شارون يرسم لإسرائيل استراتيجية الأمن النووي

بقلم: 

لم تعرف اسرائيل، في شتى مراحل تكوينها، شخصية سياسية أو عسكرية استطاعت أن تشغل الرأي العام طوال ستين سنة، مثلما شغلته مغامرات ارييل شارون. صحيح أنه كان المنافس الأول لموشيه دايان في استخدام أساليب غير انسانية ضد الفلسطينيين... ولكن الصحيح أيضاً أن كليهما شرب من مَعين عصابة "الهاغانا" بهدف تحقيق حلم تيودور هيرتزل، مؤسس الصهيونية.

ذكر دايان أن عينه اليسرى أطفأتها رصاصة عربي أثناء تعرضه لكمين قرب حيفا سنة 1941... كذلك كان شارون يتباهى بالعصبة التي تلف جبهته بعد أن أصيب في حرب 1973 بشظية في رأسه. ورفض في حينه تلقي العلاج ليواصل معركة عبور قناة السويس.
يروي دايان في مذكراته أنه كرس نشاطه العسكري قبل سنة 1947 من أجل تسهيل عمليات تسلل المستوطنين القادمين من روسيا واوكرانيا والاوروبّتين، الشرقية والغربية، في حين ركز شارون ممارساته على تذليل العقبات التي تحول دون تثبيت حدود آمنة لدولة اليهود. لهذا قرر الانسحاب من غزة لأن مستوطناتها القليلة لا تستحق التضحيات... ولأن صديقه شمعون بيريس نصحه بضرورة فصل اسرائيل عن القنبلة البشرية الموقوتة، غزة.
ومن الأحداث التي سجلها شارون في مذكراته كفاجعة عائلية، حادث وفاة نجله الأكبر غور (11 سنة). وقد حدث ذلك عقب احتفاله بالانتصار العسكري المدوي الذي شارك في صنعه خلال حرب 1967. ولكن تلك الفرحة لم تكتمل بدليل أن نجله غافل الحضور، وراح يلعب برشاش والده عندما انطلقت رصاصة من المخزن لتصيبه في الصدر.
وحمل شارون ابنه، وركض الى أقرب مستوصف لعل المعالجة تنقذ حياته. وكتب عن تلك اللحظات العصيبة في مذكراته يقول: "لقد رأيت في حياتي أنهاراً من الدم، فلم أرتعب أو أجزع... بيد أن الدم الذي صبغ يدي من جرح غور، حفر صورة مؤلمة في ذاكرتي عجزتُ عن محوها".
بعد أقل من ست سنوات، توفيت زوجته الأولى والدة "غور" بحادث سيارة بينما كانت متوجهة الى المستشفى التي تعمل فيها. وبما أن إنشغال شارون بقضايا الأمن والقتال حرمه من نعمة الحب، لذلك وجد من الملائم أن يتزوج شقيقة زوجته المتوفاة. وفي سنة ألفين ماتت زوجته الثانية ليلي بمرض السرطان. ثم أصيب هو بعد ست سنوات بجلطة دماغية أدخلته في غيبوبة طويلة.
حرص شارون في مذكراته على استعادة وصية والدته فيرا التي هربت من روسيا فور اندلاع الثورة الشيوعية. وهو يذكر أنها أهدته خنجراً في عيد ميلاده الـ 13. ولما سألها عن الغاية من اختيار هذه الهدية، قادته الى آخر الكيبوتز، شمال تل أبيب، ثم أشارت الى القرى العربية وقالت: "هناك يسكن الذين يخططون لقتلك وقتلنا جميعاً. لذلك عليك أن تبادرهم فوراً باستخدام الخنجر قبل أن ينجحوا في القضاء عليك".
ويعترف شارون إن وصية والدته شكلت في حياته قاعدة أساسية تؤكد أهمية استعمال سلاح القتل بدلاً من سلاح الحوار والسلام.
