الإسلاميون المعتدلون في ظل الاستراتيجيات الدولية الحديثة

 

بقلم: د.اسماعيل الشطي

(معهد الخليج للدراسات المستقبلية)

صدر حديثاً "الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة" للدكتور اسماعيل الشطي (عن منشورات ضفاف، الرباط) وقد صدر هذا الكتاب في الفترة الساخنة التي تولى فيها الإسلاميون الحكم بالدول العربية التي اندلعت فيها ثورات الربيع العربي حيث برزت تساؤلات عن نموذج الحكم الذي سيطبّقه الإسلاميون بين مقتضيات الدولة الحديثة وبين شعاراتهم الانتخابية المعروفة، بدءاً من تطبيق الشريعة ومروراً بأسلمة الدولة وانتهاء بالعودة إلى فكرة الخلافة. 
هنا فصل من الكتاب بحمل عنوان "الإسلاميون المعتدلون في ظل الاستراتيجيات الدولية الجديدة".
لا بد من ذكر حقيقتين نستهل بهما مناقشة مستقبل الإسلاميين المعتدلين في ظل الاستراتيجيات الدولية الجديدة، الحقيقة الأولى هي أن النظام الدولي الذي ساد خلال نصف القرن الماضي يشهد اختلالات وفراغات تستدعي إعادة صياغته من جديد، ولقد تمخض عن ذلك إقدام الولايات المتحدة الأميركية على الإعلان عن استراتيجيتين في نهاية عام 2002، الأولى تحمل عنوان استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية، والثاني تحمل عنوان الاستراتيجية القومية لمناهضة أسلحة الدمار الشامل، وفي مطلع عام 2003 أعلن الرئيس الأميركي عن استراتيجية ثالثة حول مناهضة الإرهاب بالعالم، ولقد جاءت هذه الاستراتيجيات بقواعد جديدة لا تتفق مع ما هو معمول به وفق الشرعية الدولية مما أثار لغطاً كبيراً حول تلك الاستراتيجيات، والتي جاءت لتكرس حقائق على أرض الواقع تتمثل بمحاولة الولايات المتحدة الأميركية فرض نفسها كقطب أحادي يتربع فوق قمة النظام الدولي، وباعتماد القوة العسكرية لحفظ السلام بدلاً من القانون الدولي، وبتقليص مفهوم السيادة في الدولة القومية، وبإعلان الإرهاب من أعمال الحرب يتولاه السلاح بدلاً من القانون، وبمنح السلاح العالمي مفهوماً جديداً مرتبطاً بالديموقراطية والحكم الصالح، وما كان ذلك ليتم لولا نهاية الحرب الباردة بكل مفاهيمها ومعاييرها والتزاماتها من جانب، والتراكم العمودي في الثروة والقوة (بالأخص الولايات المتحدة الأميركية) من جانب آخر، مما فرض على الرأسمالية الليبرالية فكرة الانتشار الأفقي، إما تفتيشاً عن مناخات استثمارية خارج حدودها أو بحثاً عن دور لقوتها يضمن لها استمرار التفوق العسكري والسياسي، أما الحقيقة الثانية فإن الشرق الأوسط بات يحتل موضع الصدارة في سياسات الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما أكده الرئيس بوش "الثاني" بعد انتخابات العراق الأخيرة، حيث قال للأمة الأميركية: إن الشرق الأوسط سيحصل على نصيب الأسد في السياسة الخارجية للولايات المتحدة أثناء فترة رئاسته الثانية، وهذا يعني تبدل بالأولويات بحيث حل الشرق الأوسط مكان أوروبا إبّان النظام الدولي الذي ساد النصف الأخير من القرن الماضي، وتلك المكانة تعكسها الاستراتيجيات الثلاث المعلنة بشكل جلي، وقد نبعت من تجربة الولايات المتحدة الأميركية في تجنيب أوروبا من الوقوع في هوى الشيوعية، وهي تمنحها للشرق الأوسط اليوم (كما يبدو المشهد في أحد صوره) تجنيباً له من عدوها الجديد "الإرهاب".
[مراجعة

هذا الاستهلال يشكل مسوغاً دافعاً للحركة الإسلامية نحو مراجعة حساباتها وعلاقاتها وخطابها السياسي، وهي مراجعة قد تكون أكثر تركيزاً وشمولية من تلك التي تمت بشكل عفوي مع مطلع الثمانينات ونتج عنها فرز الجماعات السلمية نفسها عن جماعات العنف، وانتهت ببلورة خط واضح اختاره المعتدلون الإسلاميون في العمل من أجل الإسلام، يتمثل بالاندماج في النسيج السياسي للدولة والانخراط في المجتمع المدني واستخدام مؤسساته وآلياته المشروعة في السعي نحو تحقيق الأهداف الإسلامية، لقد كان واضحاً أن وعياً نشأ لدى الإسلاميين بأهمية بناء الاستراتيجيات القائمة على قراءة الواقع السياسي واستيعاب مقتضياته، والتعرف على مكامن القوة والضعف، وعلى اقتناص الفرص المتاحة وتجنب المخاطر المحتملة، والسعي لتحقيق الممكن واستبعاد أو تأجيل غير الممكن، انه بداية التفكير العملي الواقعي أو ما يطلق عليه البعض بالتفكير البراغماتي، غير أن ذلك كله تم في الفصول الأخيرة من الحرب الباردة، والآن هناك نظام دولي جديد آخذ بالتشكّل يوماً بعد يوم يفرض حقائق جديدة ويؤسس شبكات من العلاقات والنظم والتحالفات المغايرة ويعيد ترتيب الأولويات للمجتمع الدولي، وهذه عملية تصطحب معها فرصاً غير مسبوقة وأخطاراً من نوع مختلف، مما يجعل التداعي لقراءة الواقع الجديد والحملقة في ملامحه الآخذة بالتشكل أمراً أكثر من ضروري وأسبق من غيره على "أجندة" الإسلاميين، وهي عملية تحتاج أن نشير إلى المكانة الجديدة للشرق الأوسط في النظام الدولي المرتقب، وإلى دور الإسلاميين في هذا الشرق الجديد، وإلى فتح الحوار حول الدور الأمثل الذي يمكن القيام به لخدمة الإسلام ومجتمعاته، والمعوّقات التي يجب تذليلها لأداء هذا الدور.
[النوايا والشكوك

