الشباب الفلسطيني..والعام 2015

بقلم: 

طلب مني زميل الإجابة عن سؤال في إطار مشروع بحثي محوره "واقع الشباب الفلسطيني والدور المنوط به وما آل إليه" وتركز السؤال حول ظاهرة التراجع الكبير للدور الجماهيري وحجم مشاركة الشباب فيه، فطلب مني أن أعرض وجهة نظري كناشط شبابي، مبرزا الأسباب التي تقف خلف ذلك.

اليوم وأمام ما تشهده الساحة الفلسطينية من تداعيات، وما يحدق بالقضية من مخاطر بفعل أحداث تجري على الأرض وتعصف بمستقبل الكل الفلسطيني، وأمام غول الاحتلال الذي ينهش بالأرض والإنسان في محاولة لدثر الهوية، وفي ظل انكماش الرؤية، وجدت من الضرورة أن أنثر هذه الكلمات علها تساهم في خلق جو لحوار دافئ هادف يقوده الشباب بما يكفل استمرارية البناء الوطني على قاعدة الوحدة والتلاحم والتعاضد، مع معرفتي ويقيني أن الحديث عن دور الشباب ومشاركته في العمل الجماهيري آنفا وحاضرا وما يقع على كاهله مستقبلا حديث يطول ولن تغطيه بضعة أسطر هنا أو دراسة هناك، فعمل الشباب يجب أن يرتكز على أسس استراتيجية تعنى بها الدولة ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، فالموضوع مثير وفي غاية الأهمية ولابدّ أن يحظى باهتمام الساسة والمتنفذين والهيئات، وخصوصا في ظل هذه المرحلة الصعبة التي ألقت بظلالها على واقع الشباب الآخذ بالتردي، لذلك يجب مناقشة دورهم في منظومة العمل الآخذة بالتراجع وعلى جميع الأصعدة.

طالما شكلت هذه الفئة العمرية التي ساهمت بنحو (75%) من تضحيات شعبنا ممثلة بالشهداء والجرحى والأسرى سياجا حقيقيا في لحظات المدّ والجزر على مر الأزمنة وفي أكثر المنعطفات التاريخية صعوبة على قضيتنا. فكان لوعي الشباب والطلبة المتنامي الدور الأبرز، إذ إنه شكل باكورة فكر وعمل وطني حصين، بعقل يجهد ويستنير، وقلب ينبض بالحيوية والنشاط، وأياد تتحد لتكتب وتضرب وتعمر وتفلح، وكل ذلك إيمان بالحق التاريخي وبرسالة العلم كسلاح استراتيجي، ورغم تعدد الأفكار والأيدولوجيات فإنها ظلت تحمل الهدف ذاته بجلاء الاحتلال، هذا ما آمن به الشباب الذين قدموا الكثير في كل المجالات، لا سيما أنهم تمتعوا بقدرات وإمكانات فكرية وثقافية، فكانوا رافدا مهما للمجتمع ولبنة لأساسه المتين، وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلا واطلعنا على دور الحركة الطلابية في فلسطين وخارجها ممثلة بالاتحاد العام لطلبة فلسطين وشبابها فإننا سنلامس إسهاماته في إعلاء اسم فلسطين وإبراز هويتها الوطنية، فقياس التراجع وحالة الوهن التي طالت هذه الفئة لا يحتاج إلى الكثير، فبمجرد أن نضع الأمر في نصاب المقارنة نجد أنفسنا أمام حقيقة المفاضلة والانتصار للحقبة الماضية .

لا بدّ أن يظل الشباب الفلسطيني ركيزة في إطار العمل الجماهيري، وإذا كان مطلوبا الوصول إلى إجابات شافية لسؤال "الشباب الفلسطيني.. إلى أين؟"، فإنه ينبغي الوقوف على بعض المحطات التي عصفت بشريحة الشباب واستعراضها بشكل سريع ومحاولة استنطاق كل مرحلة على حياء من خلال هذه الدراسة أو من من خلال إبراز بعض النقاط.
لقد ألقت انتفاضة 1987 بظلالها على واقع الشباب الفسطيني، ولعبت دورا مهما في صقل شخصيته، ما ساهم في خلق وعي لا مثيل له لدى هذه الفئة، وخصوصا في دائرة وعيها ونشاطها الاجتماعي والجماهيري، إلى جانب دورها على الصعيد الوطني، ودون الخوض بتفاصيل تلك المرحلة الغنية بالفعل والدور الشبابي الجماهيري الفعال،لا بد من الإشارة إلى أن أحد أهم ركائز بناء هذا الوعي هو الفكر الثوري، إذ كرست فصائل العمل الوطني جلّ اهتمامها بالشباب، فتشكلت الشبيبة في أطر ضمن برامج مكثفة هادفة نمت قدراتها وخلقت وعيا كافيا لديها فضلا عن التعبئة والتوجيه والتثقيف عبر لقاءات وندوات ونشرات سرية وعلنية، إضافة إلى نموذج العمل النقابي داخل الجامعات والكليات ومراحل الإعداد في المدارس التي مكنت الحركة الطلابية من النهوض وبشكل ناضج  قادر على تحمل المسؤولية. وثمة تجارب لا يمكن حصرها في هذا السياق، والتي تدلل على الصورة المشرقة الناصعة لتلك الحقبة.

