التقدير الاستراتيجي لإسرائيل 2012-2013

الـولايـات الـمـتـحـدة فـي الـشـرق الأوسـط

بقلم: عوديد عيران

مع بدء ولايته الثانية كرئيس للولايات المتحدة يقف باراك أوباما أمام شرق أوسط جديد. فالنظام القديم تناثر حطاما، وحتى الآن لا تبدو علائم واضحة لأي نظام جديد. والخروج عن المعهود، القوى المتصارعة مع بعضها والتحالفات التي بدأت في الظهور على خلفية الانتفاضات في العالم العربي، والتي للولايات المتحدة أيضا ضلع فيها، يمكن وصفها بأفضل سبيل بالكلمات التالية:

«التحالفات متقلبة، تتحدى المنطق، غير مألوفة ومتحولة. والأنظمة الدينية. تدعم العلمانيين؛ والطغاة يؤيدون الديموقراطية؛ والولايات المتحدة تبلور شراكات مع الإسلاميين؛ والاسلاميون يؤيدون التدخل العسكري الغربي. والقوميون العرب يصطفون إلى جانب أنظمة طالما حاربوها، كما أن الليبراليين يساندون إسلاميين سبق لهم أن تصارعوا معهم. والمملكة العربية السعودية تدعم العلمانيين ضد الإخوان المسلمين والسلفيين ضد العلمانيين. والولايات المتحدة متحالفة مع العراق، المتحالف مع إيران، التي تدعم النظام السوري، الذي تأمل الولايات المتحدة المساعدة في اسقاطه. كما أن الولايات المتحدة أيضا متحالفة مع قطر التي تدعم حماس، ومع المملكة العربية السعودية التي تمول السلفيين الذين يلهمون الجهاديين الذين يقتلون الأميركيين أينما كانوا قادرين». (من عرض راحيل بيرمان وكميرون براون لكتاب حسين آغا وروبرت مالي «This Is Not a Revolution», The New York Review of Books, November 8, 2012)
وسيكون على الرئيس الأميركي في ولايته الثانية العثور على حل وسط بين اتجاهي عمل مركزيين في الشرق الأوسط. في ولايته الأولى قاد الولايات المتحدة إلى خارج أفغانستان والعراق. وفي سعيه لطرد النظام الليبي السابق رد على مبادرة الرئيس الفرنسي السابق و«قاد من الخلف» الجهد العسكري. وفي سوريا تجد الولايات المتحدة ورقة توت في الموقف الروسي - الصيني، الرافض لاتخاذ قرار في مجلس الأمن يجيز استخدام القوة العسكرية، وهو يختفي خلف هذا الموقف موضحا واقع عدم اتخاذه خطوات عسكرية ضد نظام الأسد. وفي النصف الثاني من ولايته الأولى أعفى الرئيس الأميركي نفسه من مساعي التوصل إلى تسوية سياسية في المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية.
وثمة إغراء كبير للإدارة الأميركية بالمحافظة على اتجاه العمل هذا أيضا في الولاية الثانية، لكن هناك احتمالات عالية بأن تضطر الولايات المتحدة للضلوع والمشاركة بشكل أعمق مما يريد البعض في واشنطن والمنطقة نفسها.

الجهد النووي الإيراني

سيطرت هذه المسألة على الحوار الأميركي - الإسرائيلي في أعوام 2009-2012، حينما حاول الطرفان التوصل لاستراتيجية مشتركة لمواجهة الجهد الإيراني لامتلاك قدرة نووية عسكرية لكنهما فشلا في ذلك. صحيح، أن هناك هامش اتفاق واسعا بين الولايات المتحدة وإسرائيل في هذا الموضوع، لكن هناك عدة قضايا مركزية تغلب فيها الخلاف بينهما، وهو ما قد يتجدد في المستقبل القريب.
وفي المناظرة بين المرشحين لرئاسة أميركا، التي خصصت للسياسة الخارجية، أعلن الرئيس أوباما أنه «ما بقيت رئيسا للولايات المتحدة، فلن تملك إيران سلاحا نوويا». وهذا إعلان مطمئن جدا، لكنه لا يوفر ردا واضحا على أسئلة جدية، مثل ما الذي ستفعله الولايات المتحدة أو إسرائيل إذا واصلت إيران تخصيب اليورانيوم بالمستوى الحالي (عشرين في المئة) من دون أن تحاول امتلاك قنبلة، لكنها في الوقت نفسه ستصل قريبا إلى نقطة اللاعودة. وهذا السؤال وأسئلة أخرى خلقت مواجهة ثاقبة بين المرشحين لرئاسة الولايات المتحدة.