لم ينتظر الغرب تبديد الشكوك التي تساور النخب العربية والإسلامية تجاه مشروعه الشرق الأوسط الكبير، بل شرع في إطلاق حزمة من المبادرات خصص لها مبالغ ضخمة ليجعل إنجازاته تتصدى لشكوك العرب والمسلمين، وتتنوع هذه المبادرات بين التعليم الإساسي ومدارس الاكتشاف والانترنت وإصلاح نظام الانتخابات وتمويل النمو والتجارة وإدارة الأعمال وتشجيع وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً على أنه أسس خطابه الدولي الجديد على تبني مفاهيم كالحكم الصالح والديموقراطية والشفافية ومحاربة الفساد وتكريس المجتمع المدني وإصلاح أوضاع المرأة وحقوق الإنسان والحريات، وانعكس هذا الخطاب في لغة هيئة الأمم المتحدة والبنك الدولي ومؤسسة النقد العالمي وبقية المؤسسات الدولية، وشجع مؤسساته الأكاديمية والجامعية والفكرية والمدنية لتخصيص بعض من برامجها وأنشطتها من أجل نشر هذه المفاهيم، وأخذ يمارس ضغوطاً واضحة على النظام الرسمي العربي تجلت في استجابات عسيرة نحو الإصلاح، كما خصص مبالغ ضخمة للمعونات المالية (الاتحاد الأوروبي بشكل واضح) الموجهة للمشاريع الإصلاحية بالشرق الأوسط، وأمام هذه الوقائع لا يمكننا إلا أن نفترض أن النوايا الغربية لنشر الديموقراطية والحكم الصالح بالشرق الأوسط جادة من حيث المبدأ وليست مناورة، وأن مبادرة الشرق الأوسط الكبير تتضمن فرصاً سانحة للتطوير والتنمية والخروج من أسر الاستبداد، ذلك لأن المنطقة (في ظل تحالفها الاستراتيجي القائم على تبادل المصالح) ستمنح الولايات المتحدة قوة دولية لتكرس هيمنتها على العالم خلال العقود الخمسة القادمة، ففي تلك الفترة ستكون المنطقة الأقدر على تلبية حاجات السوق في ظل نضوب المخزون العالمي من بقية أجزاء الكرة الأرضية، وسيكون النفط سلاحاً بيد الأميركان يوزعون فيه الحصص على بقية الأمم وفق مصالحها، ولهذا فإن من مصلحتها أن تصنع شرقاً أوسط مزدهراً يكتشف أهمية التحالف الاستراتيجي معها ويتمسك به، ويدفعه على الإصطفاف معها في محاربة الإرهاب حفاظاً على ازدهاره، وهي بدون هذا الازدهار لا تملك ما تقنع به الشرق أوسطيين للحفاظ على قوتها واستمرار استراتيجيتها النفطية، وما نفترضه هنا يقوم على نظرية تبناها الأميركان مع نهاية النظام الدولي الاستعماري الذي ساد النصف الأول من القرن الماضي، تلك التي تقوم على مواجهة النزعات العدوانية بالرخاء، ولقد جربت ذلك من خلال مشروع مارشال في أوروبا إبان تهديدات الشيوعية خلال نصف القرن الماضي، كما جربته مع عدوها المنهزم خلال الحرب العالمية الثانية، سواء كان أوروبياً على ضفاف الأطلسي كألمانيا، أو آسيوياً على ضفاف الباسيفيكي كاليابان، ولقد نجحت النظرية بجدارة، غير أن النوايا الجادة شيء والممارسات الرامية لتحقيقها شيء آخر، إذ لا تسلم تلك النوايا من الخطأ في القرارات أو استغلال الانتهازيين أو الخلط بالحسابات، فإحلال السلام في أفغانستان أو إنقاذ العراق من صدام هدفان نبيلان تما بطريقة خاطئة خلفت وراءها كثير من الضحايا الأبرياء والدمار والفوضى، وهو ما يدفع على الاعتقاد أن نوايا كهذه سخرت لاستراتيجيات تجار السلاح والنفط وإسرائيل.
غير أن ازدهار الشرق الأوسط ليس مصلحة أميركية فحسب، كما ذكرنا آنفاً، بل هي أوروبية كذلك، إذ تفرض مقتضيات الجغرافيا هذه المرة شروطها على تاريخ العلاقات المتأزمة بين جنوب البحر المتوسط وشماله، فالجوار الجغرافي جعل أوروبا المسيحية ملاذاً لكل الراغبين بالحياة الرغدة من المسلمين المسحوقين أو المضطهدين على الضفاف الجنوبية، وهو ما يعتبره الأوروبيون تهديداً لهويتهم الثقافية ولأمنهم الاجتماعي، خاصة وأن أكثر من 50 مليونا من الشباب في الشرق الأوسط سيدخلون سوق العمل بحلول 2010، وسيدخلها 100 مليون بحلول 2020. وهناك حاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل، وإذا استمرت المعدلات الحالية للبطالة فإن معدلها في المنطقة سيبلغ 25 مليوناً بحلول 2020، يعيش ثلث أهل المنطقة على أقل من دولارين في اليوم ولتحسين مستويات المعيشة، يجب أن يزداد النمو الاقتصادي في المنطقة نحو أكثر من الضعف عن مستواه الحالي الذي هو دون 3% إلى 6% على الأقل، ولقد عبّر 51% من الشبّان العرب الأكبر سناً عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى، وفقاً لتقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002، والهدف المفضل لديهم هو البلدان الأوروبية، وهنا يصبح ازدهار الشرق الأوسط هدفاً استراتيجياً لحماية الرخاء الأوروبي.

