موت البنات.. وأين الشرف!

بقلم: 

كانت هدى كحيل، ابنة يافا، هي الضحية التاسعة التي قتلت منذ مطلع هذا العام، منضمةً إلى عشرات السيّدات اللواتي قضين بمعدل واحدة في كل شهر وذلك على خلفية ما يسمى عند العرب القتل باسم شرف العائلة.

فالمجتمعات الذكورية العربية تواطأت تاريخيًا في أبشع محاولات تجميل عمليات قتل الأنثى العربية وتسويغ جرائم الذكور بحجة الدفاع عن العرض الذي جردت منه النساء واعتبر دومًا ملكًا للذكر وللعائلة والحمولة والقبيلة والقوم.

وكما في كل جريمة حدثت في الماضي قرأنا هذه المرّة أيضًا فيضًا من البيانات الشاجبة والمستنكرة وشهدنا بعض النشاطات المحدودة والخجولة التي شاركت فيها، على الأغلب،النساء وناشطات في مجالي الدفاع عن حقوق الإنسان والمنظمات النسوية المنتشرة بيننا.

كثيرات من المتحدثات جئن على أسباب شيوع الظاهرة الخطيرة وبعضهن حاولن وضع الأصابع على الجروح في مسعى منهن وأمل أن يوقفن هذا النزيف المتعاظم في قرانا ومدننا في السنوات الأخيرة، وكأن شرف النساء العربيات اكتشف من جديد أو أنه صار أكثر عرضة للسلب مع تقدم الحياة الاجتماعية ودخول الحداثة والعصرنة والتطور إلى أماكن لم تنكشف في الماضي على ما يتيحه عالم الهايتك ووسائل التواصل الاجتماعي وأسواق العمل التي بدأ ربع السيدات يخضن غمارها.

ومن بين نداءات المتحدثين والمتحدثات بعد وقوع الجريمة الأخيرة كان نداء العاملة الاجتماعية والناشطة النسوية السيّدة سماح السلايمة لافتًا بما حمله من وضوح وشمولية، مع أنه جاء مكنوزًا ومقتضبًا. فلقد طالبت بضرورة تكثيف الجهود من أجل منع الجريمة وتطبيق القانون ومعاقبة المجرمين وأكدت على "ضرورة العمل على تربية أجيال أقدر وأفهم من الناحية النسوية" ووجهت حديثها إلى كل من "رجال الدين، والسياسيين، والسلطات المحلية، ولجنة المتابعة العليا للجماهير العربية الخالية من النساء تقريبًا". لا أعرف إذا كان ترتيب تلك العناوين مقصودًا منها لكنها حتى لو لم تقصد ترتيب تلك الجهات وفقًا لإمكانيات تأثيرها على مجتمعاتنا فإنني أراها قد أصابت بما فعلته لأنني أرى أن تأثير رجال الدين كان في المكانة الأولى لما يحظون به من إمكانيات تأثير ومنابر يبثون من فوقها تعاليمهم، ويتبعهم رجال السياسة والمؤسسات التمثيلية الكبرى وفي طليعتها لجنة الرؤساء ولجنة المتابعة العليا، فعلى جميعهم تقع المسؤولية الكبرى لمواجهة ظاهرة قتل النساء وعليهم أن يضعوا رؤاهم بحزم وبوضوح وأن يباشروا بتنفيذ ما يكفل البدء في السير على طريق أراه طويلًا وعدم الاكتفاء بمهرجانات الخطابة وببيانات الشجب والاستنكار التي تفيع كالسحاب بعد كل عملية قتل.       

