الولايات المتحدة وقضية المستوطنات الإسرائيلية

في قضية المستوطنات اختلاف في الرأي بين "اسرائيل" والولايات المتحدة منذ ان انتهت حرب الايام الستة، ويمكن ان نزعم أنها أفضت الى تعكير العلاقات بين الطرفين أكثر من كل قضية اخرى كانت مطروحة بين الجانبين، وقد اعتمدت جميع الادارات حتى ادارة الرئيس ريغان الى تحديد موقف الولايات المتحدة من المستوطنات على أساس معيارين:

أ - المستوطنات غير قانونية.
ب - المستوطنات عائق أمام السلام.

وشذ عن ذلك ادارتان جمهوريتان كانت الاولى هي ادارة ريغان الذي أكد أنه لا يقبل قول ان المستوطنات غير قانونية، ومع ذلك انتقد صورة نشاط المستوطنات ومعدل نموها وعرّفها بأنها متحدية، وكانت الثانية ادارة جورج بوش (الابن)، التي صاغت نظام تفاهمات شاملا مع رئيسي الوزراء "شارون" و"اولمرت" في قضية المستوطنات، وكان معنى التفاهمات اعترافا فعليا محدود الطابع بالمشروع الاستيطاني مع افتراض ان البناء سيتم تحقيقه في مخطط متفق عليه بين "اسرائيل" والولايات المتحدة.

وكانت في داخل "اسرائيل" ايضا اختلافات جوهرية في الرأي في قضية المستوطنات، فقد وجدت حكومات رأتها مصلحة قومية حيوية لـ"اسرائيل" ولا سيما في الجانب الأمني، بينما رأت اخرى ذلك تحقيقا لعقيدة ايديولوجية – دينية، وحقا تاريخيا للشعب اليهودي في ارض الآباء، وكان من رأوا ذلك تحقيقا لضرورات ائتلافية، وقد أنفقت جميع الحكومات على المستوطنات أموالاً ضخمة على أنحاء مختلفة.

يمكن بالنظر الى الوراء ان نقول ان المعارضة الامريكية الطويلة لمشروع الاستيطان لم تحرز هدفها لأن مشروع الاستيطان أخذ يتطور بالفعل ويجب على الادارة الامريكية في هذه الظروف ان تسأل نفسها: أهناك أساس وحكمة في الاستمرار في المعارضة الشاملة لمشروع الاستيطان؟ تثبت التجربة التاريخية ان المعارضة الدولية لمشروع الاستيطان بعامة والامريكية بخاصة التي حظيت بدعم دوائر واسعة في داخل "اسرائيل"، لم تنجح في وقف هذا المشروع ويجب على الادارة الامريكية في هذه الظروف ان تسأل نفسها هل استمرار المعارضة الامريكية لمشروع الاستيطان قد تضر بمنزلة الولايات المتحدة وجلالة شأنها في النظام الدولي وبأي قدر، ويُسأل من تلقاء نفسه سؤال ألم يحن الوقت لتحول في سياسة الادارة الامريكية في قضية المستوطنات.

برغم علم الادارة الامريكية بعدم نجاحها في وقف مشروع الاستيطان، لن تتبنى أبداً اقتراح التسليم لهذه الظاهرة، فالمعارضة الامريكية لمشروع الاستيطان يدعمها ويؤيدها المجتمع الدولي كله الذي هو أكثر تطرفا من الولايات المتحدة، وتقوم المعارضة الامريكية على اعتبارات اخلاقية وقانونية وسياسية، وعلى حسب وجهة نظر الادارات الامريكية على اختلاف حقبها، فان مشروع الاستيطان يضر ضررا شديدا لا بمصلحة الولايات المتحدة فحسب بل بمصالح "اسرائيل" ايضا، ويجوز ان نذكر ان هذا الموقف الامريكي يحظى بتأييد واسع ايضا من الجمهور والجهاز السياسي في "اسرائيل"، وعلى ذلك فليس من المعقول ان تتبنى الادارة الامريكية توجه التسليم لمشروع الاستيطان.

