تغيّر خطير؟ (II): تردّي القدس العربية

(يعالج هذا التقرير الصادر عن مجموعة الأزمات الدولية، مؤلف من جزئين. يعالج الجزء الأول منه، التغيرات الاستيطانية التي شهدتها مدينة القدس منذ مفاوضات كامب ديفيد الفلسطينية ـ الاسرائيلية التي اقترح فيها الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون أن ما هو يهودي سيكون اسرائيليا، وما هو عربي سيكون فلسطينيا. ويعتبر التقرير ان موجات الاستيطان التي سادت من العام 2000 وحتى اليوم اضافة الى المشاريع الاستيطانية الجديدة خاصة البناء في المنطقة هـ 1 سيقضي على حل الدولتين.

ويعالج الجزء الثاني تردي الأوضاع في القدس العربية، حيث أصبح الحرمان الاجتماعي والاقتصادي الذي يعانون منه أكثر وضوحاً بالمقارنة مع جيرانهم اليهود الأفضل حالاً.

لأهمية التقرير تنشر «زمن برس» نصه كاملا، وهنا نص الجزء الثاني من التقرير)

«زمن برس»

___________

 

كثيرون من عرب القدس الشرقية يشعرون بأن المعركة على مدينتهم انتهت إلى حد ما بخسارتهم؛ فالمستوطنات باتت تحيط بأحيائهم التي أصبحت تجمعات سكنية بائسة وسط استيطان يهودي يتوسع باستمرار؛ وخُنقت التجارة مع الضفة الغربية بالجدار العازل ونقاط التفتيش؛ وتلاشت الحياة السياسية المنظّمة فعلياً بسبب القمع الذي تتعرض له المؤسسات الفلسطينية؛ وأصبح الحرمان الاجتماعي والاقتصادي الذي يعانون منه أكثر وضوحاً بالمقارنة مع جيرانهم اليهود الأفضل حالاً. إلاّ أن للسياسات الإسرائيلية آثاراً أكثر عمقاً؛ حيث فقد عرب القدس كل قوة لهم وباتوا معزولين عن الحياة السياسية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى. منذ عام 1967، قاطع الفلسطينيون بشكل كامل المؤسسات الإسرائيلية في المدينة على أساس أن عدم قيامهم بذلك سيمنح الشرعية للاحتلال. وهذا أمر مفهوم، إلاّ أن هذه المقاربة باتت غير فعالة وتلحق الضرر بهم أكثر مما تضر بأعدائهم. مع التهميش المتزايد الذي يعاني منه الفلسطينيون المقدسيون، المحرومون من التمثيل والذين يفتقرون إلى الموارد السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، فقد آن الأوان كي تقوم حركتهم الوطنية بإعادة تقييم هذه المقاربة التي لم تعد استراتيجية بقدر ما هي نتاج فعل انعكاسي بحكم العادة.

لقد تغير وجه الحياة السياسية الفلسطينية في القدس بشكل جذري منذ اتفاقيات أوسلو التي استبعدت المدينة من ترتيبات الحكم المؤقتة في الضفة الغربية وقطاع غزة. تنافست المؤسسات الوطنية التي نشأت في رام الله على الأضواء إلى أن طغت في المحصلة على العاصمة السياسية، والاقتصادية والاجتماعية التقليدية لفلسطين التاريخية. في التسعينيات، حافظت القدس على موقعها إلى حد بعيد بحكم الدور غير المتناسب الذي كان يلعبه سليل إحدى العائلات العريقة في المدينة، وهو فيصل الحسيني. إلاّ أن المدينة لم تتعافى من الضربة الثلاثية التي عانت منها والتي تمثلت في وفاة الحسيني عام 2001؛ واندلاع الانتفاضة الثانية قبل وفاته بعدة أشهر، وما ترتب على ذلك من قيود فُرضت على الوصول إلى المدينة؛ وما تلا ذلك من إغلاق بيت الشرق، مقر منظمة التحرير الفلسطينية في القدس. السلطة الفلسطينية، البعيدة جداً والتي تفتقر إلى الفعالية، لم تتمكن من توفير عنوان بديل لجمهورها في المدينة المقدسة. وتلاشت أهمية فتح وحماس في المدينة حيث منعتهما إسرائيل من القيام بأي عمل منظم هناك.

