صرخة لتقويم الاعوجاج في نظام التعليم السائد

بقلم: 

(إنذار متأخر قبل الطوفان)
نحو رؤية تعليمية عصرية جديدة

الباحثان: د. مفيد عرقوب و د. عودة مشارقة
تأتي هذه الدراسة، ونحن نعيش واقعاً عربياً، تداعت عليه المحن والفتن، ويواجه معارك تطحن اللحم والعظم والعقل، وجاء هذا العنوان المشاكس، ليؤكد أن قطاع التعليم هو من أهم القطاعات، وأن مهنة التعليم هي من أخطر المهن، فإن وقع خطأ في غير مهنة التعليم يسهل تصويبه، أما إذا وقع الخطأ في العملية التعليمية فسيكون المصاب فادحا، والخسارة كبيرة تطال جيلا بأكمله، لذا جاء التحذير من خطورة ما تعاني منه أنظمة التعليم العربية، فهو أخطر من رصاص البنادق؛ لأن البندقية قد تقتل شخصا أو أشخاصا، لكن القلم قد يدمر جيلا بأكمله، ويهدم حضارات إنسانية، وقد يقضي على تراث أمة، فتفقد هويتها وكينونتها.

ويعاني نظام التعليم العربي عموماً، والفلسطيني خصوصاً من مشكلات كثيرة، وتحديات كبيرة، وأزمات حقيقية، تعيق مسيرته، وتقف حجر عثرة أمام تقدمه وتطوره.

وتأتي هذه الدراسة لتسبر أغوار هذه المشكلات، وتلقي الضوء على العقبات والأزمات، التي تنخر في جسد نظام التعليم العربي المثخن بالجراح.
وتتزامن هذه الدراسة في وقت تتعالى فيه الأصوات مطالبة بإعادة النظر من جديد في نظام التعليم العربي برمته، وإعادة إخضاعه لميزان النقد العلمي، والتدقيق الموضوعي؛ بغية الوصول إلى نظام تعليمي قادر على مجابهة تحديات العولمة، والانفجار المعرفي، وثورة الاتصالات، والإنتاج الفضائي.

وقد جاءت هذه الدراسة الجريئة لتضع النقاط على الحروف، واصفة الواقع التعليمي كما هو، دون مبالغة أو إسراف. يقول الفيلسوف أبو يوسف الكندي (873-805): "يجب أن نتقبل الحقيقة ونبحث عنها، بغض النظر عن مصدرها، ولا شيء أهم من الحقيقة إلاّ الحقيقة نفسها".

إن نظام التعليمي في بلادنا في بنيته وتوجهاته وأساليبه، يعمل على تكريس مناخ الخضوع والاستكانة، والاتكالية؛ لأنه يعتمد على أسلوب التلقين، الذي هو أقوى وصفة لتحطيم الفرد والمجتمع؛ لأنه يقيِّد العقول المبدعة، وينتج العقول الخانعة الخاضعة المذعنة المشلولة، ويقوض من مهارات الإنسان، ويشل قدراته، ويهدر طاقاته، ويحد من إبداعاته. فتظهر لدينا الشخصية الاتكالية السلبية، الشخصية التي لا تؤمن بالحوار، الذي هو ضروري في التعليم، شخصية تقدم الولاء على الإنجاز، وتهدر الفكر والوعي والطاقات.

وهذا المناخ هو مناسب جدا لظهور الاستبداد، الذي لم يكن إلا وليد التعليم التلقيني الفوقي، والذي لا يروق إلا للإنسان السلبي الخاضع التابع العاجز الفاقد للثقة بالنفس.

ولمّا كان من نتائج التعليم التلقيني تقديم الولاء على الإنجاز، فقد تدهورت المعرفة والخبرة والمهارات؛ لأن الأهمية لا تعطى للتحليل والتطبيق، والتركيز والتقويم، وإنما تُعطى للحفظ والاستظهار؛ مما جعل التعليم يتخذ طابع النظام البنكي، حسب تعبير باولو فريري رائد التربية النقدية في أمريكا اللاتينية، فهو يرى أن التعامل البنكي يُودع كي يُسترجع، بمعنى إيداع المعلومات في ذهن الطالب عن طريق التلقين؛ كي تُستعاد على ورقة الامتحان، ثم تسقط من الذاكرة، ولا تدخل البنية الثقافية للمتعلم.

