عالم عربي جديد مضطرب

بقلم: نداف إيال
ما الذي يتعلمه الطفل السوري حاليا؟ إنه يتعلم أن السنة والعلويين يكرهون بعضهم لدرجة الموت وما بعده. هذا واضح. إنه يتعلم درس كل الحروب الأهلية: لا حدود للوحشية بين الجيران. ولذلك لا معنى للقومية لأن الجميع قبائل أو طوائف وكراهيات قديمة لا تموت، فقط تختفي تحت القبضات الحديدية لأنظمة تتبدل.
إنه يتعلم أمورا عن العالم. مثلا، ان القيم الليبرالية والمتنورة ليست سوى نسائم تمر بين فروع المجزرة. وفي النهاية فإن الكارثة هي من نصيب الضحايا. وكلما كبرت الكارثة واشتد العنف الوحشي، تفردت الكارثة وانحصرت بالضحايا. وإذا دمر المجتمع نفسه، باسم كراهياته القديمة، فلن تضحي القيم السامية بدمائها لإنقاذه. وسينظر العالم باهتمام إلى مجموعات البشر هذه وأمراضها النفسية وسيترحم على أبنائهم. وبداهة أن الطفل يغدو أقل قيمة من الطفل الألماني، الفرنسي أو الأميركي. لأنه بعيد ويتحدث لغة أخرى وتربى على دين آخر.
إنه يتعلم أن السلاح الكيميائي يهم العالم أكثر من رصاص البنادق، التي تقتل أكثر من سحب غاز السارين. ولكن الإعلام الدولي يجد أن جثث الأطفال الشاحبة، الفاقدة الأوكسجين والطلقات، مثيرة أكثر من أشلاء الجثث إثر القصف أو معارك الرصاص. هؤلاء وأولئك قتلى، جراء العنف، لكن الأطفال المختنقين مثيرون أكثر. لذلك فإن هجوما كيميائيا يمكن أن يثير البشر، لكن حياتهم بقيت كالمعتاد، ونظروا إلى هذا الطفل. والطفل ينظر إليهم عارفا أنه لا وجود للعالم، على الأقل حتى الآن، وانه وحيد. هذا هو الواقع، بالمناسبة، رغم الفجوة الكبيرة بينه وبين كلام الغرب وكلامنا جميعا.
لنبدأ من النهاية: مصر انهارت هذا الأسبوع داخل نفسها ومعها اهتزت بشدة السيطرة الأميركية على المنطقة. هذه أخبار فظيعة للمصالح الإسرائيلية ولاحتمالات الاستقرار الإقليمي في المستقبل المنظور. فالأحداث في مصر هي الفشل التاريخي للسياسة الأميركية في العقود الأخيرة، منذ إبرام التحالف الأميركي المصري في عهد السادات، ولا جدوى من إخفاء هذا الفشل، بل من الواجب توضيحه.
وبرز بيننا ساسة ومعلقون حاولوا تحويل الأحداث المصرية إلى نوع من يوم غفران الإدارة الأميركية. وكالعادة، هم ينسبون قوة سحرية لكل رئيس اميركي، يمكنه بهزة اصبع ترجيح كفة وبنبرة صوته تحطيم ثورات. ومنطلق الرؤية كان ضيقا، سطحيا وقصيرا: لماذا لم يؤيد أوباما الجيش والسيسي. لماذا أدار ظهره للعلمانيين والليبراليين، وفي الأساس لأعدائنا، الإخوان المسلمين.
وهذه ليست تحليلات للواقع، وإنما كلام هذيان، وأهواء سياسية ورغبة شديدة برؤية العالم وفق حاجاتنا. وأنا أيضا أريد ذلك، لكن ثمة مسافة بين الرغبة والتحليل الواعي للواقع. وتم نسيان ذلك هذا الأسبوع.
وجزء من المشكلة هم أناس ذوو أجندات واضحة. كل ما تفعله الإدارة الحالية هو خطأ فظيع. ويستحيل إقناعهم. ثمة من لا يفهمون أميركيا. وهم يقتبسون «انتقادات حادة» لأوباما في أميركا، ولا يفهمون أن معظم الانتقادات هي النقيض التام للانتقادات الإسرائيلية: لماذا يواصل أوباما دعم الجيش الذي يقمع الشارع.