حاولت العائلات الكبيرة في المدينة إلى حد ما ملء فراغ السلطة، إلاّ أنها لم تتمكن من وقف تردّي النسيج الاجتماعي بل أصبحت فعلياً إحدى عوامل هذا التردي؛ لأنه ونظراً لأن القدس الشرقية باتت منطقة محظورة على الشرطة الإسرائيلية إلاّ عندما تتعرض مصالح البلاد الأمنية للتهديد، فإن تلك العائلات انخرطت في الأعمال الإجرامية. وباتت القدس الشرقية اليوم مكاناً مضطرباً وغاضباً.

أما اللجان الشعبية المحلية، ورغم أن جذورها السياسية تضرب في الانتفاضة الأولى وما قبلها، فقد كان عليها أن تركّز على ترميم النسيج الاجتماعي. الحرم الشريف هو المكان الوحيد الذي يبدو فيه أن للحشد والتعبئة هدف، وبنتائج تؤدي إلى ازدياد حدة التوتر كما هو متوقع، خصوصاً في ضوء النشاط اليهودي المتعاظم هناك.

مع انفصال القدس عن عمقها الطبيعي في الضفة الغربية، فإن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل والنشطاء الإسرائيليين دخلوا حلبة الصراع بشكل متزايد. لقد تأرجحت جهود حركات التضامن الإسرائيلية والدولية نيابة عن السكان العرب في مواجهة المستوطنين اليهود بين مد وجزر، لكنها بشكل عام لم تحقق الكثير من النجاح. ولعب الفرع الشمالي من الحركة الإسلامية في إسرائيل، وهي مجموعة من عرب إسرائيل بقيادة الشيخ رائد صلاح، دوراً أكثر أهمية. رغم محدودية قدرتها على الحشد والتعبئة على نطاق واسع في القدس، فإن عرب المدينة يقدرون الانتعاش الاقتصادي الذي يجلبه الحجاج إضافة إلى ارتفاع صوت صلاح نيابة عنهم وعن المواقع الإسلامية المقدّسة. إلاّ أن كثيرين يعتبرون مقاربته ذات طابع ديني مفرط ولغته قائمة على الذم والإدانة. من المؤكد أن إسرائيل تعتبره كذلك، وتعبّر عن استيائها من خطابه التحريضي والذي يدفع إلى الكراهية في بعض الأحيان.

لجأ عرب القدس ـ الذين اختاروا في عام 1967 وبشكل كاسح الحصول على الإقامة الدائمة بدلاً من الجنسية الإسرائيلية ـ إلى القنوات الرسمية لحماية هذه المكانة ذات القيمة الكبيرة بالنسبة لهم والتي تبدو أكثر هشاشة اليوم بالنظر إلى قيام إسرائيل بإلغاء العديد من الإقامات الدائمة وبناء الجدار العازل الذي ترك حوالي 50,000 منهم على الطرف الشرقي منه. وارتفع عدد المتقدمين بطلبات للحصول على الجنسية الإسرائيلية خلال السنوات القليلة الماضية، حيث لم يعد هذا الموضوع من المحرمات. كما بدأ البعض أيضاً بالمشاركة في الأنشطة البلدية، بما في ذلك ممارسة الحشد والتعبئة لدى بلدية المدينة.

عرب القدس الشرقية لم يشعروا أنهم مرتاحين لما يقومون به، إلا أنهم طوروا علاقات مع الجزء الغربي من المدينة، من حيث المدارس، والعمل والحياة الاجتماعية. عنوانهم الوطني هو رام الله، لكن ممثليهم التنفيذيين والتشريعيين ليس لهم أي سلطة عليهم؛ في حين أن ممثليهم البلديين الذين يتعاملون معهم هم محتليهم. وبالنسبة للأغلبية الساحقة من السكان، فإن هذا الواقع الفصامي هو الواقع الوحيد الذي يعرفونه.

