدفاع الاول عن إسرائيل. ففي ظل غياب عمقٍ استراتيجي جغرافي يفصل ساحات القتال عن التجمعات السكنية المدنية، يصبح الإنذار المبكر بحرب وشيكة أمراً في غاية الأهمية.

عمل جهاز الاستخبارات العسكرية بعد تأسيسه انصبّ على اتجاهين رئيسيين. أولاً، العمل الاستخباري الاستراتيجي المتعلق ببلورة استراتيجية عسكرية، وتخطيط أساليب العمل. وهذا النوع يعتمد على دارسة قوة الجيوش المعادية وساحات القتال المستقبلي واحتمالات اندلاع حرب واحتمالات إحراز العدو النصر، بهدف اتخاذ الإجراءات اللازمة في إطار رد الفعل على اوضاع قد تتشكل. ثانياً، الاستخبارات العملياتية والتكتيكية، المختصة بجمع المعلومات عن الجيش المعادي وانتشاره في الميدان في أثناء المعركة.

في العام 1949، في إطار إعادة هيكلة الاستخبارات العسكرية، تقرّر اعتبار الاستخبارات قسماً منفصلاً داخل قسم العمليات، وتحويلها إلى قسم يتبع له كافة ضباط الاستخبارات في الوحدات المختلفة. وتمّ تحديد مهام الضباط، وأصبح رئيس الاستخبارات يقدّم تقاريره مباشرة إلى رئيس أركان الجيش، بدلاً من قائد قسم العمليات.

في نهاية شهر كانون الأول/ديسبمر 1953، تحوّلت الاستخبارات العسكرية إلى جهاز مستقل تابع لرئيس الاركان. وأصبح ايسار بئيري الرئيس الأول للجهاز الذي حمل اسم "أمان"، وهو اسم يحمل أحرفه من جملة "قسم الاستخبارات".

هيكلة الجهاز: أهم شعبه "وحدة 8200"

يتكوّن جهاز "أمان" من شعب عدّة: شعبة جمع المعلومات الاستخبارية، وشعبة الابحاث، وشعبة أمن المعلومات، وشعبة التأهيل، وثمة شعب أخرى. تضمّ كلّ شعبة أقساماً سُمح بنشر معلومات حول وجودها، فيما يحيط الكتمان ببعضها، بحسب الأدبيات التي نشرت في إسرائيل حول الجهاز.

ومن أهم أقسام شعبة جمع المعلومات الاستخبارية، وحدة 8200 المتخصصة بالتجسس الإلكتروني وتحليل الشيفرات. وهي معروفة في العالم بـ "وحدة جمع المعلومات المركزية". وتعتبر هذه الوحدة من أكبر الوحدات داخل الجيش الإسرائيلي، ويقودها ضابط برتبة عقيد تظل هويته مجهولة.

وتستخدم الوحدة تكنولوجيا متطورة جداً، معظمها من إنتاجٍ إسرائيلي. وقد ذاع صيت الوحدة لكون متخرّجيها يشغلون مناصب عليا في الصناعات التكنولوجية المتقدمة في اسرائيل وفي العالم.

وهي تتبع لقسم جمع المعلومات الاستخبارية ("وحدة 504") المتخصصة بتشغيل الجواسيس، والتي يُطلق عليها الخبراء العسكريون وصف: "موساد مُصغر تعمل داخل الجيش". مهمة هذه الوحدة هي العثور على أشخاص في الدول المعادية لديهم الاستعداد لخيانة شعبهم، ثم تجنيدهم لكي يزوّدوها بالمعلومات الاستخبارية، بالاضافة إلى التحقيق مع الأسرى من ميدان القتال.

أحد كبار ضباط الوحدة وصف للقناة العاشرة من التلفزيون الاسرائيلي طبيعة عمله بالقول: "استخدام جاسوس ليس مهنة سهلة، إنها مهنة قذرة، إنها مهنة تتعلق بالضعف البشري، ويجب امتلاك قدرة على الإغراء والإغواء، والكذب، والتضليل".

ازدهار الوحدة 504..

