في الحاجة إلى التسامح

أولًا: المصطلح وسياقاته:

ظروف ظهور المفهوم والمصطلح معروفة. فقد ازدهر وانتشر في صراعات البروتستانت مع الكاثوليك، والتي تحولت إلى حروب طويلة الأمد في أوروبا. وكانت وراء الهجرة الكثيفة للبروتستانت إلى أميركا. وقد صار الميل العقلاني العامّ إلى المفهوم عنواناً لحركةٍ فكرية من خلال رسالة جون لوك في" التسامح" (1689). ونعرف اليوم، بل منذ مدة، أنه كانت لهذه الحركة، التي بدأت قبل لوك بمائة عام، جذور يتعلق بعضُها بالإيمان أو الاقتناع بالحرية الدينية، ويتعلق البعضُ الآخَرُ بعلائق العقائد والممارسات المخالِفة بالسلطات العامة وتأثيراتها على الاستقرار، ويتعلق البعضُ الثالث بمفاهيم الفضائل والأخلاق وعلائقها بالدين والعقل. بيد أنّ تاريخ "التسامح" فكرةً أو موضوعاً للتفكير والتدبير، يختلف في مرحلة ما قبل الثورة الفرنسية (1789) عنه بعدها. فقبل الثورة الفرنسية كان الموضوع البحث عن إمكانية للتعايُش بين الكاثوليك والبروتستانت؛ بينما بعد الثورة الفرنسية (وكانت فرنسا كاثوليكية) فقد صار الموضوع الرئيس: ضرورة الفصل بين الدولة والكنيسة أو الدين والدولة. والمعنيُّ من وراء ذلك منع التأثيرات السلبية للدين أو للمؤسسات الدينية على إدارة الشأن العام. ولأنّ التجربة الدستورية الأميركية كانت تجري وقتَها (الثلث الأخير من القرن الثامن عشر)، والولايات المتحدة ذات كثرة بروتستانتية؛ فقد كان لديها همٌّ مُضافٌ على الهمّ الفرنسي؛ وهو مَنْعُ الدولة أو الشأن السياسي من التدخل في الشأن الديني استهدافاً أو استعمالاً واستغلالاً. وقد استقرّ "الفصل" كما هو معروفٌ في العالم الغربي كُلّه، مع تأثُّرٍ قليلٍ أو كثير بالتجربة الفرنسية أو التجربة الأميركية، بالإضافة للسياقات التاريخية المحلية.

ثانياً: السياقات في المجال الثقافي العربي:

ظهرت الدعوات للتسامح (تحت اسم: التساهُل) في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. وقد تعلقت الدعوة وقتها بسياقاتٍ مسيحيةٍ خاصّة، بسبب ظهور نظريات علمية (مثل نظرية داروين) أنكرتها جهات كاثوليكية وبروتستانتية، ثم بسبب ظهور شِيَع وفِرَق مسيحية وعلمانية تصدّت لها الكنائس المشرقية مثل الماسونية وشهود يهوه. وفي ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر تدخل بعض المسلمين للدفاع عن الإسلام في مواجهة مستشرقين وسياسيين فرنسيين وبريطانيين، تحدثوا عن "حرية الضمير" وحرية "تغيير الدين" وأخذوا على المسلمين مسألة حدّ الرِدّة، ومسألة تهميش النساء، ومسألة مقاتلة غير المسلمين تحت اسم الجهاد.

