قيادة سياسة ومال

بقلم: 

تم يوم الاثنين الماضي ٢٠١٦/١٠/١٠ الإفراج عن النائب السابق في الكنيست سعيد نفاع بعد أن قضى عامًا كاملًا في سجون إسرائيل.

كنت في طريقي إلى سجن جلبوع القريب من تلك "الضيعة" التي كان "ينام في أفيائها نيسان"، فلقد تواعدنا، حفنة من الأصدقاء وأعضاء في اتحاد كتاب الكرمل، الذي يشغل سعيد منصب أمينه العام، أن نلتقي على باب السجن كي نكون شركاء معه في لحظة الفرح وانتصار الحياة.

الطريق من القدس إلى بيسان طويلة ومملّة. أحاول خلاله أن أقتل الرتابة لكنها كانت أقوى حتى من رومانسية عبد الوهاب وهو يفتش بخجل عمن يهدي حبيبته وردة حمراء. أنظر إلى الأفق، لم يكن بعيدًا فدائمًا كان يسير بمحاذاة النهر، لم أجده. في الجو غبار والرمادي كان طاغيًا. تملكني حزن.

 أمامي، من شدة القيظ، كانت ترتسم في الفضاء أشكال كتلك التي تتساقط من لوحات "دالي" البديعة. بعضها بدا كوجوه مشوّهة وغير مكتملة، وأخرى كانت تشبه الأجساد وهي تسير بتثاقل كالجمال المنهكة، صدورها كانت متجهة نحو الشرق ورؤوسها تنظر نحوي كأنها قطعت وركبت معاكسة. كانت تحدق بي بنظرات يأس أو عتب. خفت من هذا المشهد الغريب وانتابني شعور بالضيق مع أنني لست من المتطيرين المرضى.

حاولت أن أستدعي تفاصيل زيارتي له في السجن حين جاءني أسيرًا ومبتسمًا كان يشع حيويةً. جلس قبالتي بهدوء، بياض شعره كان طبيعيًا وذقنه كث ومهذب. كان متأنيًا بحديثه مجيدًًا بانتقاء المواضيع. تحدث بوقار لم يخدشه لباس السجن البني ولا فاصل الزجاج الذي وقف أصمّ بيننا.

شعر أنني خفت حين لاحظت أنه خسر عشرين كيلوغرامًا من وزنه، فطمأنني بشقاوة شاب: إنها الرشاقة المطلوبة يا أخي فأنا أمارس الرياضة بصرامة وبمنهجية. في السجن إما أن يذيبك اليأس والكسل وإما أن تصير كالسرو عنيدًا وممشوقًا، تلاعب الغيم وتحاول أن تطير مع البواشق نحو بلاد أحلامك؛ لا وقت عندنا للملل، فأنا أقرأ وأقرأ وأكتب وألعب الرياضة وبالنهارات أحلم كي تصير لياليّ نجومًا والغد فرسي المشتهاة.

جالسته ساعة. تحدثنا عن الخاص والعام وعن الوفاء والجحود وعن أشياء صغيرة وكبيرة. لقد كان متصالحًا مع ذاته وراضيًا عن دفعه ثمن قناعاته واختياراته، فهو، في البداية والنهاية قد زار سوريا كقائد لحزب آمن بالتواصل بين الأهل والأشقاء، لكن حزبه تخلى عنه، فكان عليه أن يواجه مصيره إما كابن للحياة والكرامة وإما هاربًا ذليلًا ومهزومًا. اختار كما يجب أن يختار قيادي حر في حزب وطني، وكما يجب أن تختار النخبة القدوة حين يبطش الظلم وتخون الليالي ويفر السمار: أن يكون نقطة نور تنساب على صفحة الأيام.

وأنا على باب غرفة الزيارة أخبرته أنني ما زلت أحتفظ بما كتبه لي عندما قرأ مقالتي السابقة عنه فقال: نعم ومازلت أقرأها حتى الدموع.