في ربيع العام 2012 شرعت إسرائيل في إطلاق الرسائل، التي تفيد بأنها لن تسمح لنفسها بالانتظار أطول وأنها قد تهاجم من جانب واحد بهدف عرقلة المشروع النووي الإيراني. وردا على ذلك أرسلت إدارة أوباما قادة الجيش والمؤسسة الديبلوماسية إلى القدس لإقناع إسرائيل بأن بوسعها الاعتماد على أميركا في أن تضع حدا لمشروع إيران، بما في ذلك اللجوء للقوة العسكرية إذا اقتضى الأمر بعد أن تفشل كل الخيارات الأخرى. وبغية إظهار أن هذه الوعود موثوقة ولطمأنة حلفائها، اتخذت الولايات المتحدة سلسلة تدابير - عدا الحرب الفعلية - لزيادة قدراتها الهجومية. وخلال شهري حزيران وتموز 2012 بعثت حاملة طائرات أخرى إلى الخليج، وأضافت سفينة (USS Ponce) إلى اسطولها في الخليج، وهي سفينة تعمل كحاملة طائرات هيلوكبتر وقوات خاصة، وزادت قدرات ازالة الألغام، بما في ذلك استخدام طائرات من دون طيار تحت بحرية لاكتشاف الألغام وتدميرها. كما أنها بدأت ببناء محطة رادار في قطر للحماية من الصواريخ. وفي أواخر أيلول 2012 أجرت الولايات المتحدة وأكثر من 25 دولة أخرى مناورات هي الأوسع أبدا لإزالة الألغام، ومناورات حربية أخرى في الخليج، بهدف زيادة قدرات الرد على أي عمل عسكري إيراني هناك.

وظلت مسألة ما إذا كان الرئيس الأميركي سيكون مستعدا لاستخدام القوة العسكرية، إذا فشلت الوسائل الأخرى، نقطة خلاف محتمل آخر وأساس لانعدام الثقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وإسرائيل تؤيد فرض العقوبات ولا تعارض التوصل إلى حل بوسائل ديبلوماسية. ويعترف مسؤولون إسرائيليون بأن العقوبات التي تبنتها الأسرة الدولية، وخصوصا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تركت أثرها أيضا على إيران. وهم أيضا لم يردوا علنا على التقارير القائلة بأن الولايات المتحدة وإيران ستجريان مفاوضات مباشرة بعد انتهاء الانتخابات الأميركية. ومع ذلك، منطقي الافتراض أن إسرائيل ستضغط لتحديد إطار زمني محدد وقصير نسبيا لهذه المحاولة وستسعى الولايات المتحدة لمنع إيران من استخدام أنماط العمل المعهودة لديها، والتي أساسها تكتيك المماطلة، وستمتنع عن إزالة العقوبات القائمة (أو أنها ستزيد عليها عقوبات جديدة) وبالتأكيد ستمتنع عن إزالة الخيار العسكري عن جدول الأعمال.

إن جدول أعمال المباحثات المحتملة بين الولايات المتحدة وإيران والشروط المرافقة لأي اتفاق محتمل بينهما، يمكنه أن يشكل بؤر الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة. وينبغي لهذه القضايا أن تبحث ويتفق بشأنها سلفا بين الدولتين. وإيران صاحبة قدرة نووية عسكرية تعتبر خطرا مركزيا على المصالح الأميركية. والمخزون النووي سيسمح لإيران بزيادة دعمها للإرهاب، وتوسيع نفوذها الإقليمي على حساب حلفاء الولايات المتحدة، وزيادة مساعدتها للجهات المعارضة لإسرائيل - كل ذلك مع مستوى حصانة أعلى. وإيران النووية ستضع علامة استفهام حول صمود اتفاق حظر انتشار الأسلحة النووية ويمكن أن يقود إلى انتشار الذرة في دول أخرى، خصوصا في الشرق الأوسط.