الإسلاميون والغرب

يرى الإسلاميون أن الخوف من الإسلام هو جزء من التكوين الثقافي الغربي وناتج عن الصراع الموغل في القدم بين الإسلام والغرب، وعن ذكريات الحروب الصليبية وتهديدات المسلمين للحدود الجنوبية والشرقية لأوروبا وتحويل اسبانيا وجنوب ايطاليا إلى حواضر إسلامية وسقوط الأندلس إبان حركة الارتداد وسقوط قلعة الكنيسة الشرقية بأيدي العثمانيين وعهود الاستعمار الغربي، ذلك الذي كرّس في الوجدان الغربي تصوراً عاماً للشرق يتضمن موازين ومعايير وقيما إزاء كل ما هو شرقي، وانعكس ذلك في الخطاب العام للثقافة الغربية وجاء في أعمال الشعراء والروائيين والرحّالين والمؤلفين والفلاسفة والمنظّرين السياسيين والاقتصاديين والإداريين الاستعماريين بشكل تلقائي، ورغم التطور الواسع في العلاقات الدولية، ونشوء فكرة المجتمع الدولي (الذي يضم الشعوب الإسلامية) على أساس علماني، إلا أن الغرب يصرّ على أن يضع علاقته بالإسلام في إطاره التاريخي كخصم لدود دون سائر الأديان، أما الغربيون فيرون أن الإسلام ما زال يسعى لخوض معركة حسمت من القرن الماضي، وأن الإسلاميين يسعون للعودة إلى نظام العصر الوسيط الذي شهد صراع الديانات مستخدمين خطاباً سياسياً بائداً اقترن بنظام بائد، وهم بذلك يتحدون النظام الدولي المعاصر ومفاهيم الدولة الحديثة والحقائق التي تصنعها القوة، ولا تجدي تأكيدات بعضهم برفض العنف والكف عن القتال مع ترديد خطاب سياسي خارج العصر يسعى لعودة الصراعات الدينية، غير أن ما يجب معرفته أن الخوف من الإسلام لدى الغربيين ليس عقيدة دوغمائية، فهي إن لم تذو مع تقادم الزمن فإنها تضعف أمام المنطق البراغماتي، فضلاً على أنها تتفاوت ما بين الشعوب القريبة والبعيدة عن الإسلام، وبين الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية، وبين الشعوب اللاتينية والأنجلوسكسونية والسلافية، وما بين الدول المتقدمة أو الآخذة بالتقدم أو النامية، وهو ما يفسر الإقدام الأميركي لنجدة المسلمين البوسنيين أو الكوسوفيين ضد المتطرفين المسيحيين من الصرب، بينما تتردد فرنسا حتى اليوم في إغضاب الصرب وتسليم قادتهم للمحكمة الدولية، أو أن تقوم بريطانيا بالإيواء السياسي للمتطرفين الإسلاميين تفادياً لشرورهم، بينما يعتقد الفرنسيون كما يروي عنهم جيل كيبل (وعلى خلاف البريطانيين، لا يعتقد الفرنسيون بتاتاً أن سياسة ترحيبية بالإسلاميين ستؤدي إلى حماية من هجمات مستقبلية. فالفرنسيون يعتقدون أن الصلات مع النشطاء في أفريقيا الشمالية يمكن أن تشكل خطراً، وهم لم يكونوا مستعدين أبداً للسماح للاسلاميين بفضاء أوسع للتحرك)(1)، وعليه فإن الغرب ليس كتلة صماء واحدة، بل هو طيف من الألوان والمصالح والاهتمامات، وهو طيف يوفر مساحة واسعة للتحاور، وفي نفس الوقت فإن الإسلاميين من جانبهم لن يبقوا جامدين عند بوابة تاريخ العصر الوسيط، وأنهم يوم أتيح لهم فرصة العمل الشعبي في المؤسسات المدنية صاروا أكثر واقعية وبراغماتية، ولهذا فإن المسلك البراغماتي سوف يجمع الطرفين لتبادل المصالح.
ولقد شهدت حقبة ريغان شكلاً من أشكال التعاون ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، غير أن قابلية الانسجام بين الطرفين في الأهداف العسكرية المشتركة ليست بالضرورة تتفق مع قابليتهم للإصلاح السياسي على الأقل من وجهة النظر الأميركية آنذاك، ولهذا انشغلت الدوائر الأميركية في عهدي بوش الأول وكلينتون بالبحث عن مدى انسجام الإسلام مع القيم السياسية الغربية، وحاولت القوى الناشطة مع اللوبي الصهيوني تكريس الخوف من الإسلام، وبرزت أسماء مثل برنارد لويس الذي يقول "الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك وقد فعل ذلك مرتين على الأقل، ولمدة ألف عام كانت أوروبا تحت تهديد مستمر من الإسلام" وهنتنغتون الذي يقرر أن "حدود الإسلام دموية وكذلك الأحشاء"؟ ناهيك عن المحللين والباحثين من أمثال جوديث ميللر ودانيال بايبس ومارتن كرامر وجيل كيبل وبنيامين جوردون وقد أعلنت الولايات المتحدة يومها عن موقفها الرسمي بكلمة ألقاها مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى وجنوب شرق آسيا (آنذاك) إدوارد جيرجيان في مؤسسة ميريديان هاوس حيث أكد فيها: إن الولايات المتحدة لا تنظر إلى الإسلام كأنه الخطر العقائدي الذي سيواجهه الغرب أو الذي سيهدد السلام العالمي لأن ذلك مبالغة في رد تبسيطي على واقع معقد، وقد أكد بوش الثاني هذا الموقف بعد الحادي عشر من سبتمبر في بعض أحاديثه، ولم يعد أحد يردد الخوف من الإسلام سوى الجماعات المؤيدة للوبي الصهيوني، لقد انتقل الحوار اليوم حول جدوى الاستعانة بالإسلاميين (الإسلام السياسي) في مشروع الشرق الأوسط الكبير لتوطيد الديموقراطية، وإلى أي مدى يسمح لهم بالمشاركة في استلام السلطة.