نوضح هنا أن هذه إضاءة بسيطة لمرحلة مهمة أسست لما بعدها دون الوصول إليها، وما محاولة فتح هذه النافذة إلا لتشخيص الوهن الذي أصاب الجسم الشبابي وقلص دوره وفعله الجماهيري، خاصة بعد انتهاء انتفاضة 1987 بإبرام اتفاقية (أوسلو) التي شكلت منعطفا تاريخيا رسم ملامح مرحلة مختلفة أثرت في الشباب أكثر من غيره من فئات المجتمع الفلسطيني، نظرا لحالة التشظي في الوسط الشبابي بين مؤيد ومعارض، فكان الثمن باهظا جدا بأن اشتدّ وقع الفرقة والخلاف والاختلاف، ولا سيما بعد انخراط عدد كبير من الشباب في مؤسسات السلطة الوطنية وتفرغهم للعمل فيها، وأخذ دور البناء القائم على أسس مهنية ومتطلبات الوظيفة على حساب الدور الطليعي الجماهيري.

لا شك أن موجة التراجع أخذت تزداد رويدا رويدا بعد هذه المرحلة، ما يعني مزيدا من الشرذمة وانهيار منظومة العمل الشبابي، إلى أن اندلعت انتفاضة عام 2000، محاولة رأب ما تصدع، حيث لعب الشباب الفلسطيني دورا مهما وكبيرا في كل مراحل النضال، وكأن العملية طردية، أي أن دور الشباب الجماهيري يمتاز عن غيره في العالمين العربي والعالمي، لارتباطه الوثيق بالدور الوطني ومجابهة الاحتلال وبالتربية التنظيمية واحتضانهم ضمن فصائل العمل الوطني، وخلاصة القول إن الانتفاضة انعكست على دور الشباب بوتيرة متصاعدة.

هناك عامل آخر بالغ الخطورة تسبب في تراجع دور الشباب الفلسطيني، لا سيما أنه يحتوي على أفكار انطوائية وانعزالية يتمثل بانخراط عدد كبير منهم في المؤسسات الأهلية (s’NGO)، التي تمولها جهات خارجية وتعمل تحت وطأة هذا التمويل وشروط الممول الهادف في غالب الأحيان إلى تقويض الدور الجماهيري لدى الشباب الفلسطيني وسلخ أفكاره عن اتجاهاته الوطنية ليستبدل بها أفكار أخرى مختلفة في سياق غير منسجم مع أصالة الدور المنوط بالشباب المتحفز القابض على الجرح، كل هذا تحت شعارات واهية ومفاهيم مختلفة ذات نزعة تخدم مشاريع الممولين، فمحاولة نزع فتيل الانتماء هو الخطر الكامن وراء انخراط  الشباب الواسع في هذه المؤسسات التي بلغت وفق الاحصائيات زهاء ستة آلاف مؤسسة وجمعية تعمل في الضفة والقطاع والقدس. وبعيدا عن جلد الذات والشباب العاملين في هذه المؤسسات، فقد تنوعت أهداف المؤسسات هذه حسب ارتباطها بالممولين، فهناك مؤسسات تسعى لترسيخ مفهوم التطبيع وأصول التعايش وحل النزاعات بعيدا عن "العنف" مع التأكيد على ضرورة محاربة "الإرهاب" وفق التعريف الغربي له والذي يرمي إلى النيل من كل حركات التحرر، ويمكن الادعاء بأن معظم المؤسسات التي تحظى برعاية كبيرة وتمويل ضخم مازالت تنهال عليها المشاريع المقترنة بصبغة تحاول قتل الروح الوطنية لشباب حالم وطموح يعيش تحت نير الاحتلال وجبروته، الأمر الذي تسبب في تبديد رؤياهم،  بل ورسخت في أوساط الكثير من الشرائح المستهدفة أو العاملة عوامل الفرقة والطبقية، ووضعت العراقيل أمام انسجامهم مع طموحهم الوطني، وهذا يقودنا إلى ضرورة إجراء مراجعة كاملة لدور هذه المؤسسات ووضع خطة وطنية شاملة تستند إلى مراقبة سياساتها والعاملين عليها خشية الانزلاق في مشاريع قد تلقي بظلالها على قضيتنا الوطنية.