وليس منطقيا أن توافق الولايات المتحدة على شروط تتعلق مباشرة بإسرائيل (أي الإشارة إلى مسألة قدراتها النووية). ومع ذلك، فإن موافقتها على تأييد وثيقة تدعو إلى عقد مؤتمر يبحث في«منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الأوسط»، والتي صيغت بصورة تميل ضد إسرائيل ومن دون إشارة للشروط المسبقة التي وضعتها لذلك، سببت قلقا عميقا في القدس.
والقضايا الأخرى التي يمكن التباحث بشأنها سلفا بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول المباحثات المحتملة بين الولايات المتحدة وإيران تشمل تخصيب اليورانيوم في إيران نفسها، منظومة المراقبة ومسائل تتعلق بالانتهاكات. كذلك ينبغي التوصل إلى تفاهم مسبق بين إسرائيل وأميركا حول الخطوات التي ينبغي اتخاذها حال فشل الترتيبات التي ستنجز مع إيران.
ورغم التعاون الوثيق بين إسرائيل والولايات المتحدة، ينبغي لهما مواصلة العمل بهدف التوصل إلى تفاهمات بشأن الخيارات الديبلوماسية والعسكرية على حد سواء. وينبغي للدولتين تجنب الانجرار ثانية إلى مداولات علنية انتقادية على شاكلة صيف 2012 والحفاظ على جبهة موحدة. والأمر سيساعد بقدر كبير مساعي منع إيران من تحقيق أهدافها.

«الربيع العربي»

منذ الحرب العالمية الثانية تحركت السياسة الخارجية الأميركية بين قطبين - تحقيق مثالها الديموقراطي من جهة ومصالحها الأمنية والاقتصادية من جهة أخرى. وجاء «الربيع العربي»ليفاقم هذه المعضلة جراء أن نتائج الانتخابات الحرة في أعقاب سقوط الأنظمة المتحالفة تقليديا مع أميركا في العالم العربي أفرزت حكومات تحت قيادة الإسلاميين. ورغم تاريخ هؤلاء المعادي لأميركا وانتقاداتهم الشديدة لدورها في المنطقة، شعرت واشنطن بأن ليس بوسعها الاختلاف علنا مع نتائج الانتخابات الديموقراطية هذه. وأدخلت انتصارات الإسلاميين العلاقات بين أميركا ودول مختلفة في المنطقة مرحلة السيولة. والأمر بدا واضحا في مصر، حيث فاز محمد مرسي، رجل «الإخوان المسلمين»، بالرئاسة حزيران 2012. وهو ما جرى أيضا في تونس حيث فاز حزب النهضة، الذي كان محظورا في السابق، بمعظم المقاعد، وكذا في اليمن، حيث فاز الإسلاميون بدعم واسع. في ليبيا، الدولة الوحيدة الذي هزم فيها المعتدلون الإسلاميين، هوجمت القنصلية الأميركية وقتل السفير في بنغازي ما جدد القلق في واشنطن.

وثمة أهمية خاصة لمثلث علاقات القاهرة - واشنطن - القدس. وصعود «الإخوان المسلمين»إلى الحكم في مصر، شكل التحدي الأكبر للسياسة الأميركية عام 2012. وكما تصرفوا في أماكن أخرى، نسج مسؤولو الإدارة الأميركية بحذر علاقات ديبلوماسية مع الحكم المصري الجديد عبر السعي للحفاظ على توجه مصر الموالي لأميركا والتزامها بالسلام مع إسرائيل. وقبل التطهير الذي أجراه مرسي في صفوف الجنرالات في مصر، سعت إدارة أوباما للحفاظ على علاقات وثيقة مع الجيش، مؤمنة بقدرته على مواصلة امتلاك نفوذ على السياسة الخارجية المصرية.
وواجهت العلاقات الثنائية المصرية الأميركية الأزمة الهامة الأولى مطلع العام 2012، قبل انتخاب مرسي، حينما اعتقل الأمن المصري 43 مواطنا أميركيا يعملون في منظمات غير حكومية تساعد على نشر الديموقراطية في مصر. ولاحقا في أيلول 2012، اقتحم متظاهرون أسوار السفارة الأميركية في القاهرة في ظل موقف ضعيف من أجهزة فرض القانون المصرية، ودعا «الإخوان المسلمون» لتظاهرات أخرى ضد أميركا. وعلى هذه الخلفية، حذر الرئيس أوباما الرئيس مرسي من أن العلاقات مع الولايات المتحدة ستتعرض للخطر إذا لم تفلح السلطات المصرية في حماية الديبلوماسيين الأميركيين وإذا لم تفعل بشدة ضد الاعتداءات على الأميركيين. وفي مقابلة مع تلفزيون «تلموندو» بعدها بيوم قال أوباما عن العلاقات مع مصر «انني لا أعتقد أننا نرى بهم حليفا، لكننا لا نرى بهم عدوا... وأعتقد أن هذه سيرورة تتطور، ولا ريب في أننا نتوقع منهم راهنا الرد إيجابا على مطلبنا الحازم بحماية سفارتنا والعاملين فيها».