وتدور في أميركا معركة سياسية قاسية. فأوباما، بنفسه، يقف إلى جانب الجنرالات المصريين. الجيش والعلمانيين. وهذا قول مبالغ فيه بعض الشيء، فأوباما يقف إلى جانب الاستقرار. ولا يعنيه بالتحديد من يحكم مصر، لكن يعنيه بالتأكيد أن يكون قويا وبيد ممدودة. فهو يحتاج الى مصر لأسباب استراتيجية، خصوصا في عهد خروج أميركا من العراق وأفغانستان.
فماذا يفعل أوباما؟ إنه يرفض الدعوات الضاغطة، المكثفة، العدائية، لقول البديهي: ان انقلابا عسكريا وقع في مصر. والإخوان المسلمون ليسوا أحباء الإسرائيليين (بمن فيهم أنا) لكن لا خلاف على أمر واحد: الجيش سيطر بالقوة على الحكم في مصر وأودع في السجن رئيسا منتخبا. وهذا الأسبوع نفذ عدة أفعال يمكن وصفها بأي صفة بين حمام الدماء والمجزرة على شاكلة قمع تمرد الإخوان المسلمين في حماة في الثمانينيات عندما قتل الأسد عشرات الألوف وهدأت البلاد 30 عاما.
والقانون الأميركي واضح جدا. إذا وقع انقلاب عسكري في مصر ضد نظام منتخب، فإن الرئيس يفقد قسما كبيرا من قدرته على اتخاذ القرارات. فالدستور يمنعه من مواصلة تقديم المساعدات، ويقوده لقطع العلاقات، ويدمر مصر السيسي.
ويبذل أوباما كل جهد للتهرب من وصف الانقلاب العسكري بهذه الصفة. والأمر بالغ الصعوبة. فالحزب الجمهوري يضغط. جون ماكين وليندسي غراهام، السيناتوران الجمهوريان الأشد احتراما، سافرا لمصر للضغط على الجيش للتسليم بالإخوان المسلمين. وعندما أخفقا أعلنا أن حكومة الجيش المصري «تأخذ مصر لمسار مظلم، لا يمكن لأميركا ولا حاجة لها للانضمام إليه». أما راند بول، وهو جمهوري هام آخر، فيرى أن إدارة أوباما تدفع مقابل «قمع» الإخوان المسلمين. لكن الجمهوريين، بوقوفهم إلى جانب الإخوان المسلمين «لأن السيسي منتش بالقوة»، وفق غراهام، وهو من كبار أصدقاء إسرائيل فإن رئيس الحكومة الموقتة لا يمكنه أن يعظ (الإخوان المسلمين) بالأخلاق حول حكم القانون. فهو لم ينل أي صوت كي يصل إلى هذا المنصب».
وهذه ليست النهاية. فالليبراليون الأميركيون غاضبون. المقالات في «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» تطالب أوباما بتعليق المعونات لمصر فورا، بل قالت إحداها ان الإدارة «شريكة في جريمة» القمع العسكري العنيف. وينبغي أن نفهم: تعليق كهذا يمكن أن يقود إلى تصعيد خطير، وربما يشكل الضربة القاضية لمعاهدة السلام مع إسرائيل، الباقية أساسا بفضل الدولارات الأميركية. فهل جن اليمين واليسار الأميركي؟ وهل الجمهوريون النشطون غدوا حلفاء للإسلاميين؟ حقا لا. إنهم ببساطة يتصرفون وفق رؤيتهم. وما يرونه، في كل جوانب الخريطة السياسية، هو انقلاب عسكري أعقبته حمامات دماء. وفي الثقافة السياسية الأميركية، هذا ليس بالأمر الممكن والمرغوب في تغطيته.
وفضلا عن ذلك، لأميركا تجربة سيئة ومريرة مع ديكتاتوريين عسكريين يقمعون الإسلام السياسي بيد غليظة. ومع مبارك انتهى الأمر بواحد، محمد عطا. فهو مصري قاد الخلية التي نفذت تفجيرات 11 أيلول.