والمعلم في نظام التعليم التلقيني، هو مالك الحقيقة والمعلومة وحده لا شريك له، فما على الطالب إلا إرخاء أذنه لتلقي هذه الحقائق اليقينية، وقد يُتاح له بعض التساؤلات، لكنها لا تتعدى استيضاح ما استغلق عليه فهمه من غامض الكلام.

ولهذا فإن المعلم أصبح أداة للتلقين والاستبداد وقمع الأفكار؛ مما جعل التفكير ينحدر إلى درك الاستظهار الساذج، وهذا بحد ذاته قَتْل للفكر الحر؛ لأن الفكر الحر يحاور ولا يستظهر، ذلك أن الاستظهار البليد، هو إقالة للعقل وتعطيل له.

والتعليم القائم على التلقين كما يقول د. مصطفى حجازي " يعزز في العقل الخرافة والتقليد، ويظل التعلم قشرة خارجية تنهار عند الأزمات، لتعود الشخصية إلى نظرتها الخرافية"، ويقول أيضا نقلا عن (د. بدران ود. الخماش، الخرافة) " إن العلم لا يشكل بالنسبة إلى العقل المتخلف أكثر من قشرة خارجية رقيقة، يمكن أن تتساقط إذا ما تعرض هذا العقل للاهتزاز".

والمناهج التعليمية هي الأخرىصيغت في قالب لا يمكن لغير التعليم التلقيني من احتوائه، فقد طفحت هذه المناهج بالتواريخ المكتظة، وبالوقائع والانتصارات، فركزت على الماضي البعيد، على حساب الحاضر الوليد، فأنجبت جيلا يعيش على الأطلال البائدة، ويقتات على الأمجاد الضائعة.

وعليه، فبدلا من التركيز على الحاضر واستشراف المستقبل، نرى المنهاج يشدنا إلى الماضي التليد، حيث الحضارة المزدهرة، وكأننا الأمة الوحيدة التي كانت تمتلك مثل هذه الحضارة، متجاهلين حقيقة أنه ما من شعب على وجه البسيطة، قد هبط _بقدرة قادر_ من السماء، أو من سطح المريخ، كما غاب عنا أن شعوب الأرض جميعها هي امتداد لأجيال سبقتها منذ آلاف السنين، ولم يكن الامتداد الزمني الطويل سبباً في تميز حضارة عن تلك في عصرنا الحاضر، فأمريكا مثلا تتربع الآن على عرش الحضارات، بينما عمرها لا يتجاوز خمسمائة عام ونيف.

وهكذا أوقعتنا هذه المناهج الصماء في ظلام العقل لتحجب عنا رؤية الحاضر، فضلا عن المستقبل، وهي بذلك ساهمت فيما وصلنا إليه من التعصب العقلي، والتحجر الفكري، والانغلاق الحضاري، وذلك بعد إغراق هذه المناهج بأمثلة الماضي، ويُقدم التاريخ بتفاصيله كحقائق يقينية ثابتة؛ مما ضاعف من هالات التقديس حوله، فأصبح في نظر الأجيال كأنه كلّه صلاح، وتلك الأمجاد هي كلهاأمجاد صالحة، وكأن هذا التاريخ ليس من صنع بشر، يلازمهم التناقض والأخطاء والأهواء، وهذا ما حرم النشء الجديد من الرؤية الموضوعية، فأصاب بنيتهم المعرفية والوجدانية والأخلاقية بالخلل والعطب؛ ولهذا السبب بالذات فإنك تجدهم عند كل منعطف خطير، يميلون إلى النحيب على الماضي المجيد.

وقد غاب عن مناهجنا أن بناء الحاضر، إنما يتم بجهد الأحياء، وليس بالاكتفاء بما بناه الأموات، ولهذا نقول دون مجازفة أن مناهجنا ليست صالحة لإنجاب العقول المبدعة، وأن تاريخنا العربي الذي يُقدَّم للمتعلم كحقائق محاطة بهالات التقديس، لا يترك مجالا للتساؤلات حوله، وبالتالي تقييمه ومراجعته.