أخبار التاسعة صباحًا تتحدث في معظم اللغات عن استدعاء النائبين التجمعيين جمال زحالقة وحنين زعبي للتحقيق معهما في وحدة التحقيقات الخاصة "لاهاف" فيما نسب إلى بعض الناشطين وكوادر حزب التجمع من شبهات حول تمويل الحزب في حملته الانتخابية الأخيرة عام ٢٠١٣. بعض المحطات العربية تعيد قراءة بيان لجنة المتابعة العربية العليا والتي نشرته على صفحتها الرسمية وفيه تهيب بالمواطنين لحضور التظاهرة الكبرى أمام مكاتب الشرطة في اللد، وشعار تلك المظاهرة: موحدون ضد الملاحقة السياسية وموحدون في محاربة العنف. ويؤكد البيان، كذلك، رفض سياسة الشرطة التي تتخاذل في محاربة العنف والجريمة بينما تلاحق العمل السياسي بكل ما أوتيت من قوة.

لولا عدم إيماني بنظرية المؤامرة ودورها المزمن في التسبب وإدارة أزماتنا المحلية لافترضت أن يدها الخفيّة خططت كي يكون يوم الإفراج عن النائب السابق سعيد نفاع هو ذاته يوم التحقيق مع النائبين جمال زحالقة وحنين زعبي في مكاتب وحدة التحقيقات الخاصة في اللد. لا سيما إذا استذكرنا كيف كانت بداية قصة أسر سعيد نفاع لشعرنا كيف تستعيد المفارقات، بعد انقضاء عام كامل، غرابتها وتكتسب طعمًا فريدًا يصح أن يدعى عند عامة الناس مجرد صدفة أو قد يكون نقرة على صفيح "نواقيس التاريخ" عند بعض المجربين وأولئك الذين لدغوًا من حبائل إسرائيل وحبالها.

لقد أمضى سعيد نفاع عامًا كاملًا في السجن الإسرائيلي، وذلك بعد إدانته في محاكم إسرائيل بزيارة دولة معادية، هي سوريا، والتخابر مع عميل أجنبي هو طلال ناجي، حين قام ووفد مؤلف من عشرات المشايخ المعروفين والمواطنين العرب بزيارة إلى سوريا في إطار ما سمي في حينه زيارات التواصل مع الأهل والأشقاء. لقد سبق قرار الادانة وفي ٢٠٠٩/١٢/١٣ قرار المستشار القانوني لحكومة إسرائيل ماني مزوز تقديم لائحة اتهام بحقه ولم تثن المستشار عن ذلك حصانة النائب البرلمانية وكون قراره يشكل سابقة خطيرة.

من المفيد أن نتذكر أن قرار مزوز تقديم النائب نفاع للمحكمة قد تزامن مع قرار المكتب السياسي لحزبه، حزب التجمع، بفصله من صفوف الحزب لسببين ذكرا في قرار الفصل الصادر بتاريخ ٢٠١٠/١/١٤: قيامه بلقاء وليد جنبلاط في قبرص مع وفد من حركة التواصل، وعدم موافقته على التنازل عن عضويته في الكنيست للسيد عباس زكور، كما طالبته مؤسسات حزبه أن يفعل.

هكذا تزامنت الأحداث قبل أكثر من ستة أعوام وها هو التاريخ يعيد نفسه. فقد تكون هي نفس الصدفة أو ربما ذات النقرة على صفيح أجراس التاريخ الصامت وهي تتلو علينا دروسًا في الحكمة والقيادة والسياسة.

قبل وصولي للسجن وبعد استفساري عن ساعة الإفراج المحددة عن سعيد أخبرني ضابط مسؤول أنهم قرروا الافراج عنه من معتقل عكا، ولهذا فلقد نقلوه ليلًا إلى هناك تفاديًا للفوضى، كما حاول أن يشرح لي، التي قد تحصل أمام سجن جلبوع بعد أن علم المسؤولون أن بعض الأصدقاء والمتضامنين سيتجمعون هناك.

