مفاوضات مفتوحة على الغيب!

بقلم: عاموس هرئيل
‘العاصفة السياسية التي نشبت للحظة في بداية الاسبوع حول الآثار المحتملة للمفاوضات مع الفلسطينيين على مستقبل الائتلاف تبدو مبالغا فيها وسابقة لاوانها. فمتابعة التصريحات العلنية للرئيس الامريكي باراك اوباما، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وكبار رجالات السلطة الفلسطينية بمن فيهم الرئيس محمود عباس (ابو مازن) تفيد بانه في واقع الامر لم يحصل الكثير في المحادثات.
‘اذا كان الحلف بين يئير لبيد ونفتالي بينيت قد تشقق، فان هذا يحصل لان الكيمياء الشخصية بين الرجلين استنفدت’ نفسها على ما يبدو ومعها لقاء المصالح المؤقت الذي نشأ حول تشكيل ائتلاف. فليوجد مستقبل والبيت اليهودي مقترعون مختلفون توقعاتهم ممن انتخبوا للكنيست مختلفة، ويخيل أن الشرخ بينهم كان محتما حتى بدون المفاوضات السياسية التي من المتوقع لمفترق الحسم الهام فيها على أي حال ألا يحل إلا في ربيع 2014. ولكن ما حصل مع ذلك في المحادثات مع الفلسطينيين هو أن الوسطاء الامريكيون رفعوا معدل السرعة، بشكل كشف عمق الفجوة بين مواقف اسرائيل والسلطة.
فالتوقعات التي يطورها وزير الخارجية جون كيري والعمل المعمق للفريق الامني برئاسة الجنرال جون الن (والى جانبه الفريق السياسي الذي ينسق اعماله مارتين اينديك) اجبرت الطرفين على مواجهة نقاط الخلاف. فبعد اشهر من التعتيم النسبي، بدأت المعلومات عن الاتصالات ترشح الى الخارج.
‘مسألة مركزية عرضها الامريكيون مؤخرا تتعلق بالترتيبات الامنية في غور الاردن بعد انسحاب اسرائيلي من معظم مناطق الضفة الغربية. ويقترح الامريكيون بان يتم تخفيف التواجد العسكري الاسرائيلي في الغور بالتدريج على مدى عشر سنوات. والى جانب ذلك فانهم يعدون بتحسين وسائل جمع المعلومات الاستخبارية التي لدى اسرائيل والابقاء على تمثيل اسرائيلي في معابر الحدود، يكون ‘مكشوفا’. لاسرائيل توجد تحفظات على التسوية المقترحة ولكن على الاقل حسب ما تسرب من الجانب الفلسطيني يبدو أن الن وكيري يسيران بقدر كبير نحو اسرائيل. وان لنتنياهو اسباب تدعوه الى القلق بالنسبة للحدود الشرقية، تتعلق اساسها بفرص بقاء الاسرة المالكة الهاشمية في الاردن لزمن طويل. ومع أن الملك عبدالله فاجأ اسرائيل والغرب في رده الحاد والخبير على هزات الربيع العربي، ولكن الحصانة لن تدون ابدا. فالاردن يتصدى الان لمشكلة 1.5 مليون لاجيء من العراق ومن سوريا، عدد هائل بالنسبة لدولة ذات 6 مليون نسمة الى جانب التوتر الدائم مع السكان الفلسطينيين وحركة الاخوان المسلمين. وهذه ليست صيغة للاستقرار بعيد المدى، وليس فجأة أن نتنياهو ووزير الدفاع موشيه بوغي يعلون قلقات من امكانية أن يحكم الاردن في المستقبل نظام معادٍ، رغم التنسيق الامني’ الوثيق بين الطرفين اليوم.
‘ولكن ما يجري في الاسابيع الاخيرة في الخطاب الاسرائيلي العلني هو عكس الحجة: في الماضي شددت القيادة الاسرائيلية على اهمية الترتيبات الامنية في اتفاقات السلام المستقبلية. اما الان فهي غارقة برمتها في الرواية. فالتسوية في الغور تحتل فجأة مكانا جانبيا، مقابل الادعاءات الاسرائيلية عن عدم استعداد الفلسطينيين للوصول الى تسوية نهائية.’
‘الناطقون الاسرائيليون يعلون قد يكون أبرزهم يشددون على الرفض الفلسطيني للاعتراف باسرائيل كدولة يهودية والاعلان عن نهاية النزاع والمطالب المتبادلة. والى جانب ذلك فانهم يبرزون التحريض في وسائل الاعلام وفي جهاز التعليم الفلسطيني. وقيادة السلطة بالفعل توفر لذلك مناهج عديدة.