إن أخطر ما في هذه المناهج أنها تتطلع إلى الماضي أضعاف ما تتطلع فيه إلى الحاضر والمستقبل، خصوصاً وأن هذا الماضي يزدحم بكثير من القيم، بعضها جيد ينبغي التمسك به، وبعضها سيء يتعين التخلص منه ومحاربته، ومن هذه القيم الثأر، تلك القيمة التي يتعين محاربتها واجتثاثها من ثقافتنا.

وحتى لا يُساء فهمنافإننا لا ندعو ولا بأي حال من الأحوال إلى التنكر لتراثنا العريق العميق وثوابته الأصيلة المتغلغلة في عروق عروبيتنا، وروح حضارتنا، وسماحة ديننا، إنما ندعو إلى عدم الإفراط والمغالاة في تركيز مناهجنا على الماضي والتغني بأمجاده؛ لأنه يلهينا ويحجب عنا رؤية الواقع المؤلم الذي نعيشه تحت سياط التخلف، الذي ينمو ويترعرع في عقول أطفالنا، ويجعلهم يسيرون بأقدامهم إلى الأمام، بينما تتجه رؤوسهم إلى الخلف، حيث أكفان الموتى الدامسة، وجماجم القبور الرامسة، ليصبح العالم من حولنا يمور بالحركة والعمل والإبداع، بينما نبقى نحن نرسُف في أغلال التخلف والتحجر الفكري.  

وهكذا فقد سادت في هذه المناهج النظرة التقريرية، وغابت عنها النظرة النقدية، تلك التي تنظر إلى الماضي بعين العقل والنقد والتحليل والتشريح. ورغم المحاولات الحثيثة الرامية لإصلاح هذه المناهج، إلا أن هذه الإصلاحات والتغييرات ظلَّت سطحية، بحيث لامست القشرة الخارجية فقط، وبالتالي مُنيت بالفشل الذريع كسابقاتها، رغم محاولات تغليفها ببريق الحداثة، قلا جديد ولا مزيد، والشجرة المرة لا تثمر إلا ثمراً مرًّا، حتى لو طليتها بالعسل.
كما تعاني المناهج عبئاً آخر يتعلق بضآلة محتواها العلمي والتطبيقي، فكثير منها نفعه قليل، وعبؤه كبير، ويحتاج إلى استبعاد كثير من المعلومات والتفصيلات غير الضرورية، وتنقيته من كل حشو وزيادة.

ومن المشاكل الجوهرية التي يعاني منها نظام التعليم العربي أيضا، هو سوء التخطيط، وغياب الاستراتيجيات، التي تسهم في إعداد جيل قادر على مواكبة التطور والتقدم والانفجار المعرفي والفضائي، وتتجاهل حقيقة أن العولمة _ شئنا أم أبينا _ قد أرخت بظلالها على معظم مناحي حياتنا، محمولة على أكتاف التكنولوجيا والاتصالات الحديثة، التي حولت العالم  إلى ساحة يتكاثر مرتادوها يوماً بعد يوم، وخصوصاً فئات الصغار واليافعين، وهو ما جعل العالم يعيش واقعاً آخر افتراضياً، فضلاً عن واقعه المعاش، وهو ما تفتقد إليه الأهداف التربوية والتعليمية في البلدان العربية.

ألا يستدعي هذا التحول الجذري في العالم من حولنا إلى إعادة صياغة الاستراتيجيات والأهداف التعليمية من جديد، في ظل الانفتاح الكبير بين الدول، وفي ظل التداول السريع للمعلومات، الذي أنتجته تكنولوجيا الاتصالات؟ ألم يؤد كل ذلك إلى ظهور منظومة جديدة من القيم مستمدة من الواقع الافتراضي؟ أو لسنا الآن أمام علاقات اجتماعية واقتصادية بمقاييس جديدة؟ ألم يؤد ذلك إلى تراجع أهمية الثقافة المحلية والإقليمية مقابل القيم الحديثة؟ ثم لننظر إلى الأطفال اليافعين، ألم يُغرقوا أنفسهم في وسائل ترفيهية إلكترونية تشد انتباههم، وتكتسح أوقاتهم؟ بينما ما زالت روضاتنا ومدارسنا تعلمهم (طاق طاق طاقية)، كوسيلة ضرورية من وسائل الترفيه.