وبحسب هذه المقاييس استخدم شارون وزملاؤه وحشية الانتقام الذي لا يعرف الحدود. وقد تمت تصفية قادة منظمة التحرير الفلسطينية بطريقة مشابهة للعقوبة القصوى. ومع أن الصحف كشفت عن الكثير من الجرائم التي تبناها شارون في حياته، إلا أنها أهملت دوره الأساسي في تدمير مفاعل تموز العراقي (7 حزيران 1981). كما أهملت التوصية التي وضعها شارون كنهج استراتيجي ملزِم لمنع أي دولة شرق أوسطية من امتلاك السلاح النووي الذي تحتفظ اسرائيل بمئتي رأس منه.
قبل اتخاذ قرار نهائي بضرورة تدمير المفاعل النووي العراقي، طلب رئيس الوزراء مناحيم بيغن، من المجلس الأمني المصغر، إطلاعه على المخاطر المتأتية عن هذا الانجاز الاستراتيجي الخارق. وقد وضع المجلس على مكتبه المعلومات التالية:
أولاً - لعب العراق دوراً عسكرياً مهماً خلال الحروب الثلاث التي خاضتها اسرائيل مع الدول العربية. والدليل أن بغداد وافقت على مقررات الجامعة العربية لشن معارك دفاعية في حرب 1948 وحرب 1967. كما أرسلت قواتها الى الجبهة الشرقية لمساندة السوريين في حرب 1973. وبخلاف سائر الدول العربية، فان العراق رفض الانصياع لأي قرار يتعلق بوقف إطلاق النار أو الموافقة على هدنة موقتة. لهذا تعتبر بغداد موقفها الثابت إعلاناً لحل حرب دائمة من الناحيتين العملية والقانونية.
ثانياً - بسبب تمويل العراق مختلف المجموعات "الارهابية" الفلسطينية، فإن اسرائيل تخشى انتقال السلاح الفتاك الى منظمات الرفض. خصوصاً ان الولايات المتحدة صنفت العراق دولة غير ملتزمة بشرعية القرارات الدولية. لهذا السبب وضعتها على قائمة الدول التي تخضع للحظر والمراقبة. كذلك منعت سنة 1975 شركة بوينغ 747 من بيعها طائرات سفر.
ثالثاً - منذ الانقلاب الدموي الذي قام به عبدالكريم قاسم سنة 1958 والنظام العراقي يهدد جاراته بقوة التطرف والسلبية. وعندما إستتب الحكم لصدام حسين نهاية سنة 1970 باشر في شن حملات التهديد ضد "حزب البعث" في سوريا، وضد أكراد كردستان. وفي خريف 1980 غزا ايران، الأمر الذي دفع طهران الى شن غارة غير ناجحة على المفاعل العراقي في 30 ايلول 1980. في ضوء هذه الخلفية السياسية، عقد مناحيم بيغن جلسة استثنائية لأعضاء حكومته، وذلك بغرض البحث عن الخيارات المتاحة. وقد طلب من رئاسة الأركان وقادة "الموساد" الاشتراك في المناقشات. وبعد جدل طويل حول مستقبل مفاعل "تموز" العراقي، حسم ارييل شارون، وزير الزراعة في حينه، النقاش بالقاء كلمة قصيرة قال فيها: "لو ان الاستخبارات البريطانية نجحت سنة 1939 في اغتيال ادولف هتلر، لكانت الأسرة الدولية حافظت على سلامة ملايين البشر ممن حصدتهم حرب النازيين وحلفائهم. ونحن، في هذه المقارنة، نطمح الى تعطيل سلاح الابادة الذي يهدد صدام حسين باستخدامه ضد اسرائيل".
وتوقف شارون فجأة ليأخذ في كلمته موقف المشكك ويكمل قائلاً: من المؤكد أن الدول قد تتساءل عن أسباب احتفاظنا بمفاعل "ديمونا"، في حين نخطط لتدمير مفاعل دولة أخرى. حسناً... سمعت الجواب من ديفيد بن غوريون الذي أخبرني أنه علق خريطة الشرق الأوسط في غرفة نومه. وكانت هواجس الوضع الأمني لدولة اسرائيل تؤرقه دائماً. وكثيراً ما سُمِع يردد أمام صديقه اسحق نافون عبارات القلق الدائم: ان مساحة اسرائيل لا تزيد على عشرة آلاف و480 ميلاً مربعاً. بينما تزيد مساحة العراق على 280 ألف ميل مربع. لذلك قرر امتلاك القنبلة الذرية بمساعدة فرنسا وايطاليا، كنوع من التعويض الأمني لتعديل فارق توازن المساحات. وقد اشترط في استراتيجية الدفاع منع أي دولة شرق أوسطية من امتلاك السلاح النووي.