يبدو من جهة اخرى ان الادارة على علم بأن استمرار المعارضة الشاملة لمشروع الاستيطان قد يضر بمنزلة الولايات المتحدة الدولية وفخامة شأنها بسبب حقيقة ان هذه السياسة لا يتم تحقيقها بالفعل أصلا، وتواجه الادارة الامريكية في ظاهر الامر احتمال تصاعد الاختلاف في الرأي في قضية المستوطنات الى حد قطيعة في العلاقات بـ"اسرائيل" وربما استعمال عقوبات عليها، لم تتبنَ أية ادارة امريكية هذا الاحتمال منذ 1967، ويجب على ادارة تزن تحقيق هذه الامكانية ان تأخذ في حسابها ان ترد عليها حكومة "اسرائيل" بالرفض، والى ذلك فليس من الواقع ألبتة هل سيحدث وقف مشروع الاستيطان تسوية مع الفلسطينيين، وقد طُرحت للنقاش قضايا حلها أصعب منها مطلب السلطة الفلسطينية:

أ - تحقيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين جزئيا على الأقل.
ب - تقسيم القدس والاعتراف بشرقي القدس عاصمة الدولة الفلسطينية التي ستنشأ.
ج - بت أمر حدود الدولة الفلسطينية، وتفكيك المستوطنات.

ان الاحتمال الأكثر معقولية في الظروف القائمة – والأجدى ايضا – هو جهد الادارة الامريكية لتصوغ مع "اسرائيل" وثيقة تفاهمات في قضية المستوطنات، وستُمكّن هذه الوثيقة "اسرائيل" من مواصلة مشروع الاستيطان على أساس مخطط متفق عليه محدود في طابعه، وقد تشتمل أسس هذه الوثيقة على النقاط الرئيسة التالية:

أ - تعاود "اسرائيل" تبيانها أنها تؤيد صيغة الاراضي مقابل السلام، واتفاقات اوسلو ورؤيا "دولتين للشعبين".
ب - تُبين "اسرائيل" ان مشروع الاستيطان لن يمس برسم خط الحدود مستقبلا بين "اسرائيل" والدولة الفلسطينية التي ستنشأ.
ج - تمتنع "اسرائيل" عن انشاء مستوطنات جديدة وعن توسيع مساحة مستوطنات قائمة.
د - تحصر "اسرائيل" نشاط البناء في داخل المستوطنات الموجودة في كتل استيطان كبيرة.
هـ - يكون البناء على كل حال في داخل المستوطنات فقط وعلى أساس مبدأ الزيادة الطبيعية "واستمرار الحياة المعتادة".
و - تمتنع "اسرائيل" عن مصادرة اراض فلسطينية من اجل الاستيطان، وعن اعطاء استيطان المستوطنات حوافز.
ز - تمتنع الادارة الامريكية عن التعبير عن معارضة بناء اسرائيلي في أنحاء القدس.

يمكن ان تكون صيغة من هذا القبيل لاتفاق تفاهم مقبولة مبدئيا عند حكومات يمين في "اسرائيل" ايضا، وقد تم صوغ وثيقة تفاهمات تشبه هذه بين ادارة الرئيس بوش ورئيس الوزراء اريئيل شارون، ولا يوجد سبب يدعو الادارة الحالية في الولايات المتحدة الى عدم تبني وثيقة كهذه.

الولايات المتحدة وقضية المستوطنات - نظرة تاريخية

إن قضية الاستيطان مختلف فيها، بدرجات تكثيف متغيرة بين "اسرائيل" والولايات المتحدة منذ انتهت حرب الايام الستة، وقد عبرت جميع الادارات الامريكية عن مواقف سلبية من ظاهرة الاستيطان معتمدة على شتى الدعاوى، وقد برز على العموم الميل الى حصر المعارضة في جانبين وهما:

أ - ان المستوطنات غير قانونية. 
ب - ان المستوطنات عائق أمام السلام. ومنذ 1981 على أثر قول الرئيس ريغان انه لا يقبل دعوى عدم قانونية المستوطنات، حصرت الادارة عنايتها في الأساس في قضية تأثير المستوطنات في مسيرة السلام.

عرض ممثلو الادارة هنا وهناك ظاهرة الاستيطان على أنها من العناصر في اطار توجه الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني للعمل بصورة أحادية – وهو توجه لا تقبله الادارة، فعلى سبيل المثال في رسالة أرسلتها الادارة الامريكية الى القيادة الفلسطينية قُبيل مؤتمر مدريد، 24 تشرين الاول 1994، ربطت معارضتها لظاهرة المستوطنات بمعارضة شاملة لخطوات من طرف واحد للطرفين، لكن الادارة الامريكية حصرت عنايتها في أكثر الحالات في الجانب الاسرائيلي دونما صلة بنشاط من طرف واحد للجانب الفلسطيني.