[الاستعانة بالإسلاميين لترويج الديموقراطية

الأدبيات المنشورة في هذا الموضوع تكشف عن نقاش مسهب مستمر، ولقد انقسمت الآراء بين مؤيد للاستعانة بالإسلاميين وفق شروط ومنظور مدروس، ويمثل هذا الرأي الليبراليون وعلى رأسهم معهد كارنجي للسلام، ومعارض لا يرى فرقاً بين إسلامي معتدل أو متطرف، ويمثل هذا الرأي المحافظون وعلى رأسهم معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، ويقف بينهم فريق يرى أن الأمر ليس أسود أو أبيض، لذا فإن كل حالة تدرس على حدة ويتخذ قراراً بشأنها، ويمثل هذا الرأي معهد جيمس بيكر للسياسة العامة، ومع التفاوت الحاد بالرأي في هذا الموضوع، تشير كثير من الدراسات والوثائق المنشورة أن الغرب يميل إلى الاستعانة بالإسلاميين المعتدلين لنشر الديموقراطية والحكم الصالح وإتاحة الفرصة للمشاركة الكاملة بلعبة الحكم، ويؤكد ذلك جون سبوسيتو بأن حكومة الولايات المتحدة الأميركية قد حسمت هذا الموضوع من خلال تصريحات واضحة وكافية لإدوارد جيرجيان وربرت بولليترو ورونالد نيومان ورغم أن تأكيدات سبوسيتو لم تقبل على علاتها إلا أن دراسات صدرت من مراكز معتبرة لدى صانع القرار الأميركي تؤكد على ذلك أو تضعه ضمن توصياتها، مثل تقرير "استراتيجية الولايات المتحدة في العالم الإسلامي بعد 11/9" الصادر عن مؤسسة راند خلال العام الجاري 2005، والذي يوصي فيه بالسعي إلى إشراك الإسلاميين في السياسة النظامية باعتبار أن ذلك يشجعها على الاعتدال في المدى البعيد، لكنه ربط المشاركة بشرط الإلتزام التام باللاعنف وبالعملية الديموقراطية، وكذلك مثل الدراسة التي أصدرتها معهد كارينجي للسلام وأعدها جراهام فوللر الخبير السابق بوكالة المخابرات الأميركية والذي يؤكد على ضرورة إشراك الإسلاميين واصفاً جماعاتهم بأنها "تشغل الحيّز السياسي في العالم العربي الآن، وأن لديها سمات أساسية تجمعها، أهمها النمو السريع والتطور والتغيير والتنوع، ويرى بأنه يبدو ظاهرياً أن المنافسين الأيديولوجيين لإسلاميي العالم العربي هم بدرجات متفاوتة وبتأييد متضاءل القوميون العرب واليسار والليبراليون، وهي جماعات تقل عن الإسلاميين في الحجم والأهمية"، وكذلك مثل الدراسة التي أعدها الليوتانت كولونيل بالقوة الجوية للولايات المتحدة الأميركية راندل جيمس Lieutenant Colonel Randal K. James ونشرها معهد دراسات الاستراتيجيات القومية التابع لجامعة الدفاع القومي National Defense University والتي يوصي فيها حكومة الولايات المتحدة بفرز الحركات الإسلامية حيث يرى أن بعضها يمكن التعامل معه بشكل معقول ويرى ضرورة حثّ الحكومات المحلية لتشجيع هذه الجماعات للانخراط في المعارضة السياسية السلمية أسوة بالأطراف العلمانية، كما يؤكد على ضرورة التفريق بين شعارات الإسلاميين وبين ممارساتهم، فإنهم بالممارسة عمليون أو براغماتيون، بينما اعتبر إلين ليبسون Ellen Laipson وهو رئيس مركز ستيمون The Stimson Center (مركز فكري بواشنطن لدراسات الأمن العالمي) أنه من الصعوبة تصور تطور سياسي خلال العشرين سنة القادمة بدون الإسلاميين، كما أضاف قائلاً إنهم صنعوا لأنفسهم مشروعية وأتباعا ويصعب عليك أن تزيلهم بليلة من خلال دعم ناشطين من النخب الصغيرة للعلمانيين العصريين، علينا أن نضع تصوراً لحيز سياسي يضمهم سوياً، ورغم أن الأمر يبدو قد حسم لصالح الاستعانة بالإسلاميين إلا أن هناك تياراً مقاتلاً يسعى بضراوة لحثّ الإدارة الأميركية على التراجع عن هذا الموقف، وهو تيار متعاطف مع اللوبي الصهيوني ويعتقد أن إحلال الديموقراطية بالشرق الأوسط يحرم إسرائيل من الدور الذي كانت تلعبه إبّان الحرب الباردة، وأن خلق مثل هذه الحرب مع الإسلام من شأنه يزيد من الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للغرب، لذا يلجأ أنصار هذا