قبل أحداث "الربيع العربي"، مُنيت هذه الوحدة بخسائر كبرى في مواجهة المقاومة اللبنانية، بعد انكشاف أمر شبكات تجسّس. ونشرت وسائل الإعلام العبرية معلومات كثيرة حول إخفاقات وقصص فساد داخلها. فتم استبدال قادتها، وجرى تغيير أساليب العمل. ويقول المعلق العسكري للقناة العاشرة الون بن دفيد إنه "على خلفية انهيار الشرق الأوسط القديم، فإن المعلومات الاستخبارية اليومية التي تحصل عليها وحدة 504 تزدهر".

وعن سبب ازدهار هذه الوحدة بعد "الربيع العربي"، يقول أحد كبار قادتها: "كلما زادت الأماكن التي تضُعف فيها السلطة المركزية، وتزداد فيها الضائقة التي يعاني منها السكان، والاحتياجات الإنسانية تزادد، يصبح جمع المعلومات الاستخبارية من المصادر البشرية أسهل. وكلما توفرت المعلومات الاستخبارية، ترتفع القدرة على إحباط الهجمات".

يعتبر قسم الابحاث في الوحدة مسؤولاً عن إجراء الابحاث الاستخبارية، ويتسع نطاق عمله ليشمل الأبحاث الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والاجتماعية. والعمل فيه موزّع على ساحات: كلّ دولة عربية ساحة يرأسها ضابط يقسم ساحته الى قطاعات، ويترأس القسم ضابط برتبة عقيد، وفي الغالب تتم ترقيته لرتبة لواء. العديد ممن شغلوا هذه الوظيفة وصلوا لوظائف رفيعة في إسرائيل لاحقاً.

وثمة أقسام أخرى تتبع لجهاز "أمان"، من بينها "مركز عمليات الوعي"، وهو متخصّص بإدارة الحرب النفسية. معظم نشاطات هذه الوحدة سرية، ولكن من بين أنشطتها المعروفة توزيع المنشورات الدعائية، سواء في فلسطين أو لبنان، خلال الحروب أيضاً، من مهامها إنشاء مواقع الكترونية تتقمّص هوية بعض الجهات. خلال حرب تشرين/اكتوبر 1973، نشرت الوحدة إشاعة تزعم بأن الجيش السوري أعدم أحد ضباطه من أصول درزية بعد تعاونه مع الجيش الإسرائيلي.

وتهدف الوحدة بحسب وثيقة عسكرية نشرت مقتطفاً منها صحيفة "معاريف" إلى "استغلال الاختلافات في المجتمع الفلسطيني من أجل تسريع وتيرة عمليات مرغوبة لإسرائيل". وادعى المعلّق العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هرائيل أن الجيش الاسرائيلي يلجأ لـ "زرع" أنباء في الصحف العربية لتحقيق أهداف إسرائيلية، من بينها مضاعفة قدرتها على الردع.

الإخفاقات والإنجازات

المؤرخون العسكريون الإسرائيليون يسردون قائمة طويلة لإخفاقات "أمان"، أهمها: لم تقدّم "أمان" إنذاراً في العام 1955، حول صفقة السلاح المصرية مع التشكوسلوفاكيا. وفشلت بتوقع اندلاع حرب العام 1973، التي بادر اليها الجيشان المصري والسوري. ولم تنجح "أمان" بتوقع الانتفاضة الأولى التي انطلقت العام 1987. وأخطأت تقديراتها قبيل العدوان على العراق العام 2003، عندما أشارت لامتلاك العراق أسلحة كيميائية وبيولوجية. وفي العام نفسه، فوجئت هي وجهاز "الموساد" بوجود مشروع نووي ليبي اقترب من تصنيع قنبلة نووية، وجاء ذلك بعد إعلان القذافي تخلّيه عن هذا المشروع.

وإلى جانب قائمة الفشل، فإن المؤرخين الإسرائيليين يسجلون للاستخبارات قائمة نجاحات سُمح بنشر بعضها، فكان من أبرزها: توفير معلومات استخبارية أدت إلى تدمير سلاح الجو المصري خلال حرب 1967، وتنفيذ هجمات داخل مصر خلال حرب الاستنزاف، وتقديم معلومات استخبارية تمهيداً لاغتيال قادة "منظمة التحرير الفلسطينية" في لبنان في سبعينيات القرن الماضي، إلى جانب توقع اندلاع انتفاضة الأقصى.