في عدد من تصريحات عناصر في الادارة الامريكية عن قضية الاستيطان تم التعبير عن موقف وهو ان طلب الادارة الى "اسرائيل" ان توقف الاستيطان لا ينبع فقط من رؤية هذا الموقف أنه تعبير عن مصلحة قومية امريكية بل من تقدير ان هذا حيوي لمصالح "اسرائيل" ايضا. 

وقد عبر سفير الولايات المتحدة في "اسرائيل" في عهد الرئيس بوش، دانيال كيرتسر، عن ذلك تعبيرا لا لبس فيه (29 أيار 2002). وهو يرى معتمدا اعتمادا كبيرا على آراء تقبلها دوائر واسعة في "اسرائيل" ان منزلة "اسرائيل" ووضعها الامني سيتحسنان اذا وحينما توقف مشروع الاستيطان.

وعرض الرئيس بوش دعوى اخرى لمعارضة ظاهرة الاستيطان فقد قال (24 أيار 2006) إن المستوطنات تُحدث احتكاكا شديدا بين اليهود والفلسطينيين وتسهم بذلك في تعظيم الكراهية والعنف في المنطقة، وكان كلام الرئيس في هذا السياق يرمي الى تسويغ تأييده لخطة انفصال اريئيل شارون، وموقفه المؤيد جدا لخطة انطواء رئيس الوزراء اهود اولمرت، وبوش برغم انه يؤكد أهمية ان تعمل "اسرائيل" في اطار الاتفاق مع الفلسطينيين يُجل كثيرا الانسحاب وتفكيك المستوطنات باعتبارهما عاملين يستطيعان ان يُسهما في زيادة الهدوء في المنطقة.

أُقر أساس مواقف الولايات المتحدة هذه من قضية الاستيطان بعد نهاية حرب الايام الستة بأشهر معدودة، حينما كانت ظاهرة الاستيطان ما تزال في مهدها وكانت محدودة السعة جدا، وأوضحت ادارة الرئيس جونسون موقفها وهو انه لا يجوز لحكومة "اسرائيل" ان تعمل في المناطق التي احتلتها في حرب الايام الستة بطريقة قد تضر بجهود السلام وتحقيق صيغة: "الاراضي مقابل السلام". وأكدت الادارة الى ذلك ان هذا النشاط يعارض المادة (49) من ميثاق جنيف التي تقضي بأن القوة المحتلة لا يجوز لها ان تنقل سكانا منها الى المنطقة الواقعة تحت الاحتلال.

بعد ذلك صاحبت تصريحات ممثلي الادارة الامريكية في قضية المستوطنات ألوان جديدة نصف جزءا منها فيما يلي، فقد اختارت ادارة جونسون مثلا في بعض تناولها لهذه القضية ان تنشئ ربطا ولو بصورة غير مباشرة بينها وبين وضع المواجهة الاسرائيلية – العربية، وشعور "اسرائيل" بأن العالم العربي يطمح الى القضاء عليها.

إن ربط ظاهرة الاستيطان بوضع الصراع قد تم في شبه يقين وبين يديه قرارات مؤتمر الخرطوم (29 آب – 1 ايلول 1967) التي عبرت عن موقف عربي متشدد من قضية التسوية السياسية مع "اسرائيل"، وعلى أثر توسع حرب الاستنزاف الدامية على طول قناة السويس.

يمكن وقد مهدنا بهذا ان نفهم قول الرئيس جونسون إن على "اسرائيل" ان تقنع العالم العربي بأنها ليست لها سياسة ترمي الى زيادة مساحتها بواسطة سياسة الاستيطان، وطلب في المقابل من العالم العربي ان يقنع ا"سرائيل" بأنه تخلى عن طموحه الى القضاء عليها، وربما يمكننا ان نجد في هذا التصريح تباشير توجه غلب على ادارات اخرى ايضا وهو اظهار تفهم لـ "حق" "اسرائيل" في الاستمرار في سياسة الاستيطان ما استمر الصراع بينها وبين العالم العربي وما ظل عند "اسرائيل" سبب يدعو الى الارتياب بأن العالم العربي ما يزال يُدبر للقضاء عليها.