التيار إلى أساليب مختلفة للالتفاف على مثل هذا القرار، فتارة يثيرون حواراً حول من الإسلامي ومن هو المسلم، وتارة أخرى يفتحون نقاشاً حول من هو المعتدل ومن المتطرّف، ومرة ثالثة يثيرون تساؤلات حول ضمانات بقاء المعتدلين على اعتدالهم عند استلام السلطة، فجوديث ميلر تدعو إلى توظيف توجه غير ديموقراطي واستبعادي حيال العالم الإسلامي، إذ ان الإسلام لا يتناسب مع قيام التعددية والديموقراطية وحقوق الإنسان. على صانعي القرار في الغرب ألا يؤيدوا الانتخابات الديموقراطية في العالم الإسلامي لأنها ستوصل أصوليين متشددين إلى السلطة. كما تخص الإدارة الأميركية وغيرها على رفض أي مصالحة مع الإسلام السياسي واستيعابه لأن الحكومات الغربية لا بد ان تعارض الحركات الإسلامية، وهي ترى أنه بغض النظر عن التزام الحركات الإسلامية بمفهومي الديموقراطية والتعددية، فإن كل الأصوليين يرفضونهما. فهم الآن ضد الغرب، وضد أميركا، وضد إسرائيل، والأرجح ان يبقوا على حالهم. وترفض ميلر التفريق بين المعتدلين والمتشددين، فهم يشكلون صنفاً واحداً (2)، ويشاركها بالرأي زميلها مارتن كرايمر، الذي يرى أنه لا جدوى من الحوار مع الإسلاميين طالما ليست هناك فرصة واضحة لهم لاستلام السلطة في أي بلد، فالحوار في رأيه لن يفعل أكثر من إغضاب وإثارة نفور المسلمين الذين هم ضد الإسلاميين، ويرى الاكتفاء بالسياسات القائمة على احتواء وعزل الإسلاميين على منع أي هجوم إرهابي فوق الأراضي الأميركية منذ 11 سبتمبر 2004، ويجب الاستمرار بها، (3) ويؤكد ذلك روبن رايت في مقالته بالواشنطن بوست قائلاً إن ضم الإسلاميين إلى الحكومات فكرة غير مريحة لأولئك الذين يعيشون بمجتمعات علمانية، أنه يستدعي مشاهد فظيعة لرجال الدين الإيرانيين والرهائن الأميركيين واضطهاد المرأة والقوانين العقيمة، ورغم أن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أصدر تقريره الأخير بتوصية للتعامل مع الإسلاميين المعتدلين إلا أن روبرت ستالوف المدير التنفيذي للمعهد طالب بضرورة عدم التفريق بين الإسلاميين المعتدلين والإسلاميين غير المعتدلين، وأن جُل ما يجب الالتفات إليه هو الفرق بين الإسلاميين والمسلمين، مطالباً في الآن نفسه الإدارة الأميركية بالتحالف مع (اليساريين والليبراليين) في مواجهة الإسلاميين. أما تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا فقد رأى عدم توفر إمكانية لتكرارها في الحالة العربية، لعدم وجود معادل عربي يقوم بالدور(4)، وهو يتفق مع زميله مارتن كريمر الذي يشير إلى صعوبة التمييز الواضح بين الإسلاميين "المعتدلين" وبين الجهاديين، مما يسمح للجهاديين بالنفاذ من هذه الثغرة .(5)
ويقف هذا الفريق ضد فكرة مشروع الشرق الأوسط الكبير، إذ يعلن روبرت كابلان "إنها بديهية: دعوة صنّاع القرار الأميركيين ليس إلى التخلي عن مشاريعهم "الديموقراطية العالمية أو الامبريالية" (على حد تعبيره)، بل إلى التعاطي مع دول الشرق الأوسط الكبير على أسس قبلية وعشائرية وطائفية ومذهبية. فهذه، برأيه، براغماتية لا تتناقض مع القيم الأميركية، "لأن الليبرالية قادرة على التعايش مع هذه الأسس"، كما أكد مارتن أنديك في أحد المنتديات التي تعقدها مؤسسة الشرق الأدنى للدراسات" في واشنطن على انه لا يجدر بالولايات المتحدة تشجيع الديموقراطية في البلدان المقرّبة من واشنطن مثل الأردن أو مصر حيث يفترض بالانفتاح ان لا يشرّع سوى الأحزاب غير الدين، وقد علّق أستاذ التاريخ بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة جويل باينين على ذلك بقوله إن هذه الاستراتيجية ستؤدي بالحركات الإسلامية إلى التخلي عن العمل السياسي لتبني الكفاح المسلح، وطالما أن الولايات المتحدة تعتبر صديقة للأنظمة التسلطية فإنها ستكون هدفاً للعمل المسلح خصوصاً في مصر.