ويتوقع أن تكون القضية السياسية المركزية بين مصر والولايات المتحدة المحافظة على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التي أنجزت ووقعت برعاية أميركية. وقد كشفت عملية «عمود السحاب» العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة الوضع الهش للعلاقات بين الدولتين الجارتين»:صحيح أن «الإخوان المسلمين» لم يهددوا رسميا بإلغاء معاهدة السلام، كما لم تطلب مصر رسميا تغييرها، لكن الرياح في القاهرة منذ صعود «الإخوان» خفضت أكثر حرارة العلاقات الديبلوماسية التي ورثتها حكومة «الإخوان المسلمين» عن نظام مبارك، والتي كانت أصلا باردة. وتمت تدفئة العلاقة بالمقابل بين مصر وسلطة حماس في قطاع غزة. ووجدت الولايات المتحدة ومصر نفسيهما تردان بطريقتين مختلفتين على العملية الإسرائيلية: مصر أعادت سفيرها من تل أبيب «للتشاور» ودانت «عمود السحاب» بعبارات شديدة. ويمكن لضغط الشارع المصري أن يدفع الرئيس مرسي للإحساس بأنه ملزم برد فعل أشد ضد إسرائيل (هذا الضغط قد يتصاعد جوهريا لو نفذت إسرائيل اقتحاما بريا للقطاع). ويشير المنطق إلى الوضع الاقتصادي الصعب في مصر منذ نشبت انتفاضة يناير 2012، وإلى حاجتها مساعدة أميركية، الأمر الذي يؤثر فيها ويمنعها من إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل. وفوائض العملة الصعبة الرسمية لمصر، والتي بلغت في 2010 حوالي 45 مليار دولار، تقلصت في أيلول 2011 إلى 15,2 مليار دولار. وقطاع السياحة الذي كان أحد مصادر الدخل الأهم لمصر عانى من ضربة جدية مع بدء الانتفاضة، بسبب الخوف من الإرهاب والشكوك بأن «الإخوان المسلمين» لن يسمحوا بتعاطي الكحول أو ارتداء لباس البحر على الشواطئ المصرية.

كما تراجعت الصادرات المصرية العام 2011 بعشرين في المئة مقارنة مع العام 2010. وفي وضع بطالة متصاعدة وصادرات متراجعة، لا يمكن لمصر أن تسمح لنفسها بخسارة مساعدة دولية، خصوصا من أميركا. ويمكن ان يغدو الكونغرس الأميركي أقل راحة لمصر من الرئيس أوباما في القضايا المتعلقة بإسرائيل، الإرهاب أو هجمات إضافية على المصالح الأميركية في مصر. بل قد يرد سلبا على طلبات مصر تغيير معاهدة السلام مع إسرائيل أو ملاحقها. لا يخدم الشرخ في العلاقات المصرية الأميركية مصالح إسرائيل ويمكن أن يؤدي إلى عدم استقرار إضافي في المنطقة. وتتشارك إسرائيل وأميركا الرغبة في استعادة مصر سيطرتها على سيناء ومنع استخدامها قاعدة لمنظمات الإرهاب لإرسال منفذين، أو اعتبارها ممرا لتهريب الأسلحة إلى قطاع غزة. وفي ضوء نفوذ «الإخوان المسلمين» على حركات شقيقة في الدول العربية الأخرى، مهم للولايات المتحدة وإسرائيل الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع النظام الجديد في مصر. والأمر يتطلب جهدا هائلا ونيات طيبة من الحكومات الثلاث الضالعة. ويمكنها أن تبدي ضبطا للنفس في قضايا فلسطينية، بما في ذلك مواجهة عنيفة أخرى في قطاع غزة، وأيضا في مواجهة نشاطات فلسطينية في الضفة الغربية، وفي الحلبة الدولية. ويمكن للعلاقات في المثلث الإسرائيلي - المصري - الأميركي أن تبلغ ذروة التوتر في حال عملية عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية.