كم أتوق وأتمنى أن يقع نداء سماح ورفيقاتها الناشطات في هذه الميادين على آذان صاغية وصدور مفتوحة وعقول مستعدة لتسيير إرادات المجتمع في وجه الجريمة والمجرمين .فأنا، في الحقيقة، لا أرى مخرجًا من هذه الآفة الضاربة جذورها في العقلية العربية منذ أن كانت البنت الوليدة عارًا على أهلها وقبيلتها، ولا أستشعر وجود مقوّمات جدية تبشر بنهوض جهات مؤثرة تعمل بحزم على نسف تلك الرواسب المعششة عميقًا في جينات العرب وتستهدف القضاء على الترب التي تنمو عليها السواعد القابضة على خناجر القتل وبلطات الإعدام، ويكفي أن نقرأ أن أكثر من نصف أبناء مجتمعنا يؤيدون قتل النساء بسبب شرف العائلة

أقول ذلك آسفًا ومستذكرًا عشرات حوادث القتل الأخيرة التي حصدت أرواحًا وتركت أحزانًا وأيتاما، فالسنين تمر والقتل يزداد وكأننا مجرد مجتمعات قاصرة أقرت عمليًا بعجزها وعدم قدرتها على تلمس نقطة ضوء بدل إدمانها على اقتفاء نقاط الدم المراق في عتمة حياتها الفاحمة.

أقول ذلك عن وجع وقد كتبت في الماضي أن "الحياة معهن أجمل" وصرخت في أحد مواسم الذبح الكريه أنني:  

كلّما أقرأ عن جريمة قتل يتيمة، سجّلت في حق "مجهول" أو قاتل باسم الشرف أقول: هنيئًا لك يا أيها الموت العاهر! فلك ما لنا ولك الكتائب والمجاهدون، بناة العزة/ الوهم وحماة الشرف المخبأ في شقوق أكعابهم/حوافرهم، أسياد التخلف والرياء، كهنة بابل والصحاري الخاوية. أغرف حتى البطر أو، يا ليت، حتى التعب.

وكلما ذبحت زهرة وبقر بطنها "مأمور الشرف" وسيّد العفة، لأنها خانت الرواية وما عادت تحتمل عتمة خوابي الزيت القديمة، أبكي على ماضٍ دفنوه حيّا في باحات بيوتهم وقصورهم وخيَمهم، وعلى حاضرٍ نسي المولّدون قطع حبل سرّته فبات طُرحًا مشوّهًا ناقص السمع أعشى البصر. حاضر يزهو برجالٍ عقولهم تتمدد بين أرجلهم ورجولتهم "تتعنطز"على حافة شواربهم المنتصبة، علماء بالادّعاء وفقهاء بالتشاوف والدم عندهم أرخص من "عفطة عنز".

الجرائم في حق النساء هي بمعظمها وليدة مجتمعاتنا وثقافتنا وقيمنا. لا أظن أننا نجيد خيارًا إذا أحلنا، كما نبرع دائمًا، مسؤولية هذه الظاهرة المأساوية وألحقناها فقط بالدولة الصهيونية وسياساتها العنصرية الجهنمية للنيل من مجتمعنا وضربه.

فالقصة تبدأ في البيت؛ كيف نفرح لمولودنا الذكر ونندب حظ الأنثيين. القصة تبدأ في البيت وكيف نضيء شموع الفخر والاعتزاز برجولة أطفالنا، فنحثّهم ليستعرضوا ذكاءهم الخارق ويدلوا على "حماماتهم"، موطئ الرجولة وضمان المستقبل. بينما لا نتوقف عن كيل التنبيهات والإرشاد والتعنيف إذا قفزت بنت وبان طرف فخذها أو إذا تحركت ولم تحافظ على التصاق الساق بالساق تكون الطامة كبرى وهي، هذه المسكينة الغضة الطفلة، تصير، بأعين مجتمع مريض، على حافة ارتكاب الرذيلة والسقوط في المعصية. هكذا وهن في عمر براعم اللوز والفل، فلكم أن تتصوروا ما حالهن إن تكعّب صدر أو نهد، وإن ماس قدّ وجاد عنق ! إنهن عالات ومناجم قلق، زواجهن سترة وملاذ، يجب التحرز عليهن وإخفاؤهن، وحتى إن أبلين بلاء الوطن وجب التعذر من ذاك القدر، فالحسناء عند العرب ترفع حجابها إذا غابت الرجال وبكى القمر.

إنه البيت. إنّها الحارة وأبوابها. إنّها المدرسة. إنّها العائلة. إنّها الكنيسة. إنّه المسجد. إنه نحن، المجتمع. إنّها تربية وثقافة وموروث.

