مأزق تركيا وإعادة العلاقات السياسية مع إسرائيل

بقلم: 

عام 1924م ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة الاسلامية، وحوّل نظام الحكم في البلاد إلى جمهورية بدل سلطنة ، وقام بترسيخ الحكم العلماني وفصل الدين عن الدولة، وفرض عادات غربية ليلحق البلاد بأوروبا الحديثة آنذاك، لقد خاضت تركيا الحرب العالمية الأولى وخسرتها ووُزعت تركتها على الدول الاستعمارية،وشاركت في نهايات الحرب العالمية الثانية  إلى جانب الحلفاء ، ومن هنا كانت الطريق لها معبدة لانضمامها للمعسكر الغربي، ونالت المساعدات الاقتصادية والعسكرية لتمكينها من الوقوف أمام المدّ الشيوعي وكممثلة للغرب الرأسمالي في ذاك الصراع.

لقد عاشت تركيا فترة ليست بالقليلة من عدم الاستقرار السياسي، فقد شهدت تركيا منذ عام 1960م عدة انقلابات وكان طابعها جميعا طابعاً عسكرياً إذ كان العسكر يُحكمون سيطرتهم على الحياة السياسية في تركيا بصورة شبه تامّة، ومن هنا فقد وقعت هذه الإنقلابات عام 1960م و1971و1980و1993م 1997م ومحاولة الإنقلاب عام 2009م. لقد كان انقلاب 1960م وانقلاب 1980م و1997م، عبارة عن تحجيم للصعود الإسلامي في تركيا وخوفاً على العلمانية، وهذه هي حجة العسكر في تركيا، حيث أظهر الجيش نفسه حامياً وحارساً لها على مدى عقود وكان هذا مبرره بالتدخل في الحياة السياسية التركية ،ففي عام 1960م تمّ اسقاط حكومة عدنان مندريس المنتخب ديمقراطياً وتمّ سجنه وبعد ذلك إعدامه، ومن أهم التهم التي وجهت له هو تقويض الحكم العلماني وذلك بإرضاء مشاعر الفلاحين الدينية مما أدى إلى ظهور تيار دينى مطالِب بخلط الدين بالسياسة وعودة الخلافة وتطبيق الشريعة الإسلامية وكاد أن يطيح بالأتاتوركية. وفي عام 1996م، وصل إلى سدّة الحكم زعيم حزب الرفاه، الراحل البروفيسور نجم الدين أربكان إسلاميّ التوجه، والذي أُجبرعلى تقديم استقالة حكومته بعد أن رفض طلباً للجيش  بالموافقة على مجموعة كبيرة من خطوات من شأنها إعاقة التقدم بالمشروع الإسلامي وتقييده، وبعدها ‏تم سجنه بتهم  أهمها انتهاك علمانية الدولة.‏

لقد خرج من رحم حزب الرفاه عقب حلّه؛ حزب الحرية والعدالة برئاسة رجب طيب أردوغان، والذي واجه من الصعوبات ما واجه، ولكنه كان براغماتياً رفيع المستوى حيث لم يعلن عن اسقاط العلمانية وإبدالها بالنمط الإسلامي للحكم، بل أعطى تفسيراً مختلفاً لها، استطاع من خلاله أن يتجاوز العديد من العقبات، وساعده في ذلك الجماهيرية العالية التي يتمتع بها كشخص وكحزب، وذلك من خلال الإصلاحات الإقتصادية الهائلة التي أحدثت نقلة نوعية في حياة الفرد في تركيا، عدا عن التطور الذي شهدته البلاد في شتى الميادين سواء العلمية والصحية أو النمو الإقتصادي، إلى جانب النهضة المدنية والحضور السياسي الإقليمي والدولي.

لقد واجهت تركيا بعد أحداث الربيع العربي وبالذات الملف السوري صعوبات وعقبات أمنية وسياسية، فتركيا منذ البداية أعلنت اصطفافها إلى جانب الشعوب العربية، سواء في مصر أو ليبيا وسوريا، وبغض النظرعن توجه تركيا الإسلامي، فقد توسطت في الملف السوري لدى النظام وقدمت مبادرات عديدة لتخفيف الإحتقان من خلال ايجاد فرصة للحل السلمي وتغيير طريقة النظام السوري في الحكم، ولكن لجوء النظام السوري للعنف والقتل والتدمير جعل الحكومة التركية تقف إلى جانب الشعب السوري وتقوم بدعمه مما جعلها طرفاً بصورة ما في الصراع. كما أنّها حملت أعباء كبيرة في هذا الملف من خلال استقبالها لملايين اللاجئين السوريين.