في بعض التصريحات التي تناولت قضية الاستيطان أُثير سؤال مكانة القدس بعامة وشرقي القدس بخاصة، بعد حرب الايام الستة عندما عدّلت الكنيست أمر ترتيبات الحكم والقضاء الذي أضاف المادة (11 ب) التي تقضي بأن "القضاء والتقاضي والادارة للدولة ستنطبق على كل ارض من ارض اسرائيل حددتها الحكومة بأمر". ومكّن هذا التعديل الحكومة من اجراء القانون الاسرائيلي على شرقي القدس بعد ذلك بزمن قصير، وبدأت في المقابل بناءا سريعا في شرقي القدس وكان هدفها أن تعبر تعبيرا ملموسا عن سيادتها على المدينة الموحدة.

تحفظت الادارة الامريكية من نشاط "اسرائيل" ذاك، وعادت تقرر ان القدس الشرقية جزء من المناطق التي احتلتها "اسرائيل" في حرب الايام الستة وان حكمها في قضية المستوطنات كحكم سائر المناطق، ومن وجهة نظر الادارة الامريكية، كانت جميع الخطوات التي نفذتها "اسرائيل" في شرقي القدس ومنها مواقع تاريخية ودينية، واجراء القانون الاسرائيلي على القدس يعارضان القانون الدولي ويضران بالمصالح المشتركة بين "اسرائيل" والولايات المتحدة.

في خطبة خطبها مندوب الولايات المتحدة في الامم المتحدة في عهد ادارة نيكسون، تشارلز يوست، في الاول من تموز 1969 بيّن ان الادارة الامريكية "تأسف وتندد" بخطوات "اسرائيل" في شرقي القدس. وبيّن السفير ان منطقة شرقي القدس من وجهة نظر الولايات المتحدة هي جزء من جميع المناطق التي تم احتلالها في خلال حرب الايام الستة وتنطبق عليها جميع قواعد القانون الدولي المتعلقة بالسيطرة على منطقة محتلة، وبيّنت الادارة لـ"اسرائيل" ان هذه الخطوات لن تؤثر في تحديد مكانة القدس في التسوية التي سيتم احرازها.

لوحظ في كثير من تناول عمال ادارة امريكيين لقضية الاستيطان توجه التقليل من ذكر أهمية التباحث في شأن تسوية اسرائيلية فلسطينية، ومستوى التكثيف الذي ينبغي ان تُعرض فيه المعارضة الامريكية لهذه الظاهرة، وقد صاحبت اسباب مختلفة هذا التوجه وفي أساسها الاعتراف بأن: 

أ - "اسرائيل" مصممة في الاستمرار في مشروع الاستيطان، وانه ليس للمجتمع الدولي بعامة وللإدارة الامريكية بخاصة قدرة حقيقية على منعها من تحقيق هذا الهدف.

ب - أن قضية المستوطنات واحدة فقط من طائفة كبيرة من القضايا المختلف فيها بين "اسرائيل" والفلسطينيين، ولا داعي الى حصر الصراع الطويل بين الطرفين فيها خاصة.

ج - اذا وحينما تُحرز في نهاية الامر تسوية اسرائيلية فلسطينية فستكون اسرائيل مستعدة لتفكيك مستوطنات ونقل المستوطنين الى اماكن سكن اخرى.

يعبر عن شعور بمحدودية قوة الادارة الامريكية في كل ما يتعلق بالبناء في المستوطنات، تعبيرا بارزا، المستشار القانوني لوزارة الخارجية الامريكية في عهد ادارة نيكسون، فقد بيّن بتناوله لقضية المستوطنات (نيسان 1973) في تسليم ان موقف الادارة الامريكية هو انه يجب على "اسرائيل" ان تعمل بحسب ميثاق جنيف المتعلق بالمناطق المحتلة، ومع ذلك بيّن في صراحة ان "اسرائيل" ترفض ببساطة تنفيذ التزاماتها على أساس هذا الميثاق.