إن هذه التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، قد كشفت مدى العجز والقصور والتخلف، الذي غرق فيه نظام التعليم في بلادنا، وهو ما تؤكده النتائج على الأرض، وكذلك التقارير الصادرة عن الهيئات المحلية والمنظمات الدولية، إذ أكدت على ضعف مخرجات المنظومة التربوية في سوق العمل، وهذه المخرجات فشلت أيضا في تنمية قدرات المتعلمين اللغوية، التي تمكنهم من التواصل بشكل سليم مع المجتمع المحلي وسوق العمل؛ مما أدى إلى انغلاق المدرسة على نفسها.

إن كل هذه النتائج تعمق لدينا القلق والخوف على مستقبل أبنائنا، الذين تواجههم صعوبات جمة في الالتحاق بسوق العمل، هذا السوق الذي يشترط الخبرة والكفاءة، وهو ما لا تستطيع المدرسة أو الجامعة تلبيته، في ظل وجود فجوة كبيرة غير قابلة للردم بين ما هو نظري، وما هو عملي.

ومما يشكو منه نظام التعليم في معظم البلدان العربية، هو عدم ربط جوهر العملية التعليمية بالتكنولوجيا الحديثة، فليس هناك تفاهم بين عناصر عملية الاتصال التعليمي، التي تشمل المرسل (المعلم)، والمستقبل (المتعلم)، والرسالة، وقناة الاتصال؛ لغيابالتوظيف الفعال لوسائل التكنولوجيا الحديثة في العملية التعليمية التعلمية، ولم يجر توظيف الإمكانات الهائلة التي تقدمها التكنولوجيا في التعليم، من أجهزة وبرمجيات وغيرها.

ورغم كل المحاولات في توظيف التكنولوجيا في التعليم، إلا أن هذه المحاولات اصطدمت بسيادة النظرة التقليدية للموقف التعليمي، وسلبية المعلم، وعدم التركيز على الأنشطة في تحقيق الأهداف، ولم تستطع هذه المحاولات منح المعلم شعوراً مفاده: أن استخدام هذه الوسائل لا يشكل عبئاً ثقيلاً عليه.
وإذا كانت الأمية هي من أكبر الأمراض القديمة التي تعاني منها البلدان المتخلفة وأخطرها، إلا أننا اليوم نقف على أعتاب مرض هو أشد فتكاً، وأعظم خطراً، وأكبر ضرراً، وهو مشكلة الجهل والتخلف،الذي هو المناخ المناسب لتفشي الفساد والاستبداد في العملية التعليمية.
وإذا كان التعليم العربي الذي يواجه كل هذه المشكلات والتحديات، فإن هذه المشكلات تتزايد، والتحديات تتفاقم على الصعيد الفلسطيني. وإذا كان العرب بسبب ذلك مهددين بالطرد من التاريخ، فإن الشعب الفلسطيني يواجه خطر الفناء، لذا يبدو إصلاح نظام التعليم وإعادة تصحيحه من جديد، هي مسألة حياة أو موت بالنسبة للشعب الفلسطيني، وأن بقاء النظام التعليمي القائم على التلقين، والمستند إلى إلغاء لغة الحوار والتعليم بالتفكير، وعدم تقبل احترام الرأي والرأي الآخر، هو تعطيل للعقل وتبخيس له، إلغاء للتقدم وتهميش له، وكل ذلك يؤدي إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
وهكذا فالتعليم القائم يعطل العقل ويشلّ التفكير، وهو بذلك مسؤول عن تفشي سرطان الفساد والاستبداد في البلدان العربية، والتعليم القائم على التلقين يئد لغة الحوار في مهدها، ولا يتقبل الرأي الآخر، وهذا يؤدي إلى إضعاف العلاقات الاجتماعية، ويعمق من شروخ الانقسامات، ويزيد من التفسخ المجتمعي؛ مما يؤدي إلى الاقتتال والحروب في البيت الوطني الواحد.

