البعد السيكولوجي للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني 2
لمحة موجزة: أكثر النواحي المحيّرة في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هو بقاؤه – بعد 65 عاما ً من العنف المتبادل والعداء والمعاناة – بدون حلّ حتى بعد الإتضاح بأن التعايش بين الشعبين أمرٌ محتوم وحلّ الدولتين يبقى الخيار الوحيد القابل للحياة. وبالرغم من أنّ هناك العديد من القضايا المثيرة للنزاع التي يجب أن تُعالج بشكل ٍ خاصّ, غير أن البعد السيكولوجي (النفسي) للصراع هو الذي يؤثّر مباشرة ً على كلّ قضيّة متنازع ٍ عليها ويزيد من صعوبة حلّ الصّراع. ولتخفيف حدّة الصّراع, يجب علينا أوّلا ً إلقاء نظرة داخل العناصر التي تغذي البعد السيكولوجي ومعرفة كيفيّة تلطيفها كمتطلبات أساسيّة لإيجاد حلّ. وهذه هي المقالة الثانية من ست مقالات حول الموضوع بعنوان:
الخبرات والمفاهيم التاريخية
من الأسباب الرئيسية لبقاء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني هي ندبات الجروح التي يحملها كلّ طرف من تاريخه المؤلم المليء بالمآسي. وقد نشأت مفاهيم كل طرفٍ عن الآخر عن طريق تقاليدهم الدينية وخبراتهم التاريخية المرتبطة بعضها ببعض. ولقد جعلت الأحداث المتزايدة من عنف واتهامات مضادة متبادلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين على مدى السبعة عقود الماضية تسوية الخلافات بينهم أمراً مستحيلاً في الواقع. وإبقاء فكرة متناقضة لكل طرف عن الطرف الآخر قد زوّد التبرير والمنطق لتخليد مظالمهم التاريخية من خلال روايات شعبية حاقدة تضع اللوم للخلاف المستمر على الطرف الآخر.
والخبرات والتجارب اليهودية أثناء تواجد اليهود في جميع أنحاء الشتات كانت مفعمة بالتمييز والاضطهاد ومعاداة السامية والطرد وكان أوجها في الهولوكوست (المحرقة). والإبادة الجماعية التي اقترفت أثناء فترة المحرقة كانت بالتأكيد شيئاً جديداً في التاريخ: لم يسبق لدولة قوية أن حوّلت مواردها الضخمة إلى "تصنيعٍ ٍ للجثث"، ولم يسبق أن تمّت إبادة شعب بأكمله بسرعة "خط تجميع". ولجوء العديد من اليهود للهجرة إلى فلسطين هروباً من معسكرات الموت قد أضاف طبقة أخرى من الخبرات والتجارب المرعبة للشعب اليهودي. لقد حمل اليهود ندبات جروح هذا الماضي معهم وما زالوا يعتقدون بأن هذا قد يحدث ثانية لهم ما لم يبقوا يقظين وبدون رحمة في حماية أنفسهم بأي ثمن. وبهذا الماضي المؤلم في الذهن لم يُنظر لتأسيس دولة إسرائيل فقط كآخر ملجأ لتوفير الحماية للشعب اليهودي ولكن أيضاً لتحقيق النبوءة التوراتية وأمل الصهيونية العلمانية وهو عودة اليهود إلى أرض أجدادهم. ولذا يعتقد اليهود المتدينون وغير المتدينون بأنه يجب حماية هذه الأمانة بمطلق الغيرة والحماس المنقطعين النظير.
هذا الشعور التاريخي بالضحية والجور قد خدم لتغذية الولاء الذي يشعر به كل إسرائيلي نحو الدولة ونحو بعضهم البعض مقترنة بمشاعر عاطفية سالبة قد نشأت بشكلٍ طبيعي تجاه العدوّ. لقد نُظر وما زال يُنظر لتأسيس دولة إسرائيل في أعقاب المحرقة (الهولوكوست) من وجهة النظر الإسرائيلية كالفرصة الأخيرة لخلق ملجأ لليهود. ولذا عليهم دائماً أن يبقوا متيقظين لحماية خير اليهود وازدهارهم أينما يعيشون وبأي ثمنٍ كان. هذا الشعور بكونهم ضحية نتج من إنزال الضرر بهم قصداً في الماضي، ونُظر لذلك عالمياً كظلم كلي وغير أخلاقي. لقد قاد ذلك إلى افتقار التقمّص العاطفي تجاه الأعداء المعروفين. مثلاً، لقد رسخ ذلك نفسه بهروب إسرائيل من مسئوليتها تجاه مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وانتهاك حقوق الانسان وتعزيز الشعور بأنهم أقوم أخلاقاً من الآخرين.