هناك مثال آخر على اعتراف غير صريح من الادارة الامريكية بمحدودية قوتها بإزاء "اسرائيل" ومشروع الاستيطان الذي يتم بمبادرة منها قدمه الرئيس كارتر الذي كان واحدا من أبرز معارضي ظاهرة الاستيطان، ففي واحد من تصريحاته (3 آذار 1980) في هذا السياق أوضح اسباب معارضته لصيغ شديدة اللهجة على "اسرائيل" في قرارات منظمات دولية ولدعوتها الى تفكيك المستوطنات، فقد قال ان هذه الصيغ "غير صحيحة وغير عملية".

يمكن ان نفترض ان موقف كارتر هذا قد نبع بقدر كبير من حقيقة انه ترأس حكومة "اسرائيل" في تلك الفترة زعيم يمين عقائدي هو مناحيم بيغن، وكان الرئيس الامريكي يستطيع ان يُقدر ان يرفض بيغن قبول املاء تفكيك المستوطنات حتى لو اضطر الى الثبات لضغوط ثقيلة، وهنا ايضا كان الرئيس يستطيع ان يُقدر ان تظل هذه القرارات "على الورق" وان ترفض حكومة بيغن تنفيذها على كل حال، واذا حدث ذلك فقد يتم الاضرار بمنزلة الولايات المتحدة وسلطتها باعتبارها قوة من القوى العظمى.

وفي فرصة اخرى أوضح كارتر ان الولايات المتحدة يجب ألا تُجر الى تصريحات متطرفة تعارض ظاهرة الاستيطان أو ان تؤيد اقتراحات قرار متطرفة جدا على "اسرائيل" لأن الولايات المتحدة تلقت التزامات صريحة من "اسرائيل" معلنة وسرية تقول ان المستوطنات لا تعبر عن اتجاه اسرائيلي الى ضم المناطق الى الأبد وأنها تقبل ان تُحدد خريطة الحدود في تفاوض وتسوية سياسية.

ولذلك جهد كارتر في ان يوضح علنا في 23 آب 1977 ان الولايات المتحدة لا تنوي ان تتعدى التعبير عن الأسف ومعارضة اجراءات "اسرائيل" في المستوطنات.

كان يمكن ان نفهم من هذه الصيغة أنه لا ينبغي تعظيم أهمية قضية المستوطنات باعتبارها عائقا أمام تسوية اسرائيلية – فلسطينية لأنه اذا وحينما يتوصل الطرفان الى اتفاق على الحدود بينهما فستكون "اسرائيل" مستعدة للانسحاب من المستوطنات الواقعة وراء خط الحدود الذي تم الاتفاق عليه. وبعد ذلك وفي المراحل الاولى خاصة من الحوار مع ادارة اوباما استعملت حكومة "اسرائيل" هذه الدعوى استعمالا واسعا لتؤكد انه ينبغي ألا تتم الموافقة على الدعوى الفلسطينية التي ترفض التفاوض مع "اسرائيل" ما استمرت ظاهرة المستوطنات.

حدث التغيير الحاد الاول فيما يتعلق بقضية المستوطنات في عهد ادارة ريغان، فقد بيّن بعد زمن قصير من توليه منصبه في الثاني من شباط 1980 انه لا يقبل الدعوى الرائجة على ألسن متحدثي الادارة الامريكية في شأن عدم قانونية المستوطنات، وقال ان المستوطنات ليست غير قانونية، وكان يرى ان الضفة الغربية يجب ان تكون مفتوحة ليستوطنها أبناء جميع الأديان من اليهود والمسلمين والمسيحيين، ومع ذلك انتقد صورة تنفيذ نشاط الاستيطان، واعتقد ان الحديث عن عمل ذي طابع متحدٍ يعارض روح اتفاقات السلام التي وقع عليها في كامب ديفيد.

وقد ظهرت في خطة ريغان المتعلقة بالشرق الاوسط في بداية ايلول 1982 تباشير تفهم امريكي لعدم وجود أساس لجهد منع مشروع الاستيطان تماما، ولذلك تحدثت الخطة في الأساس عن الامتناع عن توسيع مساحات المستوطنات، أي الامتناع عن انشاء مستوطنات جديدة وتوسيع مساحة المستوطنات القائمة، وكان المعنى غير المباشر لذلك أنه يمكن الاستمرار في البناء في داخل المستوطنات القائمة، وكان هذا المبدأ أساسا للتفاهم الذي تم احرازه بشأن المستوطنات بين ادارة بوش الابن ورئيسي الوزراء شارون واولمرت، ومع ذلك توصي خطة ريغان "اسرائيل" بتجميد المستوطنات لإنشاء جو مريح للتفاوض وتمكين أطراف مختلفة من الانضمام اليه.