وليس ثمة مثال أفضل على التغيير في موقف الولايات المتحدة تجاه «الربيع العربي» ووعيها لمحدودية قدرتها على التأثير في الأحداث أكثر من تدخلها في الانتفاضات في سوريا وليبيا. وهناك فوارق جوهرية بين الحالتين: في ليبيا لم تكن معارضة دولية لاستخدام القوة، وأيضا لم يكن يتوقع أن تكون لذلك عواقب على مناطق أخرى. وفضلا عن ذلك فإن المعارضة الليبية بدت موحدة أكثر مما في سوريا، والفوارق القبلية فيها لا تشبه في شدتها الخلافات العرقية، الدينية والسياسية في سوريا. وظاهريا، كانت العقبة الأساسية للتدخل في سوريا أوسع جراء مواقف روسيا والصين في الأمم المتحدة. غير أن المسؤولين الأميركيين أعربوا مرارا عن خشيتهم من الدفاعات الجوية والصواريخ السورية. وفي شهادته أمام لجنة الخدمات المسلحة لمجلس الشيوخ في آذار 2012، شرح رئيس الأركان المشتركة، الجنرال مارتين دمبسي المصاعب التي تعترض العمل العسكري في سوريا قائلا:
«إن القدرة على القيام بضربة واحدة على شكل غارة سيكون في متناول أيادينا. لكن القدرة على القيام بحملة مستدامة على المدى الطويل يمكن أن تشكل تحديا ويجب أن تتم في سياق الالتزامات الأخرى حول العالم. وأنا سأقول هذا فقط عن دفاعاتهم الجوية: إذ لديهم أنظمة للدفاع الجوي أكثر تطورا حوالي خمس مرات من تلك التي كانت موجودة في ليبيا، وهي تغطي خمس المساحة. وكل دفاعاتهم الجوية منتشرة على حدودهم الغربية، وهو يتركز فيها سكانها. (من تقرير رئيس الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتين دمبسي أمام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس حول سوريا 7 آذار 2012)».
وينبغي الأمل بأن هذه الحجج لن تخدم الولايات المتحدة ضد مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية.

إن وصول وسائل قتالية لأيدي جماعات إرهابية يوفر سببا إضافيا لانعدام رغبة الولايات المتحدة في مساعدة المعارضة لنظام الأسد. فتجارب الولايات المتحدة في أفغانستان ما بعد الاتحاد السوفياتي وليبيا بعد القذافي، دفعت الإدارة الأميركية للخشية من مغبة تزويد سلاح متطور للمنتفضين في سوريا، الأمر الذي قد يتوجه لاحقا ضد حلفاء مثل إسرائيل، أو حتى ضد مواطنين أميركيين. وفي تقرير سري للإدارة قيل ان إرسال أسلحة للمتمردين السوريين، على أيدي السعودية وقطر، وصلت لأيادي متطرفين إسلاميين، ضمنهم ذوو علاقة مع القاعدة، وليس لمجموعات معارضة علمانية أرسلت الأسلحة إليها. وتشكك خلاصات التقرير بقدرة استراتيجية البيت الأبيض - التدخل غير المباشر- على تحقيق الهدف المعلن. وعلى هذه الخلفية ينبغي رؤية أقوال الرئيس أوباما، الذي كرر القول في المناظرة الثالثة عشية الانتخابات الرئاسية أن الولايات المتحدة «ستبذل كل ما بوسعها لضمان مساعدة المعارضة السورية»، وفي الوقت نفسه وعد«بأننا لن نمنح السلاح لمن يعطون السلاح لأناس يمكنهم في نهاية المطاف توجيهه ضدنا أو ضد حلفائنا في المنطقة».

وحتى إذا اتخذت أميركا خط عمل أشد ضد نظام الأسد، فإن دعم الشارع العربي لها لن يزيد بالضرورة. بل ان الحكومات العربية التي تدعو علنا لإنهاء نظام دمشق يمكن أن تنتقد أميركا إذا تدخلت في سوريا. وبغياب خيارات أفضل، فإن الولايات المتحدة ستتمسك كما يبدو بنمط عملها الحالي في «الملف السوري»، رغم قدرتها على عزل النظام بطرق ديبلوماسية، عن طريق الاعتراف بالمعارضة كممثل رسمي لسوريا. ومقاربة محدودية التدخل التي تنتهجها إسرائيل تتوافق مع المصالح الأميركية. ومع ذلك، فإن الحكومتين الإسرائيلية والاميركية ملزمتان بفحص النتائج المتوقعة لسقوط حكم دمشق. وعدا الفوضى الداخلية المحتمل تواصلها عدة سنوات، فإن لاعبين إقليميين آخرين، وكذلك عدة منظمات إرهابية، يمكن أن تتدخل في الشأن السوري. وثمة سبب جدي للقلق هو السيطرة على الأسلحة التقليدية للجيش السوري النظامي، وأيضا على مخازن السلاح غير التقليدي. وينبغي للولايات المتحدة وإسرائيل مواصلة البحث لإيجاد حلول لهذه المشاكل المقلقة.