والتعليم الذي يَعْقِل العقل، ويُخرِّج الجهلاء والسفهاء، ويغذي الخرافة والشعوذة، ويضلل الناس؛ فإنه  يجعلهم يتقبلون الأفكار الغيبية المسرفة في تطرفها وتعنتها وتحجرها، وتصبح هذه الأفكار رائجة ومقبولة ومعقولة، فيختلط المعقول بغير المعقول، والمقبول بغير المقبول، ويصبح المؤمن كافراً، والكافر مؤمناً، والمجرم بريئاً، والبريء مجرماً، والمسكين خطيراً، والخطير مسكيناً، ويختلط الحابل بالنابل، وتنحرف البوصلة، ويضيع الهدف، وننقطع عن العالم، لنعيش بين أكفان الأموات تهيمن علينا أرواحهم، ونقتات على بقايا أمجاد تليدة، وكأننا الأمة الوحيدة التي تمتلك الحضارة الوحيدة المجيدة التليدة.

وعليه فالنظام التعليمي الحالي أدى إلى تشتتنا وانقسامنا وتشرذمنا إرباً إرباً، فبدأت طبول الحرب الطاحنة تقرع في أكثر من مكان، تقودنا إلى خراب البلاد، وفناء العباد، وأصبح وطننا العربي مكاناً موحشاً، لا يشعر المواطن فيه بالأمان، فضاقت الأرض بما رحبت، واضيقَّت الأوطان بأهلها، لدرجة أصبحت غاية غاياتنا هو أن نتمكن بنجاح من الوصول إلى بلد (الكفار)، حتى لو أدى ذلك إلى أن نقدم أجسادنا غذاءً تقتات عليه الحيتان والأسماك، والجوارح الجائعة، إذ لا يُعقل أن يعيش الإنسان في بلده الذي تُداس فيها حقوق الإنسان، وتحتضر فيها الديموقراطية، وتُسحق فيها القيم.

إن نظاماً تعليمياً متخلفاً كهذا، جعلنا نصبح ونمسي على أخبار الذبح والقتل والتدمير، وأصبحت بلادنا العربية بؤرة للفتن والحروب والإرهاب والأزمات، التي لا تزيدها الأيام إلا تفاقماً واحتداماً، ونخشى ما نخشاه أن تنقسم هذه البلاد إلى دويلات جرداء بلقاء متنازعة متصارعة، فتحترق الأوطان على رؤوس قاطنيها، فيموت من يموت، ويهرب من يهرب، وتحتضر المؤسسات، وتتفكك الجيوش. ألا يكفي كل هذا الهول العظيم، والظلم المقيم؛ لنقرع الإنذار الأخير أو قبل الأخير؛ كي تتحرك العقول نحو سبب الداء وعلة العلل، وهو نظامنا التربوي العربي الفاسد؟
إننا نقولها بجرأة أن نظامنا التعليمي هو المسؤول الأول والأخير عما وصلنا إليه الآن، وإن هذه المساهمة المتواضعة ما هي إلا ملامح لرؤية قد تُسهم في إعادة النظر في نظام التعليم السائد.

وإذا كانت الخطط التي تعج بها وزارات التربية ولجانها المتعددة تصب جام سهامها على محو الأمية، رغم أهميتها، فقد كان الأولى أيضا أن توجه هذه الخطط لمحاربة الجهل والتخلف، فما الذي يعود على أمتنا إذا بلغ فكاكو الخط وعارفو الأرقام 99% ما دامت العقول أسيرة، والطاقات حبيسة، والقرائح كابية، والأبصار حسيرة!! علينا أن نعي أن من يتحولون إلى فريسة لشبكات الإرهاب، إنما هم على الأغلب ممن يعانون الجهل، إذ إن الدرب الذي سار عليه نظام التعليم، هو درب عقيم مفلس سقيم، إلا إذا كان الهدف الأساسي من التعليم هو تعميق التخلف الذي ترعاه التربية في أسلوبها التلقيني.
إن هذه المخاطر تشكل كارثة بالنسبة للعرب جميعاً؛لأنها قد تهددهم بالطرد من التاريخ والجغرافيا؛حيث أصبحوا في نظر العالم حمولة زائدة على التاريخ والجغرافيا.