[المحاولات والاتصالات والجهود

لقد ساهمت الحرب الأميركية على العراق في تحقيق مستوى من الاتصالات بين الإسلاميين من جانب والأميركان والبريطانيين من جانب آخر، فقد كانت الإدارة الأميركية تبحث عن جماعات ذات امتداد شعبي لتسهيل مهامها العسكرية والسياسية، ويشير وضع القوة الذي تتمتع بها بعض الجماعات الإسلامية الشيعية في العراق اليوم إلى حالة من التفاهم المستقر، كما يعكس الامتنان الذي يبرزه الإعلام الأميركي للإمام الروحي آية الله السيستاني وتسليط الضوء على إرشاداته وإبراز زعامته على اطمئنان رسمي منه، كما يشير موقف الغرب عموماً والأميركي بالأخص من الانتخابات العراقية إلى سلوك مغاير مع الإسلاميين، فلقد تركت القوة الإسلامية الشيعية تبرز كامل عضلاتها في حملاتها الدعائية دون التوجسات المعتادة، ولم تستخدم وسائل الإعلام الغربية المعادية للإسلاميين حملات التحريض ضدهم هذه المرة، كما لوحظ أن أموالاً ضخمة قد صبّت في الساحة السياسية يرجح أنها قد جاءت من دول الجوار المؤيدة النفطية الحليفة، وحتى بعد ظهور النتائج التي حققت فيها قائمة السيستاني الإسلامية أعلى نتيجة لم تبد الدول الغربية انزعاجها كما كان يتم بالسابق، وها هو رئيس حزب الدعوة (الخط الشيعي المناظر لخط الإخوان المسلمين لدى السنّة) يتحول إلى مرشح قائمة السيستاني لرئاسة الوزراء دون أية محاولات عرقلة ضده، لم تمارس الولايات المتحدة الأميركية ضغوطها بشكل جدي لصالح مرشحيها مثل أياد علاوي أو أحمد شلبي، المشاهد كلها تدل على أن اتفاقاً قد تم وأن الأطراف مصرّة على احترام التزاماتها، وهي اتفاقات تمت من خلال الديبلوماسيين المتواجدين بالعراق والكويت، واستخدمت أطرافاً وأموالاً كويتية للوساطة وتيسير المفاوضات، فقد وطّد الكويتيون علاقاتهم مع زعماء المعارضة الشيعية قبل الحرب بسنوات.
وإذا كان التفاهم ميسوراً مع الشيعة لوجود زعامة روحية يمكنها أن تتحدث باسم الطائفة وتتخذ القرارات وتلزم أتباعها بها، فإن وضع جماعات الإسلاميين من السنّة أثر تعقيداً وتشابكاً، إذ لا تكمن أزمتهم بغياب الزعامة القادرة على التفاوض فحسب، بل كذلك تكمن بالفوضى الفكرية والفقهية التي تعكس مواقف متباينة ومتعارضة بينهم وأحياناً بين الجماعة الواحدة، فالإسلاميون السنّة تتجاذبهم مدارس سلفية وهابية أو تقليدية توفيقية أو جهادية تكفيرية أو تنويرية براغماتية، فضلاً عن تباين خطابها السياسي المتأرجح بين المعارضة الجامدة أو المداهنة اللينة أو التذبذب بين الموقفين، وفوق كل ذلك تفتقد قراراتها كثير من الإقدام والجرأة (وهنا لا نعني الشجاعة والقوة)، ويتلفت الغربيون يميناً وشمالاً بين السنّة بحثاً عن زعامة فكرية قادرة على التحاور، وتتساءل مجلة ميدل ايست كوارترلي أربعة متخصصين بالحركات الإسلامية عن المفكر الإسلامي الأبرز اليوم، ويجيب عنهم إسبوسيتو معتبراً أن الشيخ راشد الغنوشي هو نموذج الإسلامي المعتدل الذي يمكن التحاور معه من بين المفكرين الإسلاميين، وإن كان يرى في الشيخ يوسف القرضاوي التأثير