وهكذا اتُخِذ قرار تدمير مفاعل تموز! وبعد ظهر السابع من حزيران 1981 التقط القمر الاصطناعي الاميركي إشارات تؤكد وجود أجسام سريعة أشبه ما يكون بالأجسام التي تظهر في فيلم "حرب النجوم". وكانت تلك الأجسام مطلية باللون الأصفر كنوع من التمويه أثناء مرورها فوق الصحاري. وفجأة، ظهرت على شاشات التلفزيون الخارجي في البنتاغون صورة مضخمة لسرب مؤلف من ست عشرة طائرة حربية من نوع (اف-16) تتقدمها طائرة من نوع (اف-15).
وفي تمام الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر، أطلت مدخنة المفاعل النووي العراقي الى جانب القبة المطلية باللونين الأخضر والأبيض بغرض التضليل وسط الأشجار السامقة. ولما استدارت الطائرة اف-15 فوق المبنى، كان ذلك بمثابة الاشارة الى تفريغ القنابل داخل المدخنة. وبما أن الوقت المحدد للعملية لا يستغرق أكثر من دقيقتين فوق بغداد، لذلك أفرغ الطيارون الـ 16 حمولتهم من القنابل في المدخنة الضخمة... ثم تواروا بطائراتهم عن الأنظار.
قائد تلك العملية اختارته "الموساد" بسبب خبرته الطويلة في سلاح الجو الاسرائيلي. وكان هو أول مَنْ اتصل بالقيادة في "تل ابيب" ليعلمها بنجاح العملية. وعلى الفور إتصل وزير الخارجية بالادارة الاميركية ليبلغها باختصار شديد عن تدمير المفاعل النووي العراقي.
الصحف الفرنسية في حينه قللت من أهمية العملية، ومن كفاءة الطيارين الاسرائيليين، مدعية أن جاسوساً أجنبياً، كان يعمل في المصنع، هو الذي وضع متفجرات ممغنطة استُخدِمَت لجذب قنابل الطائرات الى مركز معين.
المهم، ان اسرائيل قضت على فكرة القنبلة النووية العربية... في حين أكمل جورج بوش الابن إزالة فكرة استمرار "حزب البعث" في حكم العراق. وقد ساعد هذان العاملان على نشر الفوضى، وشرذمة العراق الموحد.
أثناء تشييع شارون، يوم الاثنين الماضي، ألقى نائب الرئيس الاميركي جو بايدن كلمة تحدث فيها عن الارتباط الوثيق بين الدولتين، مؤكداً ان واشنطن ستظل وفية لتعهداتها. من جهته أشاد رئيس الحكومة الاسرائيلية نتنياهو بـ "المقاتل" شارون، متعهداً أمام الجمهور بالحفاظ على نهجه حيال أمن اسرائيل. وأكد في خطابه ان بلاده ستطبق كل الوسائل الممكنة لمنع ايران من امتلاك السلاح النووي. وكان بهذا التلميح يشير الى خيار الحرب ضد ايران، سواء شاركته الولايات المتحدة، أم رفضت مشاركته.
وبما أن الرئيس باراك اوباما يعمل جاهداً لانهاء ولايته الثانية من دون حروب، فإن القيادة الايرانية ستحترم مشيئته وتؤجل الاعلان عن صنع قنبلة نووية الى حين انتخاب رئيس اميركي جديد. ومعنى هذا ان ايران تكون قد استفادت من الانفتاح السياسي على واشنطن، بهدف تخفيض العقوبات وتليين مواقف الكونغرس، واحياء عقودها التجارية السابقة مع الدول الاوروبية والعربية.
 

المصدر: 
النهار