أخبرت زملائي الذين وصلوا قبلي إلى باحة السجن، فقرروا التوجه إلى مفرق قرية الرامة الجليلية حيث سيتجمع كل من جاؤوا للقاء الأسير، ومن هناك سيرافقونه إلى قريته بيت جن، ليلتقي الأحباء وعائلته التي انتظرت عند ذلك الغدير من دموع الشوق والحنين.

هنالك من خطط في إسرائيل الرسمية لإفساد فرحة سعيد وأصدقاء سعيد وليس لكونه حدثًا شخصيًا، بل لما له من دلالات وأثر على مفهوم القيادة السياسية الوطنية وما المطلوب والمتوقع منها، فسعيد نفاع سجن بتهمة سياسية واضحة وأدين عندما كان نائبًا في الكنيست، واختار ألا يتوصل الى أي صفقة مع الدولة كانت قد تعفيه من قضاء عام كامل في السجن، وهذه، بحد ذاتها، سابقة هامة كتبت وغيري عن مدلولاتها في الماضي. لقد فشل المخططون، فللحرية عبق أقوى من رائحة العفونة، وصوت أعلى من هزيم الرعد، وصدى أدوم في نفوس الناس البسطاء الحقيقيين.

ما كنت أحشر موضوعين هامين في مقالة واحدة لولا أنني أعتبرهما مترابطين بشكل عضوي متين فكلاهما ذو علاقة بقضية القيادة ومسؤولياتها بين الجماهير العربية في إسرائيل ولهما تأثير على مكانة هذه القيادة وواجباتها.

فسعيد نفاع قد دفع ثمن كونه قائدًا سياسيًا لوحق ملاحقة سياسية واضحة من قبل المؤسسة الإسرائيلية التي انتقمت منه وأرست سابقة خطيرة كان عليه إما أن يقبل مواجهتها وإما أن ينحني أمامها ليمضي في طريقه قائدًا على مقاسات إسرائيلية وكرامة وهمية.

قضية نفاع لا تشبه بحيثياتها وأبعادها قضية التحقيق الجارية مع نشطاء وكوادر وقادة في حزب التجمع، فجميع هؤلاء يخضعون لتحقيق في قضايا تدور حول تمويل حزبهم في الجولة الانتخابية الأخيرة ومصادر وطرق "تثليم" هذه المبالغ، وحزب التجمع ليس أول حزب يخضع لمثل هذه التحقيقات، فقبلهم خضعت أحزاب ونشطاؤها وبعضهم مثل عمري شارون، نجل أريئيل شارون، سجنوا بعد إدانتهم.

على جميع الأحوال ما أقوله لا ينفي وجود سياسة ملاحقة سياسية وتضييق على العمل الحزبي والحركي العربي في البلاد. وما أقوله لا ينفي تقصير الشرطة ومؤسسات الدولة تجاه المواطنين العرب في البلاد ولا تقصيرهم في محاربة العنف والجريمة في مواقعنا، ولكن تحميل كل هذه المسائل في جعبة قضية التحقيقات الجارية مع نشطاء التجمع هو قرار خاطئ وسيضر بمصلحة الجماهير العريضة.

قد يكون هذا الخيار من مصلحة حزب التجمع ولكن أن ترفع لجنة المتابعة العليا وتتبنى شعارًا باسم كل العرب بأننا موحدون ضد الملاحقة السياسية وموحدون ضد الجريمة والعنف على خلفية التحقيقات الجارية فهذا إخفاق كبير وخلط خطير من شأنه ان يضر بكلتا المسألتين: الملاحقة السياسية ومحاربة العنف والجريمة. او على الاقل كان من الحكمة ان تنتظر المتابعة لنرى جميعنا نتائج التحقيق وكلنا نأمل أن لا يفضي إلا إلى إخفاق إسرائيلي مدوٍّ.