إن وجود مجموعة من السكان تشعر بأن الجميع تخلى عنها ليس في مصلحة أحد. ليس هذا في مصلحة الفلسطينيين بالتأكيد، وفي نفس الوقت ليس في مصلحة إسرائيل أيضاً. الحدود قابلة دائماً للاختراق، خصوصاً بالنسبة للمخدرات والأعمال الإجرامية؛ والمشاكل التي يواجهها العرب المقدسيون لا تقف عند حدود أحيائهم. كما أن غياب قيادة ذات مصداقية سيعيق أي جهد لإدارة التوترات المستقبلية ومنع التصعيد. أخيراً، وبشكل عام، فإن أي ترتيب سياسي مستقبلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين سيتطلب وجود مجموعة فلسطينية متماسكة وقادرة في القدس الشرقية.

لقد كانت الاستراتيجية الفلسطينية السائدة، التي طالما حثت القيادة على تبنيها، تتمثل في مقاطعة أي اتصال طوعي مع بلدية القدس. إن الإحجام عن التعامل مع المؤسسات الإسرائيلية أمر مفهوم؛ حيث يخشى الفلسطينيون من أن ذلك سيخلق أمراً واقعا بالإقرار بمطالب إسرائيل في المدينة. في السنوات الأولى بعد عام 1967، كانت المقاطعة استراتيجية فعّالة تهدف إلى تحقيق مكاسب بسيطة، وقد تمكنت من تحقيقها، خصوصاً فيما يتعلق بالحكم الذاتي المحدود للعرب. كان هذا منطقياً في الستينيات والسبعينيات عندما كانت القدس الشرقية ما تزال منطقة ذات ملامح متميزة ومختلفة. أما اليوم فقد باتت جزءاً مهمشاً ومندمجاً في القدس الغربية: مهمش من حيث أن ما كان في الماضي مركزاً مستقلاً للمدينة بات الآن مجرد حي مزدحم ومطوّق لا يحظى سوى بخدمات سيئة وبنية تحتية بحاجة ماسة للتحديث؛ ومندمج من حيث أن عدداً ليس بالقليل من عرب القدس يعملون، ويدرسون ويمارسون حياتهم الاجتماعية على جانبي الخط الأخضر، والطرق، والسكك الحديدية الخفيفة والمرافق التي تمر في النصف الشرقي تشكل جزءاً حيوياً من آلية العمل في المدينة بمجملها.

إن المقاطعة، بشكلها الحالي، باتت مجرد قطعة فنية موروثة من حقبة ماضية. إنها نتاج الركود واللامبالاة أكثر منها نتيجة تفكير وتخطيط متعمدين. لقد أصبحت شكلاً رمزياً لسياسة تغطي غياب السياسة. من المنظور الفلسطيني، فإنها تحمل بعض المزايا التي تتمثل في تأكيد الاختلاف والهوية وترفض منح الشرعية للاحتلال، إلاّ أن لها تكاليف لا يمكن إنكارها. لقد تركت الأبعاد المادية للسياسة وتلك التي تتعلق بتوزيع الموارد على الهامش؛ وظل السؤال المتعلق بكيف يمكن لهذه المجموعة البشرية أن تحظى بالموارد لتعزيز قوتها ليس فقط دون جواب، بل دون طرح أيضاً. في المحصلة، فإن غياب نقاش وطني حول كيفية منح أقصى قوة ممكنة للفلسطينيين في المدينة سهّل تهرّب إسرائيل والقيادة الفلسطينية من مسؤولياتهما.