‘مثير مركزي للمشاكل في هذا المجال هو جبريل الرجوب، الذي كان ذات مرة رئيس جهاز الامن الوقائي في الضفة الغربية واليوم رئيس اتحاد كرة القدم الفلسطيني، الذي يبدو انه وقع في عشق مكانته الجديدة ‘كموضع الشكاوى المركزي للاسرائيليين. فقد كان الرجوب هو الذي تحدث مؤخرا، في لقاء مع لاعبي فريق كرة القدم برشلونة عن فلسطين التي ستقوم ‘من رأس الناقوة (روش هنكرا) وحتى أم الرشراش (ايلات)’. وتعرض الشكاوى الاسرائيلية عن التحريض في السلطة بتوسع في كل لقاء لمستويات طواقم العمل مع مندوبي الدول الاجنبية.
في نظرة الى الوراء، يخيل أن اسرائيل وان كانت اخطأت في عهد اتفاقات اوسلو حين قللت من معنى التحريض في التعليم الفلسطيني. ولكن التشديد على ذلك يبدو الان مصطنعا بعض الشيء، مثابة محاولة لضمان حجة غيبة اسرائيلية لحالة فشل المحادثات، ولا سيما في ضوء سيناريو اندلاع انتفاضة ثالثة في المناطق. وعندها سيكون ممكنا القاء الذنب على قيادة السلطة بانها ساهمت في الانفجار في انها لم تعمل على وقف التحريض.
السؤال الذي سيطرح قريبا هو أي مسار سيختاره الامريكيون: هل سيصرون على محاولة فرض تسوية دائمة على الطرفين، فيقترحون بدلا منها اتفاقا مرحليا، أم سيهجرون أخيرا المحادثات ويقصرون الطريق الى تصعيد متجدد في الضفة؟ فجوات المواقف بين اسرائيل والفلسطينيين في المواضيع الجوهرية القدس، الحدود، المستوطنات واللاجئين بقيت كبيرة. ولكنه اكبر وأهم منها عدم الثقة المتبادلة. ففي القدس وفي رام الله لا يؤمنون بان الطرف الاخر مستعد للتنازلات اللازمة من أجل الوصول الى تسوية دائمة.
‘والتصعيد ليس بعيدا جدا. رئيس المخابرات، يوفال ديسكن، الذي حذر منه في مؤتمر عقد على مبادرة جنيف، تلقى ردا على ذلك اهانات شخصية من مكتب نتنياهو (ووجه سلسلة من الاهانات من جانبه الى رئيس الوزراء). ولكن يجدر الانصات الى أقواله: التوتر في الضفة يبنى بالتدريج في الاشهر الأخيرة. وهو يمكنه أن ينتهي باشتعال اوسع بسبب حادثة محلية ايضا، مثلما حصل في الانتفاضة الاولى التي اندلعت هذا الاسبوع قبل 26 سنة، بعد حادثة الشاحنة في قطاع غزة.
‘وتكثر وسائل الاعلام في البلاد من ذكر عدد الخسائر في الجانب الاسرائيلي منذ ايلول: مواطن وثلاثة جنود من الجيش الاسرائيلي قتلوا على أيدي فلسطينيين (أحد الاحداث وقع في نطاق الخط الاخضر). معطى يكاد لا يكثر هو عدد القتلى العالي في الطرف الفلسطيني. فحسب معطيات منظمة ‘بتسيلم’: ‘من كانون الثاني وحتى آب من هذا العام قتل في ا لمناطق 15 فلسطينيا واسرائيلي واحد. منذ بداية ايلول وحتى هذا الاسبوع قتل 11 فلسطينيا آخر. ‘آخره هو فتى ابن 14، اطلق النار عليه في ظهره جندي في مخيم الجلزون للاجئين قرب رام الله، بعد حادثة رشق حجارة. ويعد هذا ارتفاع متزايد في عدد القتلى، يندرج في المعطيات عن كثرة احداث رشق الحجارة والزجاجات الحارقة على طرق الضفة.
ديسكن لا يتحدث من بواطن قلبه. فالانتفاضة الثالثة لا تزال خطرا ملموسا، وان كان يبدو ان معظم الجمهور الفلسطيني لا يريدها بعد في ضوء الثمن الذي دفعه في الانتفاضتين السابقتين.
‘
كبح جماح مزدوج
‘
لقد سبق لنتنياهو أن ذُكر هنا امتداحا على الحذر الشديد الذي يبديه بشكل عام على المستوى الامني، في كل الجبهات. ويمكن الرهان على أنه لو علق رؤساء وزراء سابقون، مثل ايهود اولمرت او ايهود باراك، في الواقع الذي يتصدى له نتنياهو على الحدود السورية في السنتين والنصف الاخيرة، لكان فائض نشاطهم من شأنه أن يورط اسرائيل في حرب زائدة.