لقد أصبحت تركيا بعد الحرب في سوريا تعاني العديد من المشاكل وكثير من الخصوم، وخاصّة بعد اسقاطها للطائرة الروسية في أجوائها، مما حدا بروسيا إلى اتخاذ خطوات وعقوبات قاسية تجاه تركيا وحرمان طيرانها الحربي من التحليق في الأجواء السورية، لقد وقعت في تركيا في العام الأخيرعدة تفجيرات أودت بحياة المئات من المواطنين الأتراك، فتركيا لم تعد تدري هل هي تحارب النظام السوري وحلفاءه الروس والإيرانيين أم تواجه الأكراد المدعومين من كل أعداءها، أم هي تواجه تنظيم الدولة والقاعدة، إضافة لبعض الدول العربية التي التقت مصالحها مع باقي أعداء تركيا فأمدتهم بالمال والسلاح، وأخيراً هل كانت تواجه حرباً خفيّة تديرها إسرائيل بعد أن انقطعت العلاقات السياسية بعد أحداث اسطول الحريّة والذي قامت فيه اسرائيل بمهاجمة السفينة التركية "مافي مرمرة" وقتل تسعة من المواطنين الأتراك.

لقد خطَت الحكومة التركية في الأسابيع الأخيرة خطوتين جريئتين أثارت الكثير من النقد لدى أوساط إعلامية وشعبية،وذلك باعتذار تركيا لروسيا عن حادث إسقاط الطائرة الحربية الروسية، وكذلك من خلال الاتفاق التركي الإسرائيلي بإعادة العلاقات السياسية بينهما، واختلفت الآراء بين منتقد ومهاجم، ومن ذهب إلى تغيير وجهة نظره في تركيا وسياستها، ونحن هنا لا ندافع ولا نؤيد، ولكننا نحاول تقييم الأحداث، فمن الواضح أن حكومة أردوغان أعادت برمجة سياستها بما يخدم حسب اعتقادها تركيا أولاً، وهي التي ورثت العلاقات الاستراتيجية مع إسرائيل منذ أن اعترفت بها حكومات العسكر من عام 1949م. بلا شك فإن الشعوب العربية والإسلامية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، ترفض هذا الإجراء وتعتبره حسب وجهة نظرها نكوصاً وتراجعا من حكومة أردوغان التي انتقدت وهاجمت إسرائيل في المنابر الإعلامية خلال السنوات القليلة الماضية، ويأتي هذا النقد من الشعوب الغير مؤيدة لإعادة العلاقات بالتزامن مع عدم رفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة حيث كان شرطاً لإعادة علاقات الطرفين بالرغم من تخفيفه بخطوات استراتيجية.

تسعى تركيا لفك عدد من العقد التي تواجهها، بعد أن أُجبرت على التخلي عن استراتيجية " صفر مشاكل " وجاء هذا بعد انفجار الإقليم، بحيث وجدت نفسها في لهيب النار دون أن تُخيّر بذلك، فحدودها مع سوريا والعراق،وتعايشها مع المشكلة الكردية، وحدودها مع عدوها القديم روسيا، كلّ ذلك وغيره فرض على تركيا الغوص في هذه المشاكل، وإنّ تداركها اليوم لتعديلٍ ما  في سياستها، لا يمكن له أن يحصل قبل سنتين أو ثلاثة، وقد نفاجأ يوماً بخطوات أكثر جرأة  بنوع من العلاقات مع النظام السوري والمصري في قابل الأيام. تقوم تركيا بهذه الخطوات المفاجئة حتى تحافظ على المنجزات التي حققتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 2002م وذلك في شتى المجالات، كما أنّها تحاول حصر خصومها وتحييد الصدام في هذه اللحظة الحرجة حتى تعود بالوضع الأمني إلى ما قبل الأزمة والذي يؤثر تأثيراً مباشراً في كافة أنواع النموّ.

ومن هنا يمكن البحث في الاتفاق التركي الإسرائيلي عن سؤالين مهمين وهما، هل سيؤدي هذا الاتفاق إلى تخفيف الضغط عن تركيا من الناحية الأمنية والسياسية ؟ وهل يعتبر البند المتعلق بتخفيف الحصار عن قطاع غزة طريقاً للمصالحة الفلسطينية، وإعادة  نظر السلطات المصرية بسياساتها تجاه قطاع غزة وبالذات التعامل مع حركة حماس؟. هذا ما سنتتبعه في الأيام القليلة القادمة. 

المصدر: 
زمن برس