عاشت الذكرى .. دامت الثورة

بقلم: 

يصادف اليوم ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين . وكانت الجبهة قد اعلنت عن وجودها في بيان سياسي إثر تنفيذ عملية عسكرية على مطار اللد في 11/12/1967م .

أي ان الجبهة والتي تشكلت مباشرة بعد هزيمة خمسة حزيران 1967م ،قد رتبت ان تعلن عن وجودها إثر تنفيذ عملية عسكرية في عمق العدو ، بل ومن خلال توجيه ضربة لمؤسسة أساسية وهامة من مؤسساته الحيوية وهي المطار الذي يشكل شريان التواصل مع العالم الخارجي . مع العلم انه لم تكن لإسرائيل حدود برية يمكنها التواصل من خلالها .

إن هذا الإعلان له رموزية عالية ودلالات عميقة  يمكن تكثيفها بالنظر لهدف تشكيل الجبهة الذي يدلل عليه اسمها فهي جبهة شعبية من أجل تحرير فلسطين وهذا أمر له مغزاه الهام في تراث الجبهة ومواقفها واستهدافات مؤسسيها .

إن الهدف هو تحرير فلسطين . وهكذا عبرت كل أدبيات ونشريات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في حينه وهكذا كان يصرح ويخطب قادتها الكبار واوراقها الرسمية ، وهكذا اتبعت القول بالممارسة.

هل كان هذا الحال خاص بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في حينه ؟ أي هل كان تشكل فصائل العمل الفلسطيني يحمل أهداف بصياغات وغايات مختلفة .
الجواب : ربما تميزت الجبهة عن غيرها بدرجة وضوح اهدافها ومواقفها ومواقف رموزها وبالتجربة العملية التي شهدها الجمهور الفلسطيني ، ولكن دعونا نلفت الإنتباه لما هو مشترك .

كان الفصيلين الأساسيين هما حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح والتي أعلنت عن وجودها من خلال بيان أصدرته إثر عملية نفق عيلبون في شمال فلسطين في 1/1/1965م  وعادت واكدت وجودها بعد الهزيمة عام 1967م .
والجبهة الشعبية التي تشكلت من فرع حركة القوميين العرب والأدوات الكفاحية التي انبثقت عنها.

وكان عددا آخر من الإرهاصات الصغيرة الأخرى التي لم تتمكن من التقدم والإتساع والظهور حتى عام 1967م ولم تتمكن من تحقيق وجود جماهيري سياسي بعد الهزيمة .

أما فتح والجبهة الشعبية فإنه يمكن القول انهما بمعنى من المعاني اشتهرتا بعد الحرب ومارستا الكفاح المسلح مباشرة ضد العدو الصهيوني وكانتا الحالة التي وصفت بالمقاومة الفلسطينية، وهما اللواتي شكلتا الرد الفلسطيني على هزيمة 1967 وهما شكلتا ما عرف بظاهرة المقاومة الفلسطينية في الخارج وامتداداتها في الداخل وما تم دفعه من كوادرهما للأرض المحتلة .

ومعهما ما عرف بقوات التحرير في قطاع غزة  والتي كانت تتبع جيش التحرير الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية .

وظهرت عناوين أخرى صغيرة شكلتها الدول العربية على مقاسات محدودة مثل قوات الصاعقة والجبهة  العربية لتحرير فلسطين  واسماء أخرى اندثرت.
وفيما بعد ظهرت أسماء أخرى نتاج انشقاقات وانشقاق الإنشقاقات  والتي لم تمثل حالة سوى التشقق .

كانت إذن فتح والجبهة الشعبية حتى عام 1969 هما ما عرف بظاهرة المقاومة الفلسطينية والتي وصفت بأنها رد على الهزيمة .

وكانت فتح ترفع شعار تحرير فلسطين قبل عام 1967 م أي فلسطين التي احتلت عام 1948 وأعلنت الصهيونية إقامة دولة فلسطين عليها  بينما كانت الضفة الغربية وقطاع غزة خارج هذه الصيغة . وظل هذا الحال كما هو بعد الحرب وبعد الهزيمة حيث أصبح تعبير تحرير فلسطين يعني تحرير فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر وكانت العبارات الإيضاحية ترد في الخطاب السياسي لحركة فتح وفي كل البيانات والإصدارات والتصريحات والوثائق الحركية .
وهكذا كان حال الجبهة الشعبية..