مهما بلغت صعوبة إجراء نقاش فلسطيني حول فعالية استراتيجية المقاطعة كما هي متبعة حالياً، فإنه لابد من إجرائها. من شأن مثل هذا التحليل الذاتي أن يخرج بعدد من الإجابات المحتملة: أنها ما تزال فعالة؛ أنها بحاجة للمراجعة؛ أو أنه ينبغي التخلي عنها بالكامل. كما أن هناك عدد من الخيارات قابلة للنقاش: يمكن لفلسطينيي القدس الشرقية أن يترشحوا في الانتخابات البلدية وأن يصوتوا لمرشحين يكونون مواطنين فلسطينيين في إسرائيل؛ أو يمكنهم تشكيل بلدية ظل في رام الله؛ أو يمكنهم أن يحاولوا إقامة تمثيل جماعي يعمل بالتنسيق مع البلدية الإسرائيلية. حتى طرح السؤال المتعلق بما إذا كان ينبغي تعديل أو إنهاء استراتيجية المقاطعة يعتبر محرماً بالنسبة لكثير من الفلسطينيين. إلاّ أن مسألة الاستراتيجية الفلسطينية، في القدس وفي غيرها، بحاجة ماسة لإعادة النظر، وإلى أن يتم طرح القضايا الصعبة وغير السارة، فإنها لن تلقى جواباً.

التوصيات

إلى السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية:

1. اتخاذ الخطوات اللازمة للحد من تجنب التجزؤ والازدواجية في الجهود المتعلقة بالقدس، وذلك من خلال إقامة عنوان واحد، يرأسه مسؤول يستطيع الوصول إلى جميع أنحاء محافظة القدس، لتقديم المساعدة لسكان المدينة.

2. التحقق بعناية من المزاعم بوجود إساءات إسرائيلية في المدينة القديمة والمواقع الإسلامية المقدسة بالتعاون مع المنظمات الدولية خصوصاً منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، والامتناع عن إطلاق الاتهامات عشوائيا.

إلى منظمة التحرير الفلسطينية:

3. إجراء إعادة تقييم، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية ، حول ما إذا كانت مقاطعة جميع الاتصالات الطوعية مع المؤسسات الإسرائيلية في القدس ما تزال استراتيجية فعّالة.

4. تحضيراً لعملية إعادة التقييم هذه، يمكن إطلاق حوار، في القدس الشرقية وعلى المستوى الوطني على حد سواء، حول طبيعة الهيكليات التمثيلية التي يمكن إقامتها في القدس.

5. تقييم المبادرات البلدية التي يقوم بها سكان القدس الشرقية التي تهدف إلى تعزيز الرفاه المادي للفلسطينيين هناك، على أساس كل حالة على حدا.

إلى الاتحاد الأوروبي:

6. إبقاء القدس الشرقية على الأجندة الدبلوماسية وذلك بتنفيذ توصيات تقرير رؤساء البعثات الأوروبية لعام 2012 فيما يتعلق بالقدس.

7. تقديم التمويل للمنظمات العربية في القدس الشرقية ومقاومة الضغوط الإسرائيلية الهادفة لمنع ذلك.

إلى الدول الأعضاء في الجامعة العربية:

8. الوفاء بتعهدات تمويل السلطة الفلسطينية والقدس، خصوصاً الـ 500 مليون دولار أمريكي التي وعدت بها القمة العربية في سرت عام 2010.

إلى الحكومة الإسرائيلية وبلدية القدس:

9. إطلاق حوار حول أشكال تمثيل عرب القدس الشرقية التي يمكن تأسيسها، بما في ذلك مجالس الأحياء التي تتمتع بالصلاحيات أو هيئات أكثر اتساعا وشمولية.

10. منح حق الإقامة في القدس لسكان الضفة الغربية العالقون على الطرف الغربي من الجدار العازل إذا وضعت خطط إعادة تحديد منطقة تقديم الخدمات البلدية وفق الجدار العازل موضع التنفيذ، وعدم سحبها من المقدسيين الذين يعيشون في الجانب الشرقي من المدينة.

11. إعادة فتح غرفة تجارة القدس وبيت الشرق كما هو مطلوب في المرحلة الأولى من خارطة الطريق التي وضعتها الرباعية عام 2003 لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.

إلى أعضاء الرباعية (الاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمين العام للأمم المتحدة والولايات المتحدة):

12. تشجيع منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية على اتخاذ الخطوات آنفة الذكر.

القدس/بروكسل، 20 كانون الأول/ديسمبر

مجموعة الأزمات الدولية