وهناك مشكلة حساسة تتعلق بقدرة الأردن على مواجهة الضغوط ونتائج فشل المملكة الهاشمية في معالجة هذه الضواغط. فالأردن كان مجتمعا مستقرا في المعسكر غير الرسمي الموالي لأميركا في الشرق الأوسط (باستثناء دعم غزو العراق للكويت 1990). ويمكن لإضعاف النظام الحالي أن يكون ذا تأثير دراماتيكي على النظام السياسي في الشرق الأوسط. وحقيقة أن المعارضة السياسية البارزة في الأردن هي الطبعة المحلية من «الإخوان المسلمين» تعتبر سببا عميقا للقلق، سواء في إسرائيل أم الولايات المتحدة. وحزام النفوذ «الإخواني»، في مصر، قطاع غزة والأردن، قد يثير مشاكل جدية لإسرائيل. وفي ضوء انعدام الاستقرار السياسي في العراق وسوريا، فإن انضمام الأردن إلى منطقة القلاقل قد يضر بمستقبل المنطقة برمتها.
وقد سارعت الولايات المتحدة لتقديم عون مالي لحكومة الأردن. وينبغي أن لا تفعل ذلك فقط بل أن تمارس الضغط على دول النفط العربية للوفاء بالتزاماتها تجاه المملكة المتحدة.

العملية السلمية

منذ احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة في 1967، صار مستقبل هاتين المنطقتين مصدر عدم اتفاق وخلاف رأي بينها والولايات المتحدة. وولاية الرئيس باراك أوباما الأولى لم تكن استثناء لهذه القاعدة في هذا الشأن، رغم أن البعض رأى فيها الفترة الأسوأ في تاريخ العلاقات بين الدولتين، رغم أن تاريخ العلاقات لا يدعم ذلك بالضرورة.
وقد مر الشرق الأوسط بتغييرات دراماتيكية منذ دخول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض. وما بدا قابلا للتحقيق العام 2009 ليس قابلا لذلك الآن. والمحاولات السابقة لإحياء النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، وبالتأكيد تلك الضالعة فيها الولايات المتحدة، استندت إلى فرضية أساس بأن النتائج النهائية ينبغي أن تكون حلا شاملا لكل القضايا الجوهرية، أي القدس والحدود واللاجئين. وكانت هذه الفرضية التي وجهت الجهود في الولاية الأولى لأوباما، الذي لم يبحث عن خيارات أخرى. وبعد عامين من العلاقات الشخصية المتوترة بين القيادتين السياسيتين لإسرائيل وأميركا في قضايا تجميد الاستيطان، أهملت العملية من جانب اللاعبين الثلاثة: أميركا، إسرائيل والفلسطينيين. ولم ينشأ الوضع فقط جراء الطريق المسدود بين الجانبين الضالعين، وإنما، وربما أساسا، جراء التطورات الإقليمية. في ضوء المخاوف المتزايدة من صعود أنظمة إسلامية إلى الحكم في عدد من الدول العربية، لم يكن منطقيا توقع أن يتبنى رئيس الحكومة الإسرائيلية قرارا يتعلق بالحدود النهائية لإسرائيل مع الأردن والضفة الغربية أو أن يسمح بعودة لاجئين فلسطينيين إلى إسرائيل - وهما القراران الأصعب اتخاذهما حتى في ظروف أوضح وأكثر استقرارا.

وفي وضع كهذا، فإن بوسع إدارة أوباما في ولايتها الثانية أن تقرر إهمال العملية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين، بأمل العودة إليها عندما تهدأ عواصف الغبار التي تمر بالمنطقة، وحين تحل قضية الزعامة في المعسكر الفلسطيني باتفاق وتنتهي القطيعة بين القطاع والضفة، وحين تجد إسرائيل نفسها بعد انتخابات كانون الثاني 2013 مع حكومة جديدة مستقرة، ترغب وقادرة على اتخاذ القرارات المتعلقة بعلاقة بعيدة المدى بين إسرائيل والفلسطينيين.
وليس منطقيا الافتراض أن الغبار السياسي في المنطقة سيهدأ في العامين القريبين، لذلك يبدو أن التحفظات الإسرائيلية عن اتخاذ قرارات بعيدة المدى ستبقى. ومع ذلك، إذا أرادت الحفاظ على حيوية خيار حل الدولتين، ينبغي لها أن تستنتج أن الوضع القائم هو بديل لا ينبغي التسليم به، لسبب بسيط وهو أنه مجرد وهم: فالسيرورات تجري، مثل العدد المتزايد من المستوطنين، خصوصا في المناطق غير المنطقي أن تبقى تحت السيادة الإسرائيلية في إطار اتفاق مع الفلسطينيين، أو التطرف المتزايد في أوساط الفلسطينيين، ستجعل حل الدولتين ميتا.