فما الذي يمنع لجنة المتابعة العليا من تبني مثل هذه المسألة الحارقة الدامية ومتابعتها؟ وما الذي يبعد سلطاتنا البلدية والمحلية من احتضان هذه القضية وايفائها حقها وتأمين ميزانيات تكفي لتأهيل وتشغيل طواقم خبراء في مواجهة الجريمة والقتل؟ وما الذي يثني مدارسنا من تخصيص ساعات وحصص ومربين أكفاء ومؤهلين لتوعية الأجيال وللحديث عن هذه الآفة؟ ولماذا لا يتبنى الكهنة والأئمة هذه المصيبة ويخصصوا لها عظات وعظات، فلهم يسمعون وإيّاهم يقتدون.

على كل من يستطيع التأثير من موقعه أو من منبر أو منصة أن يثير هذه القضية ويعبر عن رأيه فيها بوضوح حازم.

فشرفنا بكرامتنا وحريتنا وتقدمنا وعلمنا واحترام ذواتنا والآخرين. لم يكن شرفنا يومًا بين أرجل حرائرنا ولن يبق على ما انتصب من شوارب أو ذيول أحلام مخفقة.

فليفعل كل واحد منا ما يستطيع، علّنا نبني معًا مستقبلنا الآخر الذي لن يكون إلّا إذا قبلنا مشتَهيات الفراش، عرائس الخيال الجامح، شريكات درب وحياة ونضال. فمعهن الحياة أجمل.

لن أفيَ، مهما أزيد وأكتب، حق هذا الموضوع ولكنني أضم صوتي لكل صراخ ضحية ذبحت على مذبح التخلف والقهر والهزيمة. أضم صرختي إلى كل من تصرخ ويصرخ في وجه هذه الأشباح الواهمة بأنّها تدافع عن شرف عائلة وقبيلة وقوم".

مرت السنين سوداء. سقطت الزنابق وقتلت الفراشات تباعا. ما زال حالنا يُبكي السرو ويدمع محاجر السماء. فلن أضحك على حالي ولن أكون بائع أمل خاسر وموهوم لأنني لا أعرف من أين سيأتي الفرج وكيف ومتى سنصبح أمّةً لا تقتل وتبرر أنهر الدم باسم السماء وشرف مهزوم ومزعوم وتعيش في بحور من كذب ورياء ودجل!  

ما أسعدني ما أشقاني! قبل شهر احتفلت بولادة حفيدتي الأولى. مناسبة علمتني وأنا في الستين من عمري كيف يتجدد الفرح ويكون ندّافًا وكيف تتدافع الأقمار لتنير عتمة العمر بسعادة وقادة.

بكت "لورنا" لتعلن بحتها أن لا حياة إلا تلك المنبعثة من قلب العدم ومن بحر الوجع والتيه. بكيت  فأخذتني الدمعة الى رفقة النجوم لأحلق معها عند حافة الكون، وعدت لأجدها أجمل الهدايا ونبعًا من ضوء وبركة.

بدأ المهنئون يتصلون ويتمنون لي مزيدًا من السعادة، وللحفيدة عمرًا كعمر الريح والزهر. ما أسعدني.

بعضهم، أحفاد الصحاري وأبناء تلك النار، تمتموا في أذني ودعوا أن "يزينها الله قريبًا بالصبية الذكور"، وآخرون همسوا متعذرين لولادتها أنثى، وتمنوا علي بالصبر فبعده حتمًا سيأتي الفرج، وعندهم، عند اخوتي العرب، لا يكون الفرج الا ذكرًا ابن ذكر. ما أشقاهم.

أغاظوني لكنهم لم يقهروا نطنطة قلبي. وبّخت كثيرين وتوقفت حين استوعبت أنني أواجه أكثرية في مجتمع آمن أجداده أن في الدنيا سرورين لا ثالث لهما: حياة البنين وموت البنات، والأهم أن جداتهم آمنت بأن: موت البنات من المكرمات.    

فمتى سنصير شعبًا يحفل بالحياة وجديرًا بها؟