برزت تعبيرات العجز عن مواجهة ظاهرة الاستيطان المتسعة في اطار ادارة بوش الابن ايضا، وقد قال وزير الخارجية كولن باول في الاول من أيار 2002 في هذا السياق: "ما زالت المستوطنات تكبر وتتسع، وهي لا توشك ان تختفي". ولم يكن عند وزير الخارجية أي اقتراح يُبين كيف يتم وقف ذلك سوى قوله "يجب ان يُفعل شيء ما في هذا السياق".

ينبغي ان نذكر ان هذا الكلام قيل حينما كانت الانتفاضة الفلسطينية في ذروتها، وتوجه الى "اسرائيل" ضربات شديدة، وكان للإدارة في ظاهر الامر خلفية مريحة كي تطلب بشدة وقف المستوطنات التي عُرضت أكثر من مرة على أنها عامل مركزي في العنف الفلسطيني، وقد اعترف مرة اخرى بعد ذلك بأكثر من سنة (21 ايلول 2003) بأن الولايات المتحدة لا تنجح في منع توسيع المستوطنات بما يرضيها.

يحدد دانيال كيرتسر، سفير الولايات المتحدة في "اسرائيل" في ادارة بوش، في التاسع والعشرين من أيار 2002 بشدة الشعور بعجز الادارة الامريكية عن ظاهرة المستوطنات فقال: "عارضت الولايات المتحدة المستوطنات سنين طويلة لكنكم (الاسرائيليين) استمررتم في البناء هناك، ولم نفعل شيئا لوقف هذه الظاهرة، اذا أرادت اسرائيل فإنها تستطيع (من جهة عسكرية) ان تتوسع حتى تبلغ الحدود الآمنة في الكتاب المقدس، والسؤال هل تستطيع فعل ذلك من وجهة نظر سياسية وأمنية".

واختار فريق من ممثلي الادارة الامريكية ان يقرنوا تناولهم لسياسة "اسرائيل" الاستيطانية بتهديدات ستتحقق اذا لم تنته هذه الظاهرة. فقد أظهر الرئيس بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر هذا الاتجاه اظهارا سافرا جدا، واشترطا منح "اسرائيل" الضمانات بأشياء منها تغيير جوهري لسياستها الاستيطانية، وبيّن الرئيس في احدى خطبه في الثالث من آذار 1990 ان موقف الادارة يرفض انشاء مستوطنات في الضفة الغربية وشرقي القدس، وأكد أنه ينوي تحقيق مواقف الادارة هذه في حزم وأنه سيفحص جيدا عن مبلغ وفاء "اسرائيل"، بهذه المطالب.

والتزم وزير الخارجية بيكر بموقف متشدد معارضا للمستوطنات، فقد اشتكى في خطبة له (في 22 أيار 1991) من أنه في كل مرة يزور فيها القدس تستقبله تصريحات عن انشاء مستوطنات جديدة، وفسر ذلك، بقدر كبير من الصدق، بأنه محاولة لإحراجه وجعله يقف في وضع مُذل جدا، وخشي وبحق من أنه اذا لم يحدث تناول صارم لهذه التصريحات من قبل الادارة فان الامر سيُفسر، في شبه يقين بأنه إظهار ضعف وخوف من الادارة من مواجهة حكومة "اسرائيل"، ومن المنطق ان نفترض ان يفضي ذلك بها الى ان تزيد في مشروع الاستيطان بما يفضي الى امتعاض الادارة الامريكية، ووجد نفسه في نهاية الامر يشتكي واقعا يصعب عليه تغييره.