وهكذا كان حال بقية التكوينات الصغيرة الأخرى . باستثناء الحزب الشيوعي وكان اسمه الحزب الشيوعي الأردني الذي رفع شعار مقاومة الإحتلال  الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة . وكان يعترف بإسرائيل في الجزء الذي اقيمت عليه إسرائيل عام 1948م ويرفع شعار المقاومة السلمية ويدعو لإقامة السلام مع إسرائيل وكان هو الكيان السياسي الوحيد الذي يجاهر بهذا الموقف وكان يتلقى الملامة والنقد  من الجبهة الشعبية ومن فتح ومن الفصائل المسلحة  على موقفه هذا  ويعتبر متخاذلا ، وأن موقفه يضر بالشعب الفلسطيني ويخدم الصهيونية .

وكانت التيارات الدينية مناهضة للثورة الفلسطينية وتهاجمها جهرا .
كما كانت الحركة الفلسطينية تنتقد الإتحاد السوفييتي لأنه يعترف بإسرائيل المعتدية على الشعب الفلسطيني ووطن الشعب الفلسطيني وعلى الأمة العربية .

إن ميلاد فتح والجبهة الشعبية هو ميلاد الثورة الفلسطينية ، ومواقفهما هي مواقف الشعب الفلسطيني . بعد ان  كان الموقف الفلسطيني مرسما في أدبيات منظمة التحرير الفلسطينية التي أسسها النظام العربي عام 1964 مع ان الفصائل لم ترض بسقف المنظمة ولا طريقة تشكيلها أساسا .

لقد وقفت حركة القوميين العرب وحركة فتح موقفا نقديا من تشكيل المنظمة وقيادتها وعبرت عن ذلك بالبيانات وعادت وأكدت على نقدها للمنظمة واستقلالها عنها بعد الهزيمة .أي أن الفصائل نشأت خارج المنظمة ولم تنضوي تحت سقفها حتى عام 1969م .

وكان النظام العربي وقتها هو محصلة مواقف النظم التقدمية التحررية  بزعامة مصر الناصرية ومعها سوريا والعراق والجزائر ، والنظم الرجعية والرافضة لوجود المنظمة مثل الأردن والملكيات العربية  . وكان وجود المنظمة وصيغتها نتاج التوافقات العربية ، مع العلم أن ميزان القوى كان يميل لصالح الحالة التحررية والقومية العربية إلى حد ما.

بيننا وبين الإنطلاقات مسافة كبيرة جدا .
مسافة لا تقاس فقط بالزمن بل بأدوات قياس هامة جدا . فهذه الفصائل قد تشكلت لتكون قوى الشعب الفلسطيني لقهر إسرائيل ودحرها وتحرير فلسطين كل فلسطين ، وأعلنت أن الكفاح المسلح ياتي على رأس كل أشكال الكفاح وكانت تمارس الكفاح فعلا وتؤكد دوما على مواقفها أعلاه .

اليوم مضى  48 عاما على هذا الزمن الفلسطيني والعربي الكفاحي وهو زمن طويل ولا زالت إسرائيل تحتل كل فلسطين وتعيد صياغة الجغرافيا الفلسطينية بالإستيطان المتغول ، كما انها نشرت اذرعها وأجندتها على معظم مساحة الوطن العربي بالسر وبالعلن وبالتطبيع وبفتح السفارات والمكاتب المتنوعة . وتحت عنوان السلام مع النظم العربية .

إسرائيل تتقدم وتحقق الكثير من برامجها الأساسية وأهم ما حققته بعد حتلالها الجغرافيا وترسيخ وجودها المادي فيها من مستوطنات وطرق ومعسكرات ومقرات، هو ترسيخ وجودها في ذهنية قوى فلسطينية وعربية ، بل وتحول قوى فلسطينية وعربية إلى مدافعين عنها ودساسين لبرامجها ومواقفها ، وتحول فصائل وأحزاب إلى مدافعين عن وجود إسرائيل وداعين للإعتراف بها وداعين لقبولها على ان هذا القبول هو تعبير ديمقراطي لقبول الآخر . 

إن مثقفين فلسطينيين وعرب ممن تم شراء ضمائرهم وأقلامهم  يتصدون  لمقاومة الثقافة الوطنية ، ثقافة التمسك بفلسطين بوصفها أرضا عربية يقيم عليها الشعب الفلسطيني.