ثمة قدر من الحق في الادعاءات التي يوجهها اولمرت نحو نتنياهو بشأن خطابه في مسألة النووي الايراني وبالاساس حول الازمة الزائدة التي بادر اليها مع الادارة الامريكية. ولكن عمليا نتنياهو بالذات هو رئيس الوزراء الاكثر حذرا. وحتى عندما علق نتنياهو في المعضلة بالنسبة لقطاع غزة في تشرين الثاني من العام الماضي اختار حملة عسكرية محدودة، ‘عمود السحاب’ بدلا من ‘رصاص مصبوب’ المكثفة لاولمرت، وامتنع عن التورط في نشاط بري في القطاع.
وواصلت حجارة الدومينو تترتب في صالح نتنياهو في غزة في وقت لاحق ايضا بعد الانقلاب العسكري في مصر في تموز. فحكم حماس في القطاع يعمل منذئذ تحت كبح جماح مزدوج: الردع الاسرائيلي والى جانبه السياسة المتشددة جدا للنظام الجديد في القاهرة تجاهها. وفي الكماشة التي يعيشها القطاع، فان مصر هي بلا شك القسم الاكثر ايلاما. فاغلاق الانفاق والتهديدات المتواترة والفظة للجنرالات في القاهرة تجاه حكومة حماس تنغص عيش الغزيين. والان تمنع حماس من كل مبادرة عسكرية ضد اسرائيل. غير أن هذه الجبهة من شأنها أن تتقلب في غضون زمن غير طويل. فالضغط الاقتصادي المصري على القطاع يقترب من المستوى الذي لا يحتمل. فقد أثار اغلاق الانفاق ازمة وقود خطيرة. والخلاف الاقتصادي بين حماس والسلطة الفلسطينية في رام الله يمنع حاليا حلولا غير مباشرة تدفع باتجاه القطاع بالوقود بثمن زهيد يقل عن 7 شيكل للتر، التي هي كلفة الوقود من اسرائيل.
يشل النقص في الوقود محطات توليد الطاقة في القطاع ويملي انقطاعات كهربائية من 12 18 ساعة في اليوم. ولا يدور الحديث فقط عن المصاعد التي لا تعمل في المباني متعددة الطوابق. فالمستشفيات تتضرر، توريد المياه يتم على نحو متقطع فقط ووسائل تطهير النفايات لا يمكنها أن تعالج المجاري التي تفيض في مخيمات اللاجئين. ويضاف الى ذلك القرار الاسرائيلي بوقف ادخال مواد البناء الى القطاع، كعقاب على الكشف عن نفق حماس قرب كيبوتس عين هشلوشا. وحسبوا في الجيش فوجدوا ان لحفر النفق بطول 1.700 متر، والذي يستهدف الاعداد ‘لعملية رف’ مستقبلية، استخدمت حماس 700 طن من الاسمنت.
‘وقرر وزير الدفاع يعلون هذا الاسبوع سحب بعض من القيود. فقد اتصل الامين العام للامم المتحدة بان كي مون بيعلون وحذره من آثار الحظر على سوق البناء في غزة ومن الخوف على ان يؤدي وقف مواد البناء الى اخراج عشرات الاف العمال من دائرة العمل. واستجاب يعلون وسمح بدخول الاسمنت الى مشاريع البناء التي باشراف الامم المتحدة بعد أن ادرج بان بيان شجب لنفق حماس في تقريره الدوري. ولكن المستويات المهنية التي تحت الوزير لا تزال قلقة من امكانية أن تتحول غزة مرة اخرى الى برميل متفجر، نهايته أن يشتعل. فالقطاع لا يزال لا توجد الان كارثة انسانية، ولكن انهيار الخدمات التي يقدمها الحكم للمواطن بارز والازمة الاقتصادية للسكان تحتدم. من الصعب ان نعرف متى تقرر حماس حل اللجام عن الفصائل المتطرفة التي تسعى الى استئناف اطلاقا لنار على اسرائيل او اتخاذ نهج آخر مثل محاولة موجهة لاشعال الضفة الغربية، الخاضعة لحكم خصمها، السلطة الفلسطينية.
السؤال الذي سيطرح قريبا هو أي مسار سيختاره الامريكيون. هل سيصرون على محاولة فرض تسوية دائمة على الطرفين، ام سيقترحون اتفاقا مرحليا ام سيهجرون نهائيا المحادثات فيقصرون الطريق نحو تصعيد متجدد في الضفة؟.