الأكبر، غير أن مارتن كريمر أضاف أنه بجوار الغنوشي يوجد كلاً من الدكتور حسن الترابي والسيد حسن فضل الله باعتبارهما من مروّجي استخدام القوة، ويمكن القول بأن أكثر الجماعات السنّية قدرة على التفاوض هي جماعة الإخوان المسلمين لما تملكه من بعض المقومات اللازمة لدخول المفاوضات، غير أن جماعة الإخوان المسلمين ما زالت تتوجس خيفة من التفاوض مع الغرب آخذة في حساباتها الطهر الوطني الذي لم تلوثه بالاتصال مع الغربيين، رغم أن هذا الطهر وهم لا موقع له في ميدان السياسة منذ نهاية حقبة الاستعمار، ولقد أبدى الغربيون محاولات جس نبض مع كثير من جماعات الإسلاميين السنّة، إما من خلال لقاءات الديبلوماسيين بهم أو من خلال تحويل الموضوع إلى نقاش عام بالصحافة، أو من خلال بعض الأنظمة العربية الحليفة، أو من خلال الدعوة إلى ندوات أو مؤتمرات أو حلقات النقاش.
ولعل أبرز هذه الاتصالات التي قام بها الغرب مع الإسلاميين السنة هي تلك التي تمت مع حماس (الجناح العسكري للإخوان المسلمين الفسلطينيين) والجهاد الإسلامي، إذ التقى وفد من الولايات المتحدة الأميركية بوفد من حماس وحزب الله والجماعة الإسلامية في شهر مارس 2005 واتفقا على استمرار العلاقة والحوار بينهم كما نشرت صحيفة "العرب" اللندنية، وقد قامت جريدة الواشنطن بوست بنشر مقال بشكل بارز منذ أربعة أشهر بعنوان "البحث عن أصدقاء بين الأعداء إذ خصص الكاتبان جل حديثهم عن الإخوان المسلمين، وقد ناقشا بشكل تفصيلي مدى إمكانية التعاون معهم وجدواه، كما أشار المقال الى محاولات عدة لإيجاد قنوات حوار معهم مستشهداً بتصريح خاص لجرجيان قال فيه "هناك نقاشات دائمة حول الالتقاء معهم"، وأوضح المقال بشكل صريح أن هدف الالتقاء مع الإخوان لتنشيط التيار السلمي بالحركة الإسلامية في مواجهة التيار الجهادي، وأشار الى تجربتهم الناجحة بالتعاون مع الإخوان اليمنيين في شؤون التدريب السياسي، لقد كان هذا المقال إشارة للإخوان حول اهتمام الغرب بالحوار معهم وجس نبضهم حول استعداداتهم لذلك، ولا يبدو أن الإخوان قد استقبلوا مثل هذه الإشارة لأنه لم يبد عليهم أي شكل من أشكال ردود الفعل إزاء هذا المقال، ومن ناحية أخرى قام معهد كارنيجي للسلام (وهو من مراكز الفكر المؤيدة للانفتاح على الإسلاميين) مع جريدة الوطن الكويتية بدعوة الإسلاميين من كل الأطياف لمناقشة دور الجماعات الإسلامية في عملية الإصلاح السياسي، وهو لقاء صريح مفتوح هدفه الحوار والاستماع لوجهات نظر الطرفين، غير أنه في الوقت الذي لبى فيه الإسلاميون الشيعة بكل أطيافهم (ويتقدمهم ابراهيم الجعفري) الدعوة والمشاركة كان تمثيل الإخوان ضئيلاً وقاصراً على الكويتيين واليمنيين والأردنيين، في الوقت الذي تردد فيه كثير من الشخصيات الإسلامية السنية المشاركة حفاظاً على وهم الطهر الوطني، ولولا أن هناك جهوداً متقدمة في هذا المضمار بأقطار مثل الكويت واليمن والعراق لأمكننا أن نقول إن الجماعات الإسلامية السنية بالعالم العربي تكاد تكون غافلة عن أهمية ما يدور اليوم في هذا الصدد.