والحكومة الإسرائيلية الجديدة التي ستعقب انتخابات كانون الثاني 2013 ستفعل الصواب إذا ما درست وبدأت مقاربة ومبادرة بديلة تعرضهما على الرئيس الأميركي وتعمل من أجل كسب تأييده لها. والمبدأ الأساسي الموجه لمبادرة إسرائيلية كهذه ينبغي أن يكون الرغبة في مواصلة العملية تدريجيا، بشكل متزايد، نحو حل الدولتين. وتتضمن مبادرة كهذه انسحابا إسرائيليا جزئيا من أجزاء من المنطقة «ج» وأيضا منح صلاحيات إضافية للفلسطينيين هناك وفي المنطقة «ب».بالإضافة إلى أن على إسرائيل أن تظهر استعدادا لوقف النشاط الاستيطاني في مناطق معينة، خصوصا شرقي جدار الأمن. في النهاية، عليها أن تكون مستعدة لتغيير الاتفاقيات الاقتصادية واتفاقيات المياه مع الفلسطينيين. والفلسطينيون من جانبهم يستطيعون اتخاذ خطوات بناء ثقة، مثلا، اعتراف مشروط بإسرائيل كوطن للشعب اليهودي. والطرفان يلتزمان بالنتيجة النهائية للعملية - أي، للدولتين. إن خطة العمل هذه المتوافقة مع خريطة الطريق 2003، ستنال دعم الرباعية ومجلس الأمن الدولي. وإذا أقرت فبوسعها أن تشمل إضافة إلى ذلك اتفاقا إسرائيليا أميركيا بعدم عرقلة عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة في موعد متفق عليه بين الحكومتين الإسرائيلية والفلسطينية.

وعلى إسرائيل أن تعرض مبادرة كهذه على الرئيس الأميركي، كي تتجنب سلفا مماحكات وسوء فهم متبادلا تكون نتائجها توترات جديدة بين الدولتين. والمسألة المركزية والأشد إلحاحا العام 2013 ستكون، من شبه المؤكد، الجهد النووي الإيراني. وبغية وضع حد لها بشكل ناجح، ثمة حاجة حاسمة لأن تتوصل إسرائيل والولايات المتحدة إلى أعلى مستوى من التنسيق بينهما. ولا يمكنهما السماح لنفسيهما باحتكاكات مشابهة لما جرى العام 2012. فالتقدم في الجبهة الإسرائيلية - الفلسطينية يساعد كثيرا في هذا الاتجاه.

إجمال واستنتاجات

إن عملية التغيير التي جرفت الشرق الأوسط منذ مطلع 2011 توجد، كما يبدو، في مراحلها المبكرة. والأسرة الدولية، بلاعبيها الكثر، لا يزالون يتحسسون ردودهم على سؤال كيف يعالجون بأفضل السبل العواقب السياسية والاقتصادية لهذه العملية. وتقريبا تضع كل دولة عربية منظومة تحديات مختلفة أمام أميركا وإسرائيل. فالانتفاضات العربية ضبطت الولايات المتحدة في مراحل التراجع التدرجية الأولية من الشرق الأوسط وعبر الانتعاش من الأزمة الاقتصادية 2008-2010. وتمثلت معضلتها الأساسية في الحاجة للاختيار بين دعم القيم الديموقراطية، سلطة القانون ووأد الفساد، ومشكلات أخرى تهدد المجتمعات العربية وفرصها الاقتصادية وبين دعم حلفائها التقليديين، الذين في أغلب الحالات كانوا ركائز المنظومات التي هاجمها الجمهور العربي. وفي مصر - المثال الأهم - اختارت أميركا التخلي عن الرئيس مبارك، الحليف القديم والمتعاون، غير أن النظام البديل لمبارك أضاف إلى سلسلة الخيبات والمعضلات الأميركية في الشرق الأوسط. أما في العراق فإن إسقاط صدام بالقوة على يد أميركا أفضى إلى حكم بمواقف فاترة من واشنطن وحميمة تجاه إيران. في ليبيا ساعد التدخل الأميركي في إسقاط حكم القذافي، لكن ينبغي الانتظار لرؤية هل سيستقر النظام وكم يمكنه أن يحفظ الدولة موحدة ويمنع تفككها. وبخصوص سوريا، فإن أميركا، رغم كونها ضالعة في الجهود الديبلوماسية والمساعدة اللوجستية للمعارضة السورية، فإنها لا تريد الالتزام بتدخل أعمق، خصوصا التدخل العسكري. وهذا القرار يستند إلى الدروس المستخلصة من حالات وصفت أعلاه، لكن أيضا من التعقيد السياسي، العرقي والديني لسوريا. فهذه الدولة متعددة المشارب حافظت على وحدتها على مر العقود عبر نظام مركزي عنيف سيطرت عليه أقلية - أقلية توجت نفسها وسيطرت على كل أدوات الحكم في الدولة. وإبعاد هذه الأقلية عن صلاحياتها شبه المطلقة تضمن عدة سنوات من الفوضى قبل أن يعود الاستقرار إلى الدولة. والولايات المتحدة وإسرائيل يمكنهما أن يفضلا التركيز على احتواء الأزمة السورية في إطار الحدود السياسية الحالية أكثر من محاولة بلورة البنية السياسية وتوجهاتها المستقبلية.