هم طابور سادس  ثقافي كما وصفهم عادل سمارة ، وهم متفرغون للدفاع عن إسرائيل والغرب الإستعماري وينفثون سمومهم في وعي الجمهور وثقافته الوطنية بهدف تشويهها وبهدف تحويل الثقافة المقاومة إلى ثقافة خذلان واستسلام .وبعضهم يرغع شعار دولتين لشعبين وبعضهم يرفع شعار الدولة الواحدة للشعبين وكلا الطرحين صهيونيي الهوى .

وما كان هذا ممكنا بهذه الصورة الظاهرة لولا التدهور الهائل والتراجع الكبير في مواقف قيادة الشعب الفلسطيني الرسمية من جهة وتخلف دورها الكفاحي من جهة أخرى  .

يتوجب أن نتذكر هذا في مثل هذا اليوم بل وهذه الفترة التي تتوالى فيها ذكرى الإنطلاقات وخاصة ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وذكرى حركة فتح في أول الشهر القادم  بعد 48 عاما على الظهور المقاوم  وذكرى انطلاقة حماس  .ويتوجب أن نذكر كذلك أن فلسطين كلها تحت الإحتلال منذ ان استكملت اسرائيل احتلال بقية أراضي فلسطين عام 1967م.

إن كشف الحساب ثقيل ومؤلم  ويرجح لجهة الفشل الذريع . وتكون النتيجة أشد سوءا إذا تذكرنا ظهور حماس التي مارست دورها منفردة في سربها الخاص ولكن كذلك فإن كشف حسابها ثقيل ومؤلم ويرجح لجهة الفشل الذريع .
إن كشف الحساب ثقيل جدا على فتح : فهي قد غادرت أهدافها التي عبرت عنها في بداية انطلاقها بل وإنها مع الأيام  أدارت ظهرها لهذه المنطلقات وقادتها قيادتها إلى أوسلو والتنسيق الأمني المعادي للشعب الفلسطيني.وإلى الوقوف في وجه النضال الفلسطيني .

أما حماس فهي تبحث عن إمارتها في غزة بكل ثمن  وتكاد لا تظهر في الضفة الغربية وهي كذلك وهذا هو الأهم قد غادرت منطلقاتها  التي عبرت عنها قبل 28 عاما وتبحث حينما يعلو سقفها عن دولة في الضفة والقطاع. أي أن باقي فلسطين هو حلال لإسرائيل كخطوة على طريق المزيد من التنازلات بعد أن كانت فلسطين محرمة على اليهود بوصفها وقفا اسلاميا خاصا لا يحق لأحد التنازل عن أي شبر منها كما ورد في بيان تأسيسها  .

بعد ذلك في الميدان الكفاحي نرى الجبهة الشعبية غائبة مثلها مثل حماس وفتح . هي غائية مقارنة مع فترة انطلاقتها الأولى التي كانت مليئة بالنضال والحيوية .قد يحاول بعضهم تذكير القاريء بصواريخ غزة بيد الشعبية وحماس والجهاد وغيرها .

ومن الناحية السياسية فقد مثلت  الجبهة الشعبية الرفض الفلسطيني وليس مجرد معارضة وتسجيل مواقف ،ويؤخذ عليها انها لم تصل إلى درجة الإفتراق عن نهج اليمين الإستسلامي الذي رسخ نهج التسوية ، هذا النهج الذي تمخض عن أوسلو وتوابعها  .
في ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها من الفصائل لا بد من استخلاص العبر واستخدام مبضع النقد بكل جسارة :
لقد أعاد الكفاح المسلح الفلسطيني قضية فلسطين بقوة إلى ضمير ووعي وثقافة الشعب الفلسطيني والأمة العربية  وساهم بقوة في تشكل الحالة الشعبية الفلسطينية رغم الشتات الكبير ، وامتلكت فصائل العمل المسلح شرعية وجودها ارتباطا بكفاحها الوطني ضد الإحتلال ، كما امتلكت منزلة عالية في قلوب وعقول الجماهير الفلسطينية والعربية . أي أن تحولا حقيقيا حصل في مواقف وانتماء الجماهير الفلسطينية كما لو  انها وجدت الزعامة والرمز الوطني الذي تبحث عنه والذي يقودها لتحرير فلسطين من العدو الغاصب  وأخذ الفلسطينيون يعبرون عن انفسهم كشعب مكافح  . ولكن بيننا وبين ذلك الزمن مسافة طويلة كما ذكرنا .