هذه الظروف إذا تجمعت تبقى متآزرةً حيّة وبالأخصّ إذا كانت مصحوبة بعنفٍ مكثف ومستمر ضد إسرائيل ومخاوف متزايدة حول الأمن القومي. إضافة إلى ذلك، فقد تمّ تعزيزها برواية الفلسطينيين الشعبية التي تساند بشكلٍ علني رفض وجود كيان الدولة. والفلسطينيون من جانبهم لم يقوموا بأي جديدٍ يذكر لفهم وتقدير عقد اليهود النفسية الناتجة من تجاربهم وخبراتهم التاريخية في الاضطهاد الديني. فبدلاً من فهم العقلية الإسرائيلية التي تشكّلت من الماضي الرهيب، أنكر الفلسطينيون إمّا المحرقة (الهولوكوست) أو تحسّروا على حدوثها. ليس أنه يجب تحميل الفلسطينيين المسئولية عن مأساة اليهود التاريخية، ولكنهم فشلوا كحد أدنى في تقدير عقلية الإسرائيليين في التعامل بفعالية مع الصراع.
وبالنسبة للفلسطينيين، فإن تجربة النكبة التي حدثت مباشرة بعد حرب عام 1948 لم تكن بأقلّ فاجعة. كانوا من وجهة نظرهم يعيشون في وطنهم ولو لقرون من الزمن تحت الحكم العثماني ثم تحت سلطة الانتداب البريطاني. إنهم مقتنعون تماماً بأنهم أُجبروا على ترك بيوتهم خلال حرب 1948 من قبل الإسرائيليين -ولكن في الواقع تمّ تشجيع الكثيرين منهم من قبل إخوتهم العرب على الخروج والعودة "بعد هزيمة الإسرائيليين"-.
وفي كلتا الحالتين، فقد وجد ما يزيد عن 700.000 أنفسهم لاجئين، وهذه تجربة مرّة استمرّت عقودا طويلة من الزمن وما زالت مستمرة تاركة انطباعاً لا يُمحى على نفسياتهم. وحالياً يوجد حوالي 5 ملايين لاجىء فلسطيني. وقد ربطت هذه التجربة المؤلمة الفلسطينيين بعضهم ببعض بنفس الطريقة التي التحم بها اليهود بعد المحرقة (الهولوكوست)، وكلّ من الطرفين يعتقد بأن خبراته التاريخية المأساوية لا مثيل لها من حيث الحجم والشدة. وحقيقة أن الدول العربية استغلّت قضية اللاجئين الفلسطينيين عبر عقود عديدة لمنافعهم الخاصة لا يغيّر من الواقع على الأرض. إنه لم يغيّر عقلية الفلسطينيين وفهمهم لما فعله الإسرائيليون أو مشاعرهم وميولهم حول محنتهم.
إن أعمال العنف المتتابعة والمتكررة ما بين الطرفين، وبالأخصّ بعد حرب 1967، قد زادت من حدّة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. لم تخلق هذه الحرب فقط موجة جديدة من اللاجئين بل ووضعت الأساس أيضاً لمواجهة دامية، خسر خلالها آلاف عديدة على كلا الجانبين أرواحهم. وقدّم مشروع الاستيطان الإسرائيلي يومياً ضربات لكبرياء الفلسطينيين، هذا في الوقت الذي يظهرون فيه عدم جدوى جهودهم لوقف الزحف الإسرائيلي على أراضيهم، وبالأخصّ في الضفة الغربية. فالإحتلال وإذلال الفلسطينيين المتكرر قد زاد من عزيمتهم لمقاومة الإسرائيليين مهما كان الثمن، ولكن كلّ ذلك دون جدوى، فلقد أثبت الإسرائيليون بأنهم عدوّ هائل، الأمر الذي زاد فقط بطبيعة الحال من كراهية وعداء الفلسطينيين لهم.
لم يفهم الإسرائيليون تماماً يوماً ما أهمية ما يعاني منه الفلسطينيون وكيفية تأثير ذلك على تصرفاتهم السيكولوجية وسبب عدم إظهار أية رغبة في تسوية خلافاتهم مع إسرائيل. وغالباً ما يقول الإسرائيليون أنه ما دام حوالي 800.000 يهودي قد تركوا بيوتهم، أو أنهم أجبروا على ذلك، في جميع أرجاء بلدان الشرق الأوسط العربية وشمال إفريقيا واستوطنت غالبيتهم في إسرائيل، يجب اعتبار اللاجئين الفلسطينيين كعملية تبادل واقعية مع اللاجئين اليهود. وهذه النظرة لا تنكر فقط المأساة التاريخية التي مرّ بها الفلسطينيون، بل تتجاهل أيضاً طموحاتهم الوطنية في إقامة دولةٍ خاصة بهم، وبالأخصّ في ضوء قرار الأمم المتحدة لعام 1947 المعروف بقرار التقسيم الذي دعا لدولتين مستقلتين، يهودية وفلسطينية. وهذا التعلّق السيكولوجي المعزز بالروايات الشعبيّة والتربية والتعليم في المدارس قد منع كلّا من الطرفين من إدراك حتميّة التعايش السلمي بينهما.
