تأتأة "أدونيس" وفصاحة "ديك الجن"

ليس أطرف من أن يختلف مُلحدان، على الموقف من أية ثورة، ومن الدين والمسجد، ومن علاقة العقيدة الإيمانية بالجماهير. وربما يصح حيال هكذا اختلاف، أن يكون لدينا تصنيفان، أولاهما المُلحد خفيف الظل والوطني، بينما الثاني هو الجاحد العنيد، الذي يغلّف عفونته الطائفية، بقشرة "سوليفان" لامعة، ظاهرها الحداثة والتعالي على المواريث، أما باطنها فهو الولاء للجذور الاجتماعية بمضمونها الديني حصراً!

صادق جلال العظم، كاتب سوري يصفونه بـ "المفكر".هو ملحد تجرأ منذ أكثر من أربعين سنة، على إصدار كتابه الشهير "نقد الفكر الديني". اليوم يخاصم صادق العظم، الشاعر السوري علي أحمد سعيد، الذي أطلق على نفسه اسم "الآلهة" الأسطورية الفينيقية "أدونيس". وموضوع الخصومة، يتعلق بالموقف من الثورة السورية. الأول معها، والثاني ضدها!

ينتمي كلٌ من المُلحِديْن، الى طائفة مختلفة من حيث الولادة والجذور الاجتماعية. الأول سُني والثاني نُصيري (علوي) من فرقة أقرب الى الشيعة الإثنيْ عشرية. لم تفلح الحداثة ولا إنكار الدين، في الجمع بينهما، فقد صدرت الإشارات من الوعي الباطني لكل منهما، في اتجاهين متعاكسيْن. يقول الأول عن الثاني، مسجلاً نقطة لصالحه، إن "أدونيس" لم ينطق بكلمة في التسعينيات، ضد فتوى إهدار دم سلمان رشدي، لأن تلك الفتوى صدرت عن الخميني. في ذلك المثال، خان الشاعر حداثيته وطوى عداءه للدين، وهادن الثورة الإيرانية، ولم يندد بالحسينات، مثلما يهجو اليوم ثورة شعبه لأنها ـ حسب رؤيته ورأيه ـ انطلقت من المساجد.ويرى العظم، أن ما يقوله خصمه، في حق ثورة شعبه، هو نتاج استفاقة واضحة لنصيرية الشاعر أو علوّيته!

ومثلما لم يدافع "أدونيس" عما يراه صادق جلال العظم، حق الحياة والاستمرار في الكتابة لسلمان رشدي، فإنه اليوم يتجاهل حق شعبه في الحياة المجردة أولاً، وفي الكرامة والحرية تالياً! موقف "أدونيس" من الثورة السورية، يصفه صادق جلال العظم، بـ "التأتأة" و"الفأفأة" وهو الطليق الفصيح، مؤسس مدرسة التجريب في الشعر، بما يسمو عن الاستخدام التقليدي، محلقاً في فضاءات التجريد الذهني، والاحتفاء المفرط باللغة، وتغليب الفكري على العاطفي والغنائي في ما يكتبه من قصائد، أي الشعر الشبيه بالكلام "التقدمي جداً" الذي وصفه البدوي البسيط بعد أن استمع الى محاضرة مقعّرة فقال "هرج زين" وعندما سُئل: ماذا فهمت من هذا الهرج؟ أجاب:" زين كثير، ما ينفهم"! الشاعر والناقد السوري الثمانيني "أدونيس" يهاجم فرنسا ويتهمها بخيانة مبادىء ثورتها الفرنسية (1789 ـ 1799) وكأنه لا يعرف أن الأسباب الحاسمة لتلك الثورة، كانت تتلخص في الاستبداد، وفي حكم الفرد، وفي امتيازات الحاشية التي كان يمثلها النبلاء. وكأنه يجهل أن الحق في المساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هي التي كان يتوخاها الفرنسيون في الأمس ويتطلبها السوريون اليوم، وأن سياسة الاغتيالات التي اتبعها القصر (لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت) وامتهنها النظام السوري على الدوام، هي التي استثارت الناس، وبخاصة ـ في فرنسا ـ بعد اغتيال وزير المالية المحبوب، الذي حاول أن يقتطع للشعب بعض قوته، خصماً من بذخ الحاكمين.

فأية مبادىء هذه التي تخونها فرنسا في الموقف اللفظي المؤيد لثورة السوريين؟! ولفرط التغابي في طرح "أدونيس" حاول أن يؤسس موقفه، على دور يفترضه للمساجد في سورية، بينما هي ليست إلا دور عبادة، فتعمد مساواة وضعها ودورها، بالأرستقراطية الدينية في فرنسا في القرن الثامن عشر، عندما كانت الكنيسة تحسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية لصالحها، وتشارك في إفقار الشعب. هنا، يتراجع التحليل المادي عند الملحد، ويتقدم العداء للدين ممثلاً في طائفة أغلبية السوريين، انحيازاً لطائفة الأقلية التي ظلت الشرائح المتنفذة منها، لسنوات طويلة، تستحوذ على الحكم، وعلى مقدرات البلاد وتظلم العباد.

فمن الذي يخون المبادىء في هذا السياق؟! الكاتب الفلسطيني الماركسي سلامة كيلة، الذي عايش الثورة السورية من داخلها، أكد على مضمونها الطبقي والاجتماعي العام.

لكن الذي يتأتيء من باريس يُصر على أنها ثورة جوامع، ولذلك فهي مرفوضة. ولماذا يرفض الملحد، ثورة اجتماعية لمجرد أن الجوامع احتضنت شبابها؟! بل لماذا هذه الكراهية للجوامع، حتى وهي تؤدي دوراً ريادياً على طريق الحرية لكل السوريين؟! قبل نحو عشرين عاماً، طرد النظام السوري "أدونيس" من اتحاد الكتّاب، بسبب رفضه الانضواء تحت عباءته.

اتهمه الأسديون بالتطبيع مع إسرائيل. كان ذلك الخلاف ترفاً في أوقات رخاء النظام. لكن اجتماع الشمل، جاء على أساس طائفي. ولكون التنظير لا يستقيم، عندما يتطلب الأمر تبرير المجازر؛ بدا كلام "أدونيس" الفصيح تأتأة بلا لون ولا طعم ولا رائحة! في هذه المناسبة، نسجل احترامنا للشاعر اللبناني الجنوبي الشيعي المبدع شوقي بزيع، ونتمنى له السلامة من أيدي الغادرين. فقد أهدى مدينة حمص وثوارها، قصيدته البديعة:"ليلة ديك الجن الأخيرة" قائلاً: أهدي قصيدتي، لشعب المدينة التي هي مسرح قصة ديك الجن.

متضامناً بطريقتي مع أهالي حمص الذين ينتفضون الآن من أجل حريتهم وكرامتهم. إن فصاحة ديك شوقي بزيع، تبزُّ تقعيرات "الآلهة" الأسطورية!