حيث تغيرت المواقف والثقافة والممارسة كما تغير دور حركة فتح بشكل جذري من الكفاح المسلح لتحرير فلسطين وانتقل  إلى أوسلو وتطبيقاته المعادية ، وهبطت منزلة الجبهة الشعبية بحكم هبوط دورها وعدم تمكنها من فرملة التنازلات والهبوط الذي قادته القيادة الرسمية بزعامة حركة فتح .

إن أمورا هامة قد حصلت :

ظهرت حالة من الفئوية والأنانية الفصائلية بحيث أصبح هم الفصيل استثمار تضحيات الكادر من أجل سمعة الفصيل ومنزلة الفصيل وتوسيع شعبية الفصيل وصار الإنتماء للفصيل فوق الإنتماء الوطني " أنا ابن فتح ما هتفت لغيرها .. "" وكل الناس تهتف حماس " وأن تكبر منزلة الزعيم والقائد أهم بكثير من إيذاء الإحتلال . لم يكن هذا بسبب المنافسة الديموقراطية بل لأسباب كامنة في تحولات الفصائل عن هدف تحرير فلسطين أو ضعف الأداء لتحقيقه والنزوع للعلنية  الاذي ساهم في تكريس القيادات وتكلسها وربما جبنها ، وكذلك لعدم تمكنها من الإندماج في إطار وطني وحدوي حقيقي بصيغة قائدة حقا .

فبعد أن كانت المنظمة  مرفوضة صارت الفصائل تتنافس على مراكزها ثم صارت تدافع عنها . وانضوى الجميع تحت اسمها اسما وبقي كل فصيل حرا في مواقفه ونهجه وطرق كفاحه وعلاقاته الخارجية وتحالفاته  وجاءت حماس والجهاد ولم تدخلا هذه الخيمة الوهمية  المفتوحة من كل الجوانب ( ماذا تبقى للمنظمة سوى انها عنوان لفظي )..

إذن ندرس الحالة من خلال الإجابة على أسئلة :
ما الموقف من الكفاح المسلح ؟ عبر المراحل المختلفة ؟

ما الموقف من الإعتراف بإسرائيل ؟ سواء كان من خلال الإعلان الرسمي كما فعلت فتح أو الذي يتم من خلال قبول احتمالات التسوية معها ودعوتها لقبول حلول ؟
ما الموقف على ضوء ذلك من  نهج التسويات الأمريكية؟

ما الموقف من الوحدة الوطنية الكفاحية؟
ما الموقف من منظمة التحرير الفلسطينية  وهل مثلت في تاريخها عنوانا ملموسا للوحدة الوطنية ؟

ثم نعود للأسئلة الأهم :
لماذا لم تنتصر الثورة الفلسطينية ؟ رغم كل هذه التضحيات .
لماذا لم يحصل تقدم على صعيدها ؟

هل جرت أية وقفة مراجعة جدية لأسباب الخروج من الأردن وبعد ذلك من لبنان ؟ ولماذا هزم وجود الفصائل في جبهة الخارج ولماذا تيتم الشتات الفلسطيني  واضمحل دوره في المجابهة ؟

ثم نتواضع أكثر في السؤال:
لماذا ظلت الحالة تتدهور وظلت إسرائيل تنفذ مشروعها على قدم وساق ؟أي لماذا بقيت الحالة الفلسطينية في تراجع بينما المشروع الصهيوني يتقدم ويصبغ الجغرافيا الفلسطينية.

ما هي محصلة التضحيات الفلسطينية الجسيمة في ظل هذه القيادة؟

بعد ذلك من المسؤول عن الفشل الذريع الذي يحيق بنا ؟وما حصة القيادة في هذه المسؤولية ؟

واليوم :هناك نضالات فلسطينية متصاعدة  وتدخل الشهر الثالث ،ونرى الفصائل تعلن تأييدها للحالة وتدعو لتشكيل قيادة موحدة لها.

ما دور هذه الفصائل جميعها في هذه الحالة ؟ وهل هي حالة بمعزل عن الفصائل .

السؤال الكبير:
هل هذه الحالة إعلان عن تجديد في الثورة الفلسطينية بعيدا عن الحالة التقليدية والقيادة التقليدية ؟

لا زالت الجبهة الشعبية تعبر عن نفسها بمواقف متميزة وتضحوية ولكنها لا تسنطيع تعديل وضع القيادة التقليدية والحالة الوطنية التقليدية.

إن هذه الحالة بحاجة إلى مبضع الجراح من أجل توليد الحالة الثورية من خلال هذه الحالة التقليدية.