إن تزايد العمليات الفلسطينية ولا سيما في خلال الانتفاضة الثانية، جعل الصراع الاسرائيلي الفلسطيني في مقدمة برنامج العمل العالمي الى ان كانت أحداث الحادي عشر من ايلول 2001، وصاحب ذلك بالضرورة حصر العناية في قضية المستوطنات، ويقضي التقرير الذي صاغه جورج ميتشل في الثلاثين من نيسان 2001 للفحص عن الأحداث التي أفضت الى نشوب الانتفاضة في سنة 2000 بأن المستوطنات مصدر مركزي للمواجهات الفلسطينية الإسرائيلية، ويطلب تجميدا تاما لها ويشمل ذلك اسباب "الزيادة الطبيعية"، ويقضي التقرير بأنه "سيكون من الصعب جدا ان نمنع تكرر العنف الفلسطيني الاسرائيلي إلا اذا أوقفت حكومة "اسرائيل" جميع عمليات البناء في المستوطنات"، ولا يكتفي التقرير بذلك فهو يقول بصراحة إن العلاقات الامنية القائمة بين "اسرائيل" والولايات المتحدة لا يمكن ان تستمر ما استمرت "اسرائيل" في سياستها الاستيطانية المتحرشة.

يلاحظ في الولايات الاخيرة لرؤساء الولايات المتحدة الى ان بدأت ولاية الرئيس اوباما توجه ما هو اظهار تفهم لظاهرة المستوطنات في حد ذاتها مع محاولة تضييق أبعادها اعتمادا على مخطط يتم الاتفاق عليه بين "اسرائيل" والولايات المتحدة، وقد تم التعبير عن ذلك تعبيرا بارزا في عهد الرئيس كلينتون، فقد بيّن مساعد وزير الخارجية ادوارد جرجيان في التاسع من آذار 1993 مع تلوي معذب ان الولايات المتحدة تقبل الحاجة الى نشاط "استيطاني" محدود على أساس الزيادة الطبيعية وحاجات اخرى.

وبعد ذلك بعشر سنوات، في 12 نيسان 2001، في عهد ادارة بوش الابن هذه المرة، زاد جرجيان في تحديد مواقفه من هذه القضية فقال انه ينبغي تشكيل مستوطنات كبيرة في داخل اطار واحد بحيث يستطيع سكانها ان يكونوا أكثر أمنا على بقائهم في داخل "اسرائيل" في اطار التسوية الدائمة.

في عهد بوش الابن تم احراز تفاهمات مفصلة مع حكومة شارون على البناء في المستوطنات وعلى حسب هذه التفاهمات "لن تُوسع المستوطنات ولن يُسمح فيها بالبناء إلا في مجال نطاق البناء القائم"، والتزمت "اسرائيل" ايضا ألا تنشئ مستوطنات جديدة وألا تصادر اراضي لفلسطينيين من اجل البناء.

وعبر الرئيس بوش تعبيرا واضحا عن التفاهمات مع شارون بقوله – في مؤتمر صحفي عقده في 14 نيسان 2004 بعد لقائهما – انه بإزاء الواقع الذي نشأ في المناطق مع انشاء مستوطنات كبيرة، ليس من الواقعي ان نتوقع ان تقوم حدود "اسرائيل" الدائمة على خطوط الهدنة في 1949.

وتم التعبير عن ذلك ايضا في رسالة أرسلها الرئيس بوش الى شارون في 14 نيسان 2004 صادق عليها مجلس النواب الامريكي بأكثرية كبيرة، ويُفهم منها بصراحة الاعتراف بحق "اسرائيل" في الاستمرار في مشروع الاستيطان بحسب مخطط متفق عليه وعلى افتراض ان تظل المناطق المتفق عليها بين "اسرائيل" والولايات المتحدة في حوزتها حتى في اطار التسوية الدائمة مع الفلسطينيين.

ظهرت أكثف معارضة لمشروع الاستيطان من الرئيس اوباما في مطلع ولايته، وتم التعبير عنها في عدة جولات تباحث مع "اسرائيل" في هذه القضية كانت لها احيانا صورة مواجهات سافرة: فبدأت المواجهة الاولى حول قول الرئيس اوباما في خطبة القاهرة في حزيران 2009 إن الولايات المتحدة لا تقبل شرعية المستوطنات وإنها تطلب وقفا تاما للاستيطان في الضفة الغربية.

رفضت ادارة نتنياهو قبول هذا الطلب وبدأ حوار مكثف بين الجانبين وبخاصة بوساطة المبعوث جورج ميتشل، وأفضى هذا الحوار في نهاية الامر الى قرار لم يسبق له مثيل في نطاقه من حكومة "اسرائيل" على تجميد غير كامل للمستوطنات عشرة اشهر.