وسيسهم توفر جدول أعمال مشترك إسرائيلي - أميركي، خصوصا إذا شمل خطة للتقدم بالعملية السياسية الإسرائيلية - الفلسطينية، في استقرار العلاقات الإسرائيلية مع مصر والأردن. وينبغي أن يشكل هذا اعتبارا مركزيا في استراتيجية إسرائيل في محاولاتها إضعاف الطابع الأصولي المتبلور جراء الانتفاضات العربية. فالعملية التي أفضت إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة في تشرين الثاني 2012، بعد الجولة الأخيرة من إطلاق الصواريخ نحو إسرائيل والعملية الإسرائيلية لوقفها، يمكن أن يفسر كإشارة على ذلك، وأنه رغم المواقف السلبية التقليدية «للإخوان المسلمين» تجاه إسرائيل، منذ استلامهم الحكم في مصر، قد يميلون لتغليب احتياجات دولتهم الحقيقية ومصالحها الاستراتيجية. وستضطر الولايات المتحدة وإسرائيل لإيجاد سبيل للتعايش مع هذا المنطق، وربما توسيعه، رغم واجب عدم تعليق آمال كبيرة عليه. وعدا استغلال إمكانية التقدم في المسار الإسرائيلي - الفلسطيني، فإن منطلقا آخر لمنع تدهور العلاقات بين مصر وإسرائيل يمكن أن تكون في المصلحة المتبادلة تجاه ما يجري في شبه جزيرة سيناء. فالاستعداد المصري للعمل ضد تهريب الأسلحة إلى داخل سيناء ومن هناك إلى غزة، مترافقا مع خطوات ملموسة، ينبغي أن يقابل باستعداد إسرائيلي لدراسة مقترحات مصرية منطقية لتعديل بنود معينة في الملحق العسكري لمعاهدة السلام. والولايات المتحدة، كشاهد على المعاهدة التي تحمل توقيعها، وكونها العامل القائد في القوة متعددة الجنسيات المنتشرة في سيناء، يمكنها أن تلعب دورا هاما في الوساطة بين إسرائيل ومصر، إذا طلبت الأخيرة إدخال تعديلات على الملحق العسكري للمعاهدة.

إن نقل مركز العلاقات الخارجية الأميركية من أوروبا والشرق الأوسط إلى المحيط الهادئ وشرق آسيا نال اهتماما واسعا في السجال العام في أميركا. ومع ذلك من السابق لأوانه الاستنتاج بأن الولايات المتحدة على وشك التخلي عن الشرق الأوسط. ورغم الخيبات المتكررة، وغياب فرص النجاح والتراجع السريع في الاعتماد على نفط المنطقة، فإن للولايات المتحدة حلفاء والتزامات لا يمكنها التنكر لهم ولها. وتواجدها في الشرق الأوسط هام من الناحية الاستراتيجية لدولة إسرائيل. وبناء عليه، على إسرائيل أن تنظر في الوسائل والخطوات التي عبرها يمكن المحافظة على التواجد والتدخل الأميركي الفاعل في هذه المنطقة.

 

مركز دراسات الأمن القومي جامعة تل أبيب
شباط 2013