إسرائيل وخطر المقاطعة الدولية
يفترض أن تصل المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل التي يرعاها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إلى نهايتها مع متم شهر أبريل المقبل، لكن لا أحد من الأطراف المنخرطة في المباحثات، ولا حتى من المراقبين الخارجيين الذين يتابعون باهتمام ما ستتمخض عنه الجهود الدبلوماسية الأميركية، يتوقع الكثير.
فالمنطلقات الأولى للمفاوضات لم تنبنِ على أسس صلبة بسبب أجواء عدم الثقة العميقة التي تخيم على الطرفين، بالإضافة إلى التجارب السابقة التي منيت بالفشل والإخفاق، لذا لم يدخل الفلسطينيون العملية التفاوضية إلا لرغبتهم دفع أي تهمة عنهم بإجهاض المفاوضات ورفض الانخراط في عملية السلام، لا سيما وأن مثال قمة كامب ديفيد في صيف عام 2000 عندما رفض الراحل ياسر عرفات التوقيع على اتفاق مع إسرائيل برعاية إدارة كلينتون، ما زال قائماً، فحينها حُملت المسؤولية للجانب الفلسطيني وعوقب دولياً بعزل السلطة الفلسطينية وتهميشها.
أما الإسرائيليون فلهم أسبابهم الخاصة للجلوس إلى طاولة المفاوضات، إذ كل ما يريده رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، كسب المزيد من الوقت، فهو يفاوض لا للوصول إلى اتفاق مع الفلسطينيين، بل لتفادي التوقيع على اتفاق من أي نوع، وخاصة أنه يرى بأن ميزان القوى يصب في صالح إسرائيل، ولا داعي لتقديم تنازلات للطرف الضعيف.
ولعل هذا ما يفسر تزامن المفاوضات مع إطلاق الحكومة الإسرائيلية لخطط بناء المستوطنات داخل الأراضي المحتلة، ليستمر بذلك ابتلاع الدولة الفلسطينية التي يجري عليها التفاوض. وإذا كان نتنياهو يتحرج عن إعلان «إسرائيل الكبرى»، فذلك لأن الأمر يجري فعلياً على الأرض، وكل يوم تتوسع فيه إسرائيل على حساب فلسطين، أو ما تبقى منها بعد حدود 1967.
وللوهلة الأولى تبدو استراتيجية نتنياهو رابحة بالنظر إلى انتصاره السابق على خصومه، وفي المقدمة منهم الرئيس أوباما نفسه الذي سعى في ولايته الأولى إلى مواجهة الخطر الاستيطاني والضغط على الحكومة الإسرائيلية، إلا أنه مُني بهزيمة منكرة واضطر إلى التراجع بعدما تجندت ضده جماعات الضغط في واشنطن المؤيدة لإسرائيل ومعها الكونجرس الداعم لها أيضاً، وما زال نتنياهو يعول كثيراً على المشرعين الأميركيين في الكونجرس بعدما تحولوا إلى مروجين لسياسة الليكود ومؤيدين لها، هذا الأمر يزيد من احتمالات فشل المفاوضات الجارية، فإذا كان جزء من المؤسسة الأميركية لا يخفي مناصرته لإسرائيل، وهو مكون نافذ ويساهم بشكل أساسي في صنع السياسة الأميركية، فمَ الذي يدفع الحكومة الإسرائيلية لإبداء المرونة والتنازل للفلسطينيين؟
هذا في الوقت الذي تحول فيه الدور الأوروبي إلى مجرد ممول للسلطة الفلسطينية بسبب انقساماته الداخلية وعجزه عن بلورة سياسية خارجية موحدة تعكس رؤية ومواقف مشتركة تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لكن هذا الركون الإسرائيلي إلى الدعم الغربي، وتحديداً الأميركي، لن يدوم طويلًا بالنظر إلى التحولات الاستراتيجية التي يشهدها العالم وانعكاساتها على موازين القوى التي لن تبقى على حالها، بل ستعكس عالماً متعدد الأقطاب، فقد بات واضحاً اليوم أن الدول الغربية في تراجع على الصعيد العالمي ليس لأخطاء داخلية واختلالات ذاتية بقدر ما هي ناتجة عن صعود قوى أخرى على الساحة الدولية، وإذا كان العالم لم ينقلب بعد إلى متعدد الأقطاب، إلا أنه آخذ في التحول.