بيد أنّ المسألة اتخذت أبعاداً محدَّدةً في نقاش فرح أنطون في مجلته "الجامعة" لقضية فصل الدين عن السياسة، (1902-1903). وكانت لذلك خلفيتان: تلخيص فرح أنطون لكتاب إرنست رينان الصادر بالفرنسية بعنوان: "ابن رشد والرشدية اللاتينية" وفيه أنّ ابن رشد قال بحقيقتين منفصلتين إحداهما علمية برهانية، والأُخرى إيمانية دينية. أمّا الخلفية الأُخرى فكانت النقاشات الحامية الدائرة في فرنسا آنذاك بشأن قضية دريفوس، الضابط الفرنسي من أصل يهودي، والذي اتُّهم بالخيانة وحُكم عليه، ثم تبين أنّ ذلك الحكم متحيز بسبب الأصول اليهودية لدريفوس. وقد أفضى ذلك إلى صدور القوانين العلمانية المتشددة عام 1905 والتي ما تزال ساريةً حتى اليوم. فرح أنطون رأى انطلاقاً من هاتين الخلفيتين أنّ السلطة الإسلامية التي اضطهدت ابن رشد مثل السلطة الكنسية أي أنها كانت ضد العلم، وأن مسائل الردّة تعني تجاهُلاً لحرية الضمير مثل محاكم التفتيش، وأنّ تدخل الحكومات في المسائل الدينية وبالعكس يعني تماثُلاً مع تدخل الكنيسة في إدارة الشأن العام. ولذلك ومن أجل العلم والتقدم وحرية الضمير وحماية الدولة فينبغي أن يحصل في الديار الإسلامية مثلما حصل في الديار الغربية، أي فصل الدين عن الدولة. وقد أثار ذلك حفيظة الشيخ محمد عبده (1849-1805) مفتي مصر، فردَّ على فرح أنطون مُنكراً أنّ ابن رشد اضطُهد لأسبابٍ دينيةٍ، بل كانت الدوافع سياسية، والإسلام شجَّع العلم، ولا إكراه في الدين. فحرية الضمير مصونة، والتجربة الإسلامية مختلفةٌ عن التجربة المسيحية التي أفضت إلى انقسام المسيحية لكاثوليك وبروتستانت، ولفصل الدين عن الدولة لأنّ البابا أراد الاستيلاء أيضاً على الشأن المدني. وأضاف محمد عبده أنّ نظام الحكم في الإسلام مدني. وما اعترض أحدٌ على آراء محمد عبده لأنها جاءت في سياق الدفاع عن الإسلام، إلى أن حاول علي عبد الرازق (1888-1966) تثبيت مقولات عبده بعد إلغاء الخلافة (1924)؛ فقال عبد الرازق إنّ الخلافة نظامٌ سياسيٌّ اصطلح عليه المسلمون، وقد فشل في أكثر فتراته، وعلى المسلمين البحث بعد أن أُلْغي عن نظامٍ آخر، وليس العودة إليه! وقد ردَّ كثيرون على عبد الرازق منذ العام 1925 وحتى اليوم، لأنّ الأجواء كانت قد تغيرت لأربع جهات: جهة تفاقُم إحساس المسلمين بالهجمة الغربية عليهم في شتّى المجالات العسكرية والسياسية والثقافية والدينية والتبشير. وجهة الانكفائية القوية بديلاً للمزيج أو المشيج الإصلاحي. وجهة الفشل في العقود الخمسة الأخيرة وفي أكثر ديار العرب والمسلمين في إقامة أنظمةٍ سياسية واقتصادية تمثيلية ونامية. وجهة القول أخيراً بوجود نظام سياسي يقتضيه الإسلام ذاتُه ولا بد من تطبيقه من خلال تطبيق الشريعة.

 

ثالثاً: الحاجة إلى التسامُح:

