تقرير مصير الفلسطينيين في إسرائيل بعد التسوية

بقلم: ديمتري تشومسكي
ينشأ الانطباع بأن الكثيرين من مؤيدي صيغة الدولتين للشعبين في الجانب الاسرائيلي يرحبون ببدء محادثات السلام مع الفلسطينيين. وكل هذا بقدر كبير انطلاقا من الامل بأن التسوية السلمية المنشودة ستقطع الطريق على مطالب الأقلية الفلسطينية من بين مواطني اسرائيل للاعتراف بحقوقهم الوطنية الجماعية. هذا ما يقوله بنيامين نتنياهو علناً في أن المفاوضات تأتي، في نظره، لمنع تشكل دولة ثنائية القومية بين النهر والبحر. بمعنى ألا ينشأ بين النهر والبحر كيان سياسي يعترف- لا سمح الله- بالحقوق الجماعية لاكثر من جماعة واحدة من بين مواطنيها.
بتعبير آخر، يسعى نتناهو الى أن يحقق من خلال المفاوضات مع الفلسطينيين ما يسعى الى تحقيقه مؤيدو "قانون القومية": التثبيت مرة واحدة وإلى الأبد بأن تقرير المصير في دولة إسرائيل سيبقى محفوظاً لابناء القومية اليهودية فقط.
غير أنه ليس عادلاً وليس ممكنا منع سكان ذوي هوية وطنية جماعية من حق تقرير المصير حتى لو كانت اقلية وطنية في دولة معظم سكانها ينتمون الى ابناء قومية واحدة. كانت أزمنة في الماضي فهم الصهاينة انفسهم فيها ذلك جيدا. "علينا أن نقاتل في المنفى ايضا في سبيل الحقوق الوطنية وتقرير المصير الوطني"، أعلن دافيد بن غوريون، العام 1915. لا يعني هذا انه باعلانه ذلك سعى بن غوريون الى اقامة دولة يهودية في بلدان المنفى، او أعطى وزناً مساوياً للمطالب الوطنية اليهودية في بلاد اسرائيل والمطالب خارجها. ولكن اعتقد بن غوريون بانه كجمهور ذي وعي وطني مميز فان يهود الشتات جديرون بالاعتراف بحكم ذاتي وطني جماعي في دول اقامتهم، وذلك لضمان حقوقهم كأفراد وكجماعة. وهذا ما سماه "تقرير مصير وطني"، مثلما كان دارجا تسمية أنواع ودرجات مختلفة من الحقوق الوطنية الجماعية.
اليهود في اوروبا لم يحظوا، كما هو معروف، بتقرير المصير. فقد اجتازوا فيها ابادة جماعية. كما أن مجرد مفهوم "تقرير مصير وطني" اجتاز تغييرات عميقة في ظل تقليص معناه حقوق جماعة وطنية في دولة قومية حصرية خاصة به. ولكن في العقود الاخيرة، مع نهاية الحرب الباردة وصعود الاتحاد الاوروبي، بدأ مفهوم "تقرير مصير وطن" يأخذ مرة اخرى معناه الاصلي المركب – سواء في واقع جغرافي – سياسي ملموس ام في البحوث الاخيرة في مفهوم الوطنية أو القومية. في واقع يوجد فيه تداخل بين الجماعة الوطنية والوحدة السياسية، مثلما في فرنسا، فان مفهوم تقرير المصير الوطني يؤخذ بالمعنى الكامل للدولة. أي أن فرنسا هي الاطار السياسي (الدولة) لتحقيق تقرير المصير للقومية الفرنسية.
بالمقابل، في الدول التي توجد فيها الواحدة الى جانب الاخرى جماعات وطنية – مثل بلجيكا، اسبانيا، كندا، وحتى الاتحادية الروسية – فان مفهوم "تقرير مصير وطني" يؤخذ بمعنى فرع الدولة المقلص. هذه الدول تشكل، كل واحدة منها، موقعا لتقرير المصير لعدة قوميات، تتمتع بدرجات وانماط مختلفة من الحكم الذاتي.
سكان دولة اسرائيل يتشكلون من جماعتين وطنيتين، يهودية وعربية – فلسطينية. رغم احلام بعض مؤيدي تقسيم البلاد – ممن كانوا يرغبون في أن يشاهدوا الهجرة الجماعية لمواطني اسرائيل الفلسطينيين الى دولة فلسطين في اليوم التالي للتوقيع على اتفاق السلام – فان الواقع ثنائي القومية سيواصل الوجود في اسرائيل حتى بعد أن تتحقق تسوية سياسية بالنسبة لمستقبل "المناطق" المحتلة. ولهذا السبب فانه يجدر بكل تسوية سياسية اسرائيلية – فلسطينية أن تأخذ بالحسبان ايضا الحقوق والمصالح المميزة للمواطنين الإسرائيليين من أبناء القومية العربية – الفلسطينية. فهذه أقلية وطنية أصيلة، جديرة بحقوق وطنية جماعية بقدر لا يقل عن الاغلبية الوطنية اليهودية.
حقوق المواطن وحقوق الاقلية الوطنية للفلسطينيين في اسرائيل يجب النص عليها في اطار التعريف المتجدد لدولة اسرائيل – ليس كموقع لتقرير المصير الوطني لليهود فقط، بل كدولة الاغلبية الوطنية اليهودية والاقلية الوطنية الفلسطينية معا.
ان التسوية السياسية المستقبلية بين اسرائيل والفلسطينيين ستخلد مكانة ابناء الاقلية الفلسطينية في اسرائيل كعديمي حق تقرير المصير كجماعة وطنية مميزة داخل الدولة، الامر الذي سيؤدي الى نقل النزاع الوطني الاسرائيلي – الفلسطيني الى داخل المجتمع الاسرائيلي نفسه. فالاقلية الفلسطينية المقصية ستتطرف بقوة اكبر في مواقفها ضد الدولة؛ والدولة الوطنية اليهودية، من جهتها، ستشدد نهج القمع الاثني لها، وهكذا ستبدو علاقات الدولة ومواطنيها الفلسطينيين اكثر من الماضي كعلاقات حاكم ومحكوم حسب النمط الاستعماري المعروف.
بالمقابل، إذا كان كنتيجة للتسوية السلمية ستتصمم اسرائيل كدولة مواطنيها اليهود والفلسطينيين على حد سواء فسيكون بذلك ما يحفز المصالحة الاسرائيلية الداخلية بين الجماعتين الوطنيتين الاساسيتين الموجودتين فيها، على الاقل في سياقات الجسر بين هويتيهما المميزتين، والبدء في العملية المركبة والتدريجية لبناء الأمة المدنية الإسرائيلية، حيث الأمة اليهودية والامة الفلسطينية في اسرائيل ستكونان بمثابة حجارها الاساسية.