أما الشعب الفلسطيني فمعركته أشد ضراوة؛ لأنه يواجه محتلا يبتغي اقتلاعه من أرضه، ويتمنى فناءه في كل وقت وحين، يمارس كل أشكال القتل والإرهاب، لا تأخذه به إلاً ولا ذمة، ومن هذا المنطلق لا يمكن لهذا الشعب الخلاص من هذا الظلم المقيم، ومواجهة هذا الهول العظيم، إن بقي يخوض معاركه وهم منقسم، فعلينا أن نجابه المحتل موحدين لا منقسمين، بعقلية علمية، لا عشائرية ولا قبلية؛ لأن المحتل الذي نواجهه مسلح بالعلم والمعرفة والدهاء، والرؤى الاستراتيجية لعواقب الأمور ومآلاتها.

وإن نظاما تعليميا كالذي نحن بصدده، لا يستطيع إعداد الجيل القادر على مجابهة تحديات العصر وتحديات المحتل. هذا النظام التعليمي الذي لا يختلف عن مثيله في العالم العربي، لا يؤدي إلى إطلاق العقول والأدمغة، وإيجاد لغة الحوار، وتقبل الرأي والرأي الآخر، بل نحن أمام نظام بالٍ أنجب جيلا أسوأ منسابقه؛ لأن حرية التفكير والحوار لم تكن إحدى مخرجاته، وأصبحت قدرة الجيل على تجييش المشاعر واستنهاض الحماس، أكثر من قدرته على التحليل والإبداع واستخلاص العبر، ومعرفة مكامن قوتنا وضعفنا، ومكامن قوة المحتل وضعفه.
إن الانقسام والثقافة الفردية لا تحرر قمَّ دجاجة، فكيف بها تحرر أوطانا؟! وإن الحل هو في أن نُيَمِّمَوجوهنا شطر العلم والنقد والحوار؛ لنصنع نظاما تعليمياً عصرياً.
وأنه في ظل تدهور العملية التربوية، وضعف أدائها وتقهقر نتاجها، وعجزها عن الوصول إلى غاياتها وأهدافها، يتوجب علينا البدء في فتح حوار وطني شامل وعميق، يعالج المشكلات التي يواجهها قطاع التعليم، ويجيب عن الأسئلة العميقة؛ لأن قضية التربية والتعليم هي قضية مجتمعية؛ ولهذا فإنه ينبغي اليوم _ وليس غدا_ إطلاق الحوار، وإشراك كل أطراف العملية التعليمية التعلمية؛ للوصول إلى مجموعة من المبادئ، كمقدمة لإيجاد الحلول الشاملة التي يعاني منها التعليم في فلسطين، والذي ينوء ويرسف بالمشاكل والأعباء والأغلال.

ومن هذا المنطلق فإن القيام بهذه الثورة التعليمية، يحتاج إلى دعم سياسي على كافة المستويات؛ للوصول إلى منهاج جديد ذي نكهة فلسطينية. والمطلوب من الدول العربية التي ما زالت على قيد الحياة، أن توجه بوصلتها نحو التعليم، وتعيد النظر في أنظمتها التعليمية، قبل فوات الأوان، وخراب الأوطان.
إن نظامنا التعليمي فاشل ثم فاشل؛لأنه سلب عقول النشء الجديد، واستلب إنسانيته، إفقاراً وامتهاناً وإفساداً وتعذيباً، وغرس فيه ثقافة العنف والتسول والتزلف والنفاق واللامبالاة والخرافة والدروشة والشعوذة، وعمّق الاستبداد والظلم والرشوة والمحسوبية، وشراء الذمم.
لقد أفسدت هذه المناهج هذا الجيل، وعطّلت أخلاق المواطن، وأصبحت الساحات العربية ساحات صراعات واشتباكات، واشتعلت فيه نيران الفتن، بألوانها المختلفة، من مذهبية وقبلية ودينية، وفي هذه الصراعات تستباح الدماء، وتنتهك الأخلاق، وتصبح ثقافة الذبح فروسية.
لقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى، فعلينا أن نحاسب أنفسنا، ونقيِّم نظامنا التعليمي، ونرى ما آل إليه من أخطاء، وما سلكه من مسالك مسدودة، قبل أن يحاسبنا التاريخ ذو الحساب العسير، وإن ضالتنا هو نظام تعليمي يستدرك النقص فيتمه، ويَلمس المقيَّد فيُطلقه، ويأخذ المطلَق فيحدُّه، ويطلق العقل الأسير فيحرره، ويفتح الذهن البليد فينعشه؛ لينجب جيلا تملؤه العزة بالنفس، وتُزرع فيه الفضائل والأخلاق الحميدة.