ما هي سياسة أوباما؟ كتب جون كاسيدي في «نيويوركر» هذا الأسبوع أن «هذه سياسة براغماتية، انتهازية، وهي سياسة تبنتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط طوال عقود إلى أن انزلق جورج بوش داخل العراق... إنها سياسة دعم، أو على الأقل غض طرف عن الأنظمة الاستبدادية والقمعية بشرط أنها تحقق المصالح الأميركية». وبكلمات أخرى، ربما ان أوباما ألغى مناورة مشتركة، لكن في هذه الأثناء لم يقع شيء لا عودة عنه. وهذا لا يعني أن ذلك لن يحدث: فالبيت الأبيض يوجد هنا في موقع أقلية واضحة.
والعالم ينتقد أوباما لـ«تلعثمه» في الموضوع المصري، لكن الإسرائيليين فعلا يرغبون في أن يواصل الرئيس هذا «التلعثم»، الذي يعني تحديدا ثلم مطلب الأسرة الدولية والسياسة الأميركية بالتخلي عن الجنرال السيسي. من جهة أخرى، كل من أراد أن يخرج أوباما عن طوره لتأييد الجنرالات المصريين، سيقف ضد الإسلام السياسي ويعرض المزيد من البنادق لمواصلة اغتيال كل أخ مسلم – ببساطة لا يفهم ما هي أميركا، وما يقوله الجمهوريون وعلى رأسهم ماكين، وما هي القيود الدستورية على الرئيس وما هي حاجاته السياسية. وأوباما شخص واقعي. وليس أوباما من أدخل المبادئ الديموقراطية السامية في الوعي العربي. ليس هو من مول بمئات ملايين الدولارات مشاريع إشاعة الديموقراطية والثورية في الوعي العربي، وليس هو من ألقى خطابا عن الحاجة للحرية والتحرر وحقوق الإنسان وقدم العظات لنظامي مبارك وبن علي الاستبداديين. جورج بوش هو من فعل ذلك، بفهمه اللامحدود.
وفي خطاب أوباما الشهير (السيئ السمعة في إسرائيل) في القاهرة، ماذا حاول أن يقول؟ ان لا نية لإدارته، خلافا لما سبقها، في محاولة فرض الديموقراطية. وانه يحترم كل نظام له «شرعية». وهو لم يذكر كلمة انتخابات حرة. ورسالته كانت واضحة وحادة: أميركا عندي لا توهم نفسها. لدينا مشاكل داخلية كثيرة. لن نقول لكم كيف تحكمون ولن نقول لكم ان الديموقراطية الغربية تلائم الجميع (أنصح القراء المجتهدين: اقرأوا الخطاب في الانترنت).
وكان هذا متأخر جدا. فإدارة بوش أسقطت صدام حسين وأعلنت ديموقراطية عراقية. وأرسلت عشرات معارضي النظام المصريين إلى دورات مكثفة في الثورية العملية. وفرضت فعلا على إسرائيل انتخابات في السلطة الفلسطينية فازت بها حماس. وعندما وصل أوباما، ظهر النجاح شبه الوحيد لإدارة بوش في الشرق الأوسط: النجاح في إثارة موجة مطالبة بالديموقراطية قادت إلى تعزيز الأسلمة وفقدان السيطرة راهنا. وخلافا للتفسيرات، فإن أوباما، ثانية، منح مبارك الوقت لقمع التظاهرات. الرئيس المصري كان ضعيفا ومتعبا، وعندما تبين أنه ليس صالحا للاستخدام، تركته أميركا. وأعرف أن لدينا معلقين اعتبروا الأمر شخصيا، للأسف. فأميركا تستخدم من يملك القوة. وهي تمنح الكثير مقابل ذلك، لكنها لا تضحي بمكانتها في مصر عندما يبدو مبارك ضعفا.
ولا تريد الإدارة الحالية ديموقراطية في مصر. وهذا يعني، أنه إذا أقيمت جمهورية ديموقراطية مستقرة، فهذا جيد. لكن هذا ليس رأس سلم الأولويات. هناك توجد أهداف عملية: هدوء نسبي واستقرار. لا مشكله لديه مع الانقلاب العسكري، لكن عندما تدخل مصر حالة قتل جماعي فهذه مشكلة. مشكلة سياسية أميركية. مشكلة دولية للإدارة التي ترعى مصر والسيسي.
