الأوطان مقادير

كأنها الأرض اليباب، في ملخص الأحوال النباتية، الذي جاء في نشرة الأمس، لراصدها المثابر، صديقي حافظ البرغوثي. ففي فلسطين، كان شتاؤنا شحيح الأمطار، لديه منها الآن، الوفير والغزير، صيفاً، في الهند الشاسعة المفعمة بالألغاز. لكن ما تجود به الحقول وبساتين بلادنا، بمطر قليل، يفتح باباً للأمل وللبقاء على هذه الأرض، ولا شيء ملغزاً فيها، إن كان فيما يخص ثمرة المصالحة أو حركة الأفاعي أو ضآلة ثمار الصبّار. فالفلسطينيون أعدوا أنفسهم لكل أنواع المحل والجفاء، فلا يستغلق عليهم تعليل شيء ولا أمر، مثلما استغلق على الهنود تعليل الارتفاع الجنوني لأسعار الثمار من كل زرع، على الرغم من المياه الإغراقية، والخضرة والوجه الباسم. في الهند ليس بمقدورك وأنت الأفضل حالاً من فقرائها، أن تتناول من الفاكهة صيفاً، سوى ثمرة المانجو في موسمها، وحتى هذه فإن أسعارها تستعصي على الطبقة المتوسطة، لأن الكيلوغرام الواحد منها، لا يقل سعره عن دولار عندما تمتلئ بها الأسواق. والسعر مضاعف في أوقات تراجع المقادير. لكن المأساة تكمن في أسعار الخس والبقدونس والجرادة الخضراء والخيار والفلفل الحلو والتفاح.

وربما لن يصدق الكثيرون، أن الخسة الصغيرة في الهند تُباع بثلاثة دولارات، وكيلو الخيار بما يعادل دولاراً وخمسين سنتاً. ومحسوبكم يحب السَلطة بزبدية الفخار، وقد استثارته في المرة الأولى، طريقة بائع الخضار، وهو يزن فسيلة من الجرادة الخضراء وأخرى من البقدونس، كأنما هو يزن الزعفران.

غرسنا بعض بذور هذه المباهج الخضراء، في زاوية من فناء المكان وتدبرنا أمرنا. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن الهنود متفائلون. يتكيفون مع الأحوال، ولا يرهقون أنفسهم بأسئلة المصير. فالأوطان مقادير، وطالما أن وطنهم متاح، مستقل وديمقراطي وما زال ينمو، فلا تقلقهم إشكالية التعارض بين وفرة المطر مع خصوبة التربة من جهة، وجفاء الأسواق وعبوسها في وجوه المعوزين، من جهة أخرى! الراصد النباتي أبو منصور، يُشخّص حال الأرض والزرع بمهارة العارف الذي عاش حياته بين شتلة مبشرة وأخرى كئيبة. تنسحب الحال البائسة للزرع على حال السياسة والاجتماع.

هكذا الحياة، يوم للجدب وآخر للحصاد. لكن الأوطان لا تُستبدل، ولا يرى عشاقها ما هو أكثر فتنة واتساعاً منها. لقد أمضيت فجر أمس، في طائرة تنقلني من دلهي الى موسكو في زمن ست ساعات. كان منحنى خط الرحلة، يقطع سماء باكستان وأفغانسان، ميمماً شطر أوروبا، عبر آسيا الوسطى. عند الهبوط، في التاسعة والنصف صباحاً، بدت سماء روسيا صافية وأرضها في ذروة اخضرارها، فيما الأنهار والبحيرات تتبدى لامعة من فوق. محسوبكم كان يتأمل طوال الوقت. قرأت ثلاث صحف روسية بالإنجليزية، وأدركت كم هو مسكون هذا العالم بهموم من كل لون، غير أن صمود الشعوب ومجاهدتها لمصاعب الحياة، هو الخيار الوحيد، طالما أن الأوطان مقادير!