تحفل الحقبة الحاضرة المسمّاة بحقبة" الصحوة الإسلامية" بظواهر انكفاء وتقوقع وتشدد ذات أبعاد طقوسية وفي اللباس وأعراف العيش، وفي العلائق بالآخر المسلم وغير المسلم، وفي رؤية أو رؤى الذات والعالم. وهذا الاختلال أو هذه الرؤى والمواقف الطارئة أو المستجدة خلال العقود الأخيرة تعود في نظري، وكما سبق القول، لأمرين أساسيين استقرا في الوعي العام، وكانت لهما بعض من النتائج والظواهر التي ذكرتُها. أولُ هذين الأمرين: الإحساس القوي بل الجارف أحياناً باستهداف الإسلام، وهناك تعميمات مثل الاستهداف من جانب الحضارة الغربية أو الاستهداف من الولايات المتحدة أو الاستهداف من جانب المنصِّرين. والأمر الآخر: الاتجاه الجارفُ للتمكُّن من أن يحيا المرءُ حياةً إسلاميةً كاملةً تتناولُ كلَّ شيء، كما سبق أن ذكرنا. أما الإحساس أو الوعي الأول فهو يقع في أصل قيام جماعات الهوية التي تحولت إلى أحزابٍ للصَون والحفظ والتوليد في الحياتين الخاصة والعامة، وبدءاً بمكافحة المستعمرين والمبشِّرين، وانتهاءً بظهور الجماعات الجهادية. وقد كانت لهذا الوعي آثارٌ هائلةٌ. بيد أنّ أبرز آثاره في ما يتعلق بموضوعنا هذا الإنكار شبه الكامل لسُنَن وضرورات وآليات التغير الاجتماعي والثقافي والديني. وكما كانت لذلك آثارٌ في العلاقة بالأجنبي والغريب والمختلف (المسيحي مثلاً)، كانت لذلك آثار في النظر والعلائق لفئات الحداثة الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. فمع ظهور الآليات الدفاعية من خلال الملبس والمأكل والعادات اليومية في الاختلاط والانفصال بين الجنسين، ظهرت إذا صحَّ التعبير "تقاليد جديدة" أو ما تحدث عنه هوبزباوم Invention of Tradition وهنا يتداخل الوعي الأول، أي الوعي الدفاعي، بالوعي الثاني: وعي ضرورات الحياة الإسلامية الكاملة. وهنا كان المحكّ الذي أريد التركيز عليه لاتصاله العميق بموضوعنا وهو الحاجة للتسامُح، أي الاعتراف بوجود الآخَر المختلف بداخل الجماعة وبخارجها. هنا صار الصراع صراعاً على التقليد، أي ما هو مستقرٌّ وثابتٌ نسبياً في وعي الأفراد وعلائق ذلك بالجماعي والعامّ. فالصراع على التقليد في زمن الصحوة، ما كان تطلباً للعودة إلى حياة المسلمين قبل قرنٍ أو قرنين، وتقاليد العيش والتصرف فيهما. بل كان تطلباً للعودة إلى الأصل المفتَرَض، أي ما قبل التقليد إذا صحَّ التعبير. والطريف أنّ الذين قاموا بهذه العملية أو عليها ما كانوا من الصحويين، بل من صِرنا نعرفُهم أو نسمّيهم بالإصلاحيين. فالإصلاحيون والذين يسميهم المغاربة- وليس بدون سبب- بالسلفيين، أرادوا التخلُّص من التقاليد الموروثة، تقليد المذاهب الفقهية الأربعة على سبيل المثال- وفي نزوعٍ طهوري غير مسوَّغ وتحت اسم الاجتهاد والتجديد. وهذا نزوعٌ إشكالي، لأنّ مقصده كان ضرورة الانفتاح على حضارة العصر، بزعم أنّ التقاليد الموروثة من أزمنة الانحطاط تحولُ دون ذلك، لأنها تحول دون انطلاق الاجتهاد من أجل التجديد، والذي جرى تسويغه لاحقاً بالنزوع التأصيلي، أي فرضية التلاقي والتشاكُل بين النصّ الإسلامي القديم، ومنتجات ونزوعات الحضارة الحديثة. وكان طبيعياً بهذا المعنى أن تخطو السلفيةُ الجديدةُ الخطوة الأولى مع الإصلاحيين، بمعنى الإنكار على التقاليد الموروثة؛ دون الخطوة الثانية، وهي الإفادة أو التلاؤم مع الأزمنة الحديثة. ولذا فعندما دخل الصحويون على المشهد بوعيهم الإحيائي- شأن كلّ حركةٍ أصولية في سائر الأديان- ما عاد من همِّهم الخلاص من التقليد الذي حطّمه الإصلاحيون؛ بل صار التأسيس على النصوص الأولى لاستعادة ما افترضوه حياةً إسلاميةً أصليةً وأصيلة لا تخالطُها بدَع الموروثات. ومن هنا جاء التضخُّم الهائل في نصوص السنة والحديث المستخدمة، والتي لا تزال تنمو حتى اليوم متناولةً كلَّ تفاصيل العيش السابقة (في الوعي) على كلّ المواريث والتقاليد. وقد ساعدت صُنّاع الثقافة الدينية الجديدة هذه ليس أعمال الإصلاحيين فقط؛ بل بالطبع مقتضيات الحداثة الهاجمة أيضاً، والتي أمكن استخدامُها في النزعة النصوصية الجديدة. ذلك أنّ فَشَلَ أو عدم صلاحية هذه العادة أو تلك بسبب المخالفة التي تتضمنها لأساليب العيش المستجدة، صارت تُنسَبُ إلى الابتداع الذي صنعته عصور الانحطاط، والتلوث بالغرب القديم الصليبي أو غيره. فالصحويةُ تحولت بسرعةٍ إلى طهوريةٍ قرعاء أو عدمية، جارفةً معها كلَّ تقاليد العيش ورؤى الآخَر، ومن ضمن ذلك بالطبع الأعراف التي كان آباءُ الدولة الوطنية يسوِّغونها بأنها تتلاقى والممارسات الإسلامية الأُولى في الدولة والمجتمع!

إن هذا التصحُّر الناجم عن رفض التقليد القريب