عموما، ثمة فشل ذريع. الفشل في أن تكون أميركا في وضع يسمح لها بأن تفرض الأحداث في مصر، أن تملي على الرئيس مرسي سلوكا معقولا، أن تقومه وتدخله إلى خط الانتاج الأميركي بحيث يغدو في نهاية المطاف لولا دو سيلفيا مصريا. مرسي قرر أن يكون هوتشي مينه.
وبالنظر إلى تعلق مصر التام بالأميركيين، والعلاقات مع الجيش المصري، كان ينبغي لواشنطن أن تكون في وضع يجمع الطرفين ويملي عليهما، ماديا، الحل المطلوب. والتوضيح لهما، بلغة واضحة، بعصا غليظة، أنهما سيخسران إن لم يفعلا ذلك.
وفي الحالة المصرية الحالية الأمر يبدو مستحيلا. وينبغي لمصلحة الأميركيين قول التالي: مصر تعيش ثورة. والثورة كثيرة الأحداث والدماء. فيها قتل واغتيالات ومجازر وانقلابات. في وضع كهذا يصعب فهم الأحداث، أو توقعها والسيطرة عليها. ومحاولة قوة عظمى السيطرة على ثورة تشبه محاولة القوى العظمى السيطرة على ثورة أكتوبر الروسية 1917. كان الفشل ذريعا.
هذا تفسير رائع لكن في المباريات يقال ان التفسير لغة الخاسرين. وأميركا أوباما مضطرة لتقديم تفسيرات كثيرة. وهي لا تملي ولا تؤثر عميقا في الأحداث، وربما أن هذه هي الحجة الأكبر للجمهوريين والديموقراطيين على حد سواء: مقابل مليارات الدولارات لمصر، يفترض أن نكون في وضع نناور فيه بين الطرفين. وهذا لم يحدث.
وهم على حق. أميركا تعاني حاليا أثمان ضعفها الدائم. وهي تكتشف الحدود المتزايدة لقوتها، وينبغي لأصدقائها ممن تعودوا على أنها القادرة أن يتعودوا على عجزها. فقد وُلد هذا الضعف قبل أكثر من عقد في زمن غباء إدارة بوش. أوباما يحاول إدارة سياسة براغماتية، واقعية وانتهازية، لكنه يفعل ذلك في زمن لم تعد أميركا ما كانت عليه.
ويميل الرئيس نفسه لبث رسائل متناقضة، وهي تتصل بواقع أنه رغم واقعيته الأميركية التقليدية يطفح محيطه بالمثاليين الإنسانيين. فلحظة يعلن خطا أحمر بشأن السلاح الكيميائي السوري، ولحظة أخرى يراقب بصمت انتهاك هذا الخط مرارا. وهكذا تضمحل صدقية الردع الأميركي. فهو يرفض في مصر وضع يده داخل الأحداث نفسها محاولا فرض الأحداث، ربما بسبب الخشية من الفشل. وكما لو أن الإدارة الأميركية الحالية مقتنعة جدا بحدود قوتها، فإنها لا تستخدم حتى ما بقي لديها. وبديهي أن هذا صحيح أيضا بشأن إيران. إذ يعرف أوباما جيدا أن الإيرانيين لم يستوعبوا صدقية التهديد الأميركي بالعمل ضد منشآتهم النووية، لكن الإحساس هو أن أميركا تستثمر في تهدئة اللهيب أكثر مما في تجسيد عمل عسكري يدفع إيران للتراجع.
كان أوباما يود رؤية هدوء نسبي في أرجاء الشرق الأوسط، مع حكام استبداديين أو ديموقراطيين، لا فرق، ما داموا يخدمون مصالح واشنطن. هذا ما يريد وما لم ينل. وحان الآن موعد خطة جديدة يجدر به عرضها. الرئيس الأميركي يتوق لترك الشرق الأوسط في حاله، لكن كما قال آل باتشينو في «العراب»: «بالضبط عندما ظننت أني في الخارج... شدوني إلى الداخل». ينبغي شد الرئيس الأميركي لداخل الشرق الأوسط وإلا فإنه سيملي عليه طبيعة ولايته الثانية.