إن الثورة التي يدعو إليها الباحثان،لا تستهدف هدم النظام التعليمي برمته، بل إعادة صياغته من جديد، وإبقاء كل ما هو إيجابي وتعزيزه، ثورة رياحها عاتية، تقتحم الشجرة لا لكي تقتلعها من جذورها، بل لتكسر أغصانها اليابسة، وتُسقط أوراقها الصفراء، ثورة تعدّ العدة لاقتحام المستقبل بفكر مستنير، قادر على إعداد جيل يوظف التحديات ويحولها إلى إنجازات، وبذلك نكون دخلنا المستقبل من أوسع أبوابه، فمن يزرع القمح يأكل خبزاً، ومن يزرع الزوان يحصد هشيماً.  
إن الجهل والتخلف الذي هو حصاد التعليم القائم على التلقين، لهو عدو لدود رابض داخل البيت العربي والفلسطيني، يفرض سياسته وهيمنته وسطوته على العقل العربي، فيفسده ويعطله ويكبله.

وعلينا أن نقر بأن المدارس والجامعات، ما هي إلا مراكز تلقين وترويض وإخضاع، فالتلقين أساس المنظومة التربوية برمتها، وهو بدوره يسهم في ترويض العقل وإخضاعه، لأنه يسجن العقول وراء قضبان التخلف والجهل. 

إزاء كل ذلك فالمطلوب هو إحداث ثورة في جهاز التربية والتعليم المريض، والعاجز تمكنه من الاطلاع بدوره، وتحمل مسؤولياته، وإعادة صياغة المنظومة التعليمية برمتها، وفق منهج جدلي علمي جديد، قائم على الحوار والتفكير وحرية الرأي، والإصغاء المتبادل، وتأصيل قيم النسبية في التفكير،كل ذلك ضروري لقطاع التعليم؛ لإعادة الحياة إلى عروقه التي جفَّت.

وهناك نوع آخر من المشكلات التي يُطلق عليها المشكلات الخفية في المناهج (Hidden Curriculum) وهي حسب تعريف فيليب جاكسون ما تُعلمه المؤسسات التعليمية للمتعلمين من سلوكيات اجتماعية، واتجاهات وقيم ومعارف خارجة عن نطاق الكتاب المدرسي، واللوائح المكتوبة، فالمدارس مثلا تُعلِّي من قيم النظافة وحسن التعامل والحرية والعدالة والديموقراطية في مناهجها، لكنها بحاجة إلى ممارستها داخل أسوار المدرسة، وأي تناقض في ذلك سيؤدي إلى تفوق الواقع العملي على النظري، فما قررته الكتب المدرسية بددته الممارسات العملية؛ لأنه أثقل في الميزان مما يقال باللسان، وعلى رأي الإمام الغزالي، فإن أهل الأبصار أكثر من أهل البصائر،وعلى هذا، فإن التربية هي عملية اجتماعية تحتاج إلى التناغم بين المقاصد المعلنة والممارسات الميدانية.

إن تسليطنا الضوء على ما يواجهه التعليم في فلسطين من مشاكل وأمراض، تكاد تكون مزمنة، لا يحجب عن أعيننا جميع المحاولات المخلصة، التي تقوم بها وزارة التربية والتعليم العالي، وعلى رأسها معالي وزيرها، الذي لا تنقصه الخبرة والدراية والعزيمة، فلا جُحد لما قاموا به من جهود حتى الآن، لكنها جهود دون ما يتوقعه أهل الطموح، وأن المشكلة التي نحن بصددها، لا تكفي معالجتها بإصلاحات هنا وهناك، خصوصا وأن ثوب التعليم أصبح مهترئا، إذ كلما رقعته من جانب زعزعته الريح من جانب آخر.

بقي أن نقول، أن ما استعرضناه من تشخيص لأمراض وعلل النظام التعليمي في فلسطين، هو جزء من دراسة قام بإعدادها الباحثان، استغرقت أكثر من أربعة وعشرين شهرا ً، وسيقومان بنشرها كاملة في كتاب عما قريب إن شاء الله.