إنّ فهم العقليّات الإسرائيليّة والفلسطينيّة من وجهة النظر التاريخيّة أمرّ مهمّ جدّا ً لتقدير مقاومة كلّ منهما للتغيير, تلك المقاومة التي تستمدّ قدرتها من خبراتهم وتجاربهم التاريخيّة, وبالأخصّ إذا استمرّ كلا الطرفين في تبنّي أجندات سياسيّة تتجاوز إلى حدّ كبير ما بإمكانهما التوصّل إليه في الواقع. أي بمعنى: هل ستخفّف تجاربهم وخبراتهم التاريخيّة الموروثة شعورا ً متبادلا ً بالضحيّة في الواقع المتغيّر, أو أنهم سيتمسكون به حتّى يحققوا أهدافهم مهما كانت هذه وهميّة أو خادعة ؟ وهل سترفع المعاناة التاريخيّة غير المسبوقة للشعبين اليهودي والفلسطيني من الناحية الوجوديّة الشعبين – بالرغم من أنّ معاناتهما ليست من نفس النوعيّة - من وضع "الضحيّة" إلى وضع ٍ أسمى ضامنة ً لهم حالة ً غير مشروطة من السموّ الأخلاقي الذي لا يمسّ ؟
لقد كان الفيلسوف الفرنسي ألان باديو محقّا ً في قوله بأنه علينا أن نفحص الفرضيّة القائلة "بأن نعمة أن تكون ضحيّة لا تضاهى مثل خطيئة أصليّة مقلوبة قد تنتقل ليس فقط للأسلاف ولأسلاف الأسلاف بل لكلّ من قد يكون له صلة ً من قريب ٍ أو بعيد, أكانوا رؤساء دول أو قادة جيوش ممّن شاركوا في الظلم والإضطهاد الشديدين لأولئك الذين سلبوهم أراضيهم". وبالفعل, لقد أصبحت عقليّة الضحيّة أداة سياسيّة في أيدي أولئك الذين يسعون لتعزيز مصالحهم الخاصّة على حساب الأحزاب السياسيّة المعارضة, فما بالك بالعدوّ.
والثقافة الفلسطينية من الناحية الأخرى بلعب دور الضحية كانت مسببة بشكلٍ مماثل تماماً للخلاف لأنها مستمرة في الإبقاء على مشكلة اللاجئين بتعزيز الرفض الشعبي لإعادة توطين اللاجئين. وقد استغلّ القادة الفلسطينيون هذه المشكلة أيضاً كأداة لتلقين الشعب ما يريدون مؤكدين بأن وضع الفلسطينيين المزري يبقى قضية مركزية لأي نهجٍ سياسي واجتماعي. وقد قام الفلسطينيون وقادتهم بزرع عقلية "الضحية" بعناية وبشكل منهجي في عقول جيلٍ تلو جيل وذلك من خلال وسائل الإعلام والمدارس وأماكن العبادة.
يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء - وبالأخصّ أولئك الذين يسعون وراء تدمير إسرائيل مثل حماس - أن يصبحوا أكثر انتقاداً لأنفسهم على استعمالهم "مفهوم الضحية". يجب أن يدرك كلا الجانبين بأن ليس له حكر على وضع "الضحية" وليس لأي منهما الوضع الأخلاقي والمعنوي الموثوق نتيجة خبراته وتجاربه التاريخية أو نتيجة تغيير الوقائع على الأرض. ويمكن تخفيف تأثير التفاعل التاريخي المعاكس مع مرور الزمن أو تسويته عن طريق الحوار بحيث يؤدي في النهاية إلى تغيرات في المفاهيم.
وبالرّغم من تجاربهم وخبراتهم التاريخية المؤلمة لا يجوز لأي من الإسرائيليين أو الفلسطينيين استخدام التاريخ لينذر بمتطلبات حالية لصنع السلام. ويمكن للخبرات والتجارب التاريخية أن تكون بنّاءة أو هدّامة. ومن يدرس التاريخ يجب أن يتعلّم من خبرات وتجارب الماضي ولكن لا يحاكيها فيخفي أو يعتّم بذلك على الواقع المعاصر، وبالأخصّ ضرورة التعايش السلمي. وللفلسطينيين كلّ الحق أن يطالبوا بإنهاء الاحتلال فوراً والعيش بكرامة، ولإسرائيل الحقوق المماثلة في أن تتمتع بأمنها الوطني المشروع. هذان المطلبان الرئيسيان منسجمان تماماً مع بعضهما البعض ويشكلان الأساس الوحيد لبناء إطار للتعايش السلمي بين الشعبين.
وبدون إنكار شعور اليهود والفلسطينيين بأنهم ضحية فإن استدامة نزاعهما تخلق بشكلٍ ساخر أجيالا جديدة من الضحايا تسلبهم مستقبلهم, فقط لأن زعماءهم يريدون أن يتشبثوا بالماضي.