[تحديات الحوار بين الطرفين

مايكل فلاهوس باحث في مختبر الفيزياء التطبيقية بجامعة جونز هوبكنز أجرى حوارات في عام 2003 مع إسلاميين معتدلين لاكتشاف معضلات الحوار معهم ثم نشر نتائج هذه الحوارات، ويؤكد مايكل في مستهل بحثه أنه بإمكان الإسلاميين المعتدلين أن يقرروا نجاح أو فشل الحرب الأميركية على الإرهاب، "فالنصر يعتمد على دعمهم لنا ودعمنا لهم"، ويسطر معضلات ستة يظنها الأبرز على مائدة الحوار، الأولى: التحديث العصري للدولة في مواجهة الشريعة الإسلامية، حيث يرى أن الشريعة ما زالت لم تقدم نفسها بشكلها العصري في بناء الدولة الحديثة وتحديد السلطات وأدوارها المختلفة وتنظيم العلاقات بين الحاكم والمحكوم والنص على الحقوق والواجبات، أما الثانية: فهي الانتماء السياسي بين المواطنة القومية مقابل الانتساب للأممية الإسلامية، وهي معضلة تنتهي بإلغاء فكرة الدولة/ القوم والتمييز بين أفراد الوطن الواحد على أساس ديني، أما الثالثة: فهي فكرة التجديد الإسلامي في مواجهة الحداثة، وهي معضلة تشير الى قدرة الإسلاميين المعتدلين على الانتقال بفكرة التجديد الإسلامي من دائرة التراث الإسلامي الى التراث الإنساني، أما الرابعة: الاعتماد الكلي على أميركا بالتغيير، إذ يعتبر الإسلاميون أن التفاهم مع الولايات المتحدة يعني أنها ستقوم بعمليات تغيير شاملة من دون مبادرات ذاتية منهم، يجب أن يعلم الإسلاميون المعتدلون أن مبادراتهم أساسية في التغيير، والخامسة: التغيير بالقوة في مقابل التغيير بالدعوة، إذ يرى المعتدلون أن العمل السلمي في نطاق الأنظمة القائمة غير مجد، ولا بد للولايات المتحدة أن تطيح بها وتسمح بقيام حكومات إسلامية ليس على شاكلة ما هو قائم في إيران أو السودان أو طالبان، أما السادسة: فهي أن الإسلام خيار ديموقراطي للناس مقابل أن الإسلام هو الخيار الوحيد(6).
ورغم المحاولة الجيدة التي بذلها مايكل فلاهوس (الخبير في محاربة الإرهاب) للتعرف على معضلات الحوار مع الإسلاميين إلا أنها لم تبلور التحديات الحقيقية التي سيواجهها الإسلاميون عند الحوار، ونعتقد أن التحديات تكمن فيما يريده الغرب من الإسلاميين من مطالب لا تبدو منسجمة مع الفكرة السائدة عن الخطاب الإسلامي السياسي، إذ يبني الغرب فكرته عن الإسلاميين المعتدلين بالصورة الآتية:
1 الذين يحترمون مبدأ المواطنة، ويترتب على هذا التمسك بنموذج الدولة/القوم ومنح المواطنة وفقها وليس وفق الدين، أي أن على الإسلاميين المعتدلين ألا يمنحوا امتيازات للمواطنين المسلمين دون غيرهم، وألا يفرّقوا في الحقوق والواجبات وفق المعتقدات والمذاهب.
2 الذين يؤمنون بالديموقراطية ومقتضياتها السياسية، ويعني ذلك الرضوخ لإرادة الأمة واختياراتها، فالأمة مصدر السلطات جميعاً ولها الولاية على نفسها، فإذا ما اختارت حزباً علمانياً بالانتخاب الحر فهذا خيارها الذي يجب أن يحترمه الإسلاميون المعتدلون.
3 الذين يتقيدون بالقرارات الدولية والاتفاقات المبرمة مع الدول الأخرى ويحترمونها عند مجيئهم للحكم، وهي تعبّر عن احترام إرادة الأقوياء في النظام الدولي والتي تراعيها الدول الأقل قوة، وتعني احترام اتفاقات السلام مع إسرائيل التي أبرمتها الحكومات السابقة والالتزام بمقتضياتها إذا ما جاء الإسلاميون الى الحكم، تماماً كما يفعل الإسلاميون الحاكمون في تركيا اليوم.
4 الذين يحاربون العنف وكافة صور الإرهاب، ويسعون مع المجتمع الدولي لتجفيف منابعه ومحاصرته، وهم بذلك يشيرون الى المنظمات المقاتلة في فلسطين ولبنان (حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي)، فإذا ما اتفق المجتمع الدولي (وهو لم يتفق بعد) على أن هذه الحركات القتالية تمثل إرهاباً تحتّم على الإسلاميين المعتدلين محاربتها.
 5الذين يسعون الى تحديث (modernize) الدولة والمجتمع، وليس بالضرورة أن تأخذ طابعاً غربياً، فالتحديث ليس بالضرورة هو التغريب، بل بناء الدولة المعاصرة وفق النموذج النمطي الذي تقوم عليه سائر الدول.
6 لا يعترض الغربيون على تطبيق الشريعة ضمن الإطار المذكور، إذ ليس بالضرورة أن يكون النموذج الإسلامي التركي هو النموذج المحتذى عالمياً، فتركيا ارتضت لنفسها قبول شروط العضوية في الاتحاد الأوروبي، غير أن هناك إلحاحا على تقديم الشريعة بقراءة عصرية جديدة تجعلها جزءا من الثروة التشريعية العالمية.

هوامش

1 في 24 أيلول 2004، قدم مارتن كرامر وجيل كيبل ملاحظاتهما الى منتدى السياسة في معهد واشنطن حول موضوع "الإسلام والإسلاميون والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية".
2 أحمد الموصللي، الأصولية الإسلامية والديموقراطية، شبكة هجر الثقافية الإلكترونية، 12/11/2001، وجوديث ميللر هي أقل تمثيلاً لهذا التيار الذي يمثل هنتنغتون وبرنارد لويس وغلنر، وبدرجة أقل بسام طيبي وفؤاد عجمي ومارتن كريمر ودانييل بايبس وستيفن أيمرسون وباري روبن.
3 في 24 أيلول 2004، قدم مارتن كرامر وجيل كيبل ملاحظاتهما الى منتدى السياسة في معهد واشنطن حول موضوع "الإسلام والإسلاميون والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية".
4 مجلة العصر الالكترونية بتاريخ 13/1/2001.
5 في 24 ايلول 2004، قدم مارتن كرامر وجيل كيبل ملاحظتهما الى منتدى السياسة في معهد واشنطن حول موضوع "الإسلام والإسلاميون والسياسة الخارجية للولايات المتحدة الاميركية"، وكريمر زميل في ويكسلير فرومير في معهد واشنطن وباحث بارز في مركز موشيه ديان للدراسات الشرق اوسطي والافريقية في جامعة تل ابيب).
The Six Dilemmas of the Moderate Islamist By Michael Vlahos/Published 16/10/2003/http:www.Sunday-times.co.uk/news/pages.sti/2