لكن ما ينطوي عليه هذا المسار لا يصب بالضرورة في مصلحة إسرائيل، فالدول الصاعدة على الساحة الدولية باقتصادها وسياستها الخارجية الأكثر حضوراً مثل البرازيل وجنوب أفريقيا والصين ودول الخليج العربي لا تحمل نفس المواقف الإيجابية تجاه الدولة العبرية كما يفعل الغرب، بل في الكثير من الأحيان توجه انتقادات لسياساتها تجاه الفلسطينيين وتصوت ضدها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفيما كان الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل يوفر لها الحماية والغطاء السياسي لانتهاك القانون الدولي دون التعرض للعقاب، فإن التحولات الجارية على الصعيد الجيوسياسي وانعكاساته على موازين القوى العالمية من شأنه وقف هذه الحماية ووضع حد لتجاوزاتها المنفلتة.
وبالطبع سيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن يتجسد هذا التحول على أرض الواقع، وينعكس تحديداً على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بيد أن التغيرات العالمية لا تقتصر فقط على النواحي الاستراتيجية المرتبطة بالدول والحكومات، بل تمتد إلى التحول الطارئ في الرأي العام الدولي.
فمعروف اليوم الدور الذي بات يلعبه المجتمع المدني وتشكيلاته الأهلية في الضغط على حكوماته لتبني سياسة خارجية بعينها، بحيث يمكن القول إن المجتمع المدني بمنظماته المختلفة صار اليوم شريكاً أساسياً في صناعة القرار السياسي إنْ داخلياً، أو حتى خارجياً، وأصبح المواطنون يتجندون دفاعاً عن قضايا يعتبرونها عادلة ومنصفة، وما على الحكومات والسياسيين سوى الإصغاء والتفاعل مع مطالبه، ومن تلك المواضيع مسألة استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي ما عادت مستساغة للرأي العام الدولي الذي أصبح يناضل من أجل رفع الظلم الواقع على الفلسطينيين.
ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى حملات المقاطعة التجارية والاقتصادية التي تقودها منظمات أوروبية تستهدف البضائع والخدمات الإسرائيلية التي تتخذ من الأراضي المحتلة منشأ لها، أو التي تنتج داخل المستوطنات في الضفة الغربية. ولعل ذلك ما دفع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، للتصريح مؤخراً أن الوضع القائم في الأراضي الفلسطينية لم يعد قابلاً للاستمرار، وأن إسرائيل ستدفع الثمن من اقتصادها بسبب دعوات المقاطعة التي بدأت تتصاعد في أوروبا على وجه التحديد. ومع أن الساسة الإسرائيليين هاجموا «كيري» وعابوا عليه تصريحاته تلك، إلا أنها لا تختلف كثيراً عما قاله وزير المالية الإسرائيلي، «يائير لابيد»، الذي عبر قبل فترة عن قلقه من التأثيرات السلبية لدعوات المقاطعة على الاقتصاد الإسرائيلي.
واللافت أن الأصوات المطالبة بمقاطعة إسرائيل وعزلها تعيد إلى الذاكرة الأصوات التي ارتفعت في وجه نظام الأبرتهايد بجنوب أفريقيا والتي من شأنها إضعاف إسرائيل من الناحية الأخلاقية والاقتصادية، ولئن كانت التحولات الجيواستراتيجية الكبرى المرتبطة بالدول والحكومات تستغرق سنوات قبل أن تتبلور نتائجها، فإن تحولات الرأي العام في المقابل تأتي سريعاً، وهو ما يتعين على القادة الإسرائيليين التفكير في تداعياته قبل فوات الأوان.