المصاب الجلل الذي فتّ عضد الشباب وزاد من ضياعهم وغياب دورهم نتيجة ما سعت إليه مؤسسات (s’NGO) من زرع بذور الفرقة في الأوساط الشبابية، تمثل في مرحلة الانقلاب في قطاع غزة وما نشب عنه من اقتتال دموي وقوده الشباب، أي أن نتيجة الانقلاب مزيد من الانقسام والشرذمة ووأد للروح المعنوية وقتل لقدرات الشباب وطموحاتهم، الأمر الذي زاد التعصب والتشدد فالمزيد من التشنج والفرقة وانحراف روح التنافس الشريف الذي يصب في صالح المجتمع أو القضية، أي أن هذا الاقتتال أغفل المجتمع فتبدلت الأدوات والأهداف ما زاد من حالة الاغتراب، ومن هنا بدا الشباب وعلى نحو مستدام منفصما عن ذاته، إما منزلق في إثم الانقسام أو ينأى بنفسه عن أي دور، وصُبغت الأنشطة الجماهيرية بالحزبية والفئوية الضيقة فأفقدتها هويتها الوطنية الشمولية، وتولدت القناعة لدى الشباب بأن الفعل الجماهيري والمجتمعي لا يرقى الى مستوى التحديات، وليس أدل على ذلك التجاوب الجماهيري الفاتر مع قضية الأسرى التي تعدّ في إطارها العام قضية شبابية، فالتفاعل الشبابي مع هذه القضية آخذ في الاضمحلال خلافا لما كان عليه الوضع في السابق.

وبشكل مجرد يمكن الجزم أن الشباب تولد لديه إيمان بعدمية دوره وقدرته وتأثيره، بعد أن فقد وهجه وبات فريسة للتجاذبات والاستقطابات التي أحدثها الانقسام، الذي يمكن الجزم أنه كان العامل الأبرز في العصف بالحالة الشبابية الفلسطينية التي كان بالإمكان تجاوزها والحدّ من استمرارها، لكنه للأسف كان المقصلة التي وضعت عليها رقاب الشباب المتحفز مع تأثرهم بالتطور التكنولوجي وما زرعته العولمة في عقولهم.

من وجهة نظري كناشط شبابي لا بدّ من قول كلمة حق، إن الشباب الفلسطيني بالرغم من القصور البحثي وحالة التيه العام التي يعيشها إلا أنه سيظل قادرا على توفير أدوات قياس حقيقية للوعي الذي يتحلى به وما يملكه من طاقات وأدوات تمكنه من العودة لدوره الطلائعي وطنيا واجتماعيا واستعادة البساط الذي سُحب من تحته أو يكاد، ومن هنا نرى ضرورة تسليط الضوء على هذه القضية الحساسة ليعمل كل في مجاله لتجاوز كل الصعاب والمحن، والانتصار للشباب وقضاياهم بعيدا عن الانتماءات الفصائلية. فالتنشئة التنظيمية يفترض أن تخلق وعيا لدى الأجيال وتعمق فكرة الدور الجماهيري الموحد وتؤصلها في النفوس، كما كان عليه الحال في السابق.

خلاصة القول، الشباب مدعو اليوم ونحن ندخل العام 2015 وبعد 8 سنوات على الانقسام، للإجابة عن سؤال "ماهو الدور المنوط بالشباب الفلسطيني وطنيا وجماهيريا ؟"
في إطار  البحث عن الإجابة لا بّد من التذكير بأن الشباب الفلسطيني مازال الفئة التي يستهدفها الاحتلال الاسرائيلي صاحب اليد الطولى بما آل إليه واقعهم الحالي، من خلال سعيه المتواصل إلى تركيعهم وتجهيلهم وكسر إرادتهم. فمفهوم الشباب الوطني يتعرض لشتى صنوف الهدم، والأمر ليس بعيدا عن حالة الاستهداف التي يتعرض لها الشباب المقدسي من قتل واعتقال وبث بذور الفتنة ودس السموم المخدرة في صفوفهم، ما يحتم علينا نحن الشباب رفع درجة الوعي والوقوف عند مسؤوليتنا لتفويت الفرصة على كل المتربصين، ومن هنا ينبغي لملمة جراحنا والاصطفاف خلف فكرة البناء الذاتي لنعيد الشباب الفلسطيني إلى ذروة نشاطه وفعله وإنتاجه ودفع عجلته نحو مفهوم الشباب الوطني لا التبعية.