وبدأت المواجهة الثانية بعد زيارة نائب الرئيس بايدن لـ"اسرائيل" في آذار 2010. وكان في مركزها طلب ادارة اوباما من "اسرائيل" وقف البناء في القدس، فرفضت حكومة نتنياهو قبول هذا الطلب بحرفيته، لكنها عبرت بحسب جميع الأدلة عن استعداد لتبطيء البناء في القدس بالفعل، وبدأت المواجهة الثالثة بعد انتهاء فترة التجميد حينما طلبت ادارة اوباما من "اسرائيل" ان تطيل مدة التجميد بلا مقابل، وعارضت حكومة نتنياهو ذلك ايضا.

منذ انتهت فترة التجميد أصبح يوجد في الضفة الغربية زخم بناء واسع، وبين الفينة والاخرى ولا سيما على أثر صدور رخص بناء، يصدر متحدثو الادارة الامريكية تصريحات تؤكد حقيقة ان هذه الظاهرة تضر بجهود السلام.

الخلاصة:

منذ كانت حرب الايام الستة أظهرت جميع الادارات الامريكية، بدرجات مختلفة من الكثافة، معارضة لظاهرة الاستيطان في المناطق، وتآلفت الحجج السياسية والقضائية والاخلاقية معا لتسوغ تلك المعارضة، وكانت المعارضة عند أكثر الادارات كلامية في أساسها لم يصاحبها توجه تهديد حقيقي لحكومة "اسرائيل" اذا لم تستجب لمطالب الادارة في هذا السياق، وتعدت ادارة بوش الأب هذا الاتجاه على خلفية توضيحها في 1992 أنها ستمتنع عن منح "اسرائيل" ضمانات اذا لم تجمد البناء في المناطق.

يمكن اليوم بنظرة الى التجربة التاريخية لأكثر من اربعين سنة ان نقول ان المعارضة الواسعة لمشروع الاستيطان من المجتمع الدولي بعامة والادارة الامريكية بخاصة، وفي حلقات واسعة في "اسرائيل"، لم تنجح في وقفه، ويعتقد كثيرون حتى من بين أقوى معارضي مشروع الاستيطان بل يعتقد اشخاص من المسؤولين الكبار في القيادة الفلسطينية انه نجح في إحداث واقع مناطقي وسكاني لا رجعة عنه تقريبا في الشرق الاوسط، ويؤثر هذا الواقع في طائفة كبيرة من موضوعات الشرق الاوسط ولا سيما استمرار مسيرة السلام في المنطقة.

تقوم سياسة الولايات المتحدة الخارجية في الأساس على التأليف بين توجه قيمي ايديولوجي وتوجه عملي براغماتي، وتُثبت التجربة التاريخية أنه في حالات كثيرة حينما أدركت الولايات المتحدة أن معارضتها لإجراءات ما لا بقاء لها غيرت سياستها ولاءمتها للواقع القائم، فقد عارضت الولايات المتحدة بشدة نقل المكاتب الحكومية والكنيست الى القدس بعد حرب الاستقلال، وسلمت بذلك آخر الامر وإن يكن ذلك جزئيا، وعارضت بشدة تطوير الاختيار الذري في "اسرائيل" لكنها توصلت مع "اسرائيل" آخر الامر الى تسوية تفاهمات في هذه القضية الحساسة، وعارضت الولايات المتحدة سنين طويلة الاعتراف بالصين لكنها اضطرت آخر الامر الى تغيير مواقفها بإزاء واقع لطمها على وجهها.

ويمكن في سياق ظاهرة الاستيطان ايضا جعل الادارة الامريكية تعترف بمحدودية قوتها على التأثير في هذه القضية تأثيرا كبيرا، وسيكون الاستنتاج من هذا الاعتراف بمحدودية القوة ان توجب المصلحة القومية للولايات المتحدة عليها ان تتوصل الى تسوية تفاهمات مع "اسرائيل" في قضية المستوطنات على أساس المخطط الذي وصف آنفا، إن استمرار تمسك الولايات المتحدة بالموقف المعتاد الذي يرفض المشروع الاستيطاني رفضا باتا يضر بمكانتها وعلاقتها بـ"اسرائيل"، ولا يفضي الى انجاز يخدم مصالحها القومية. 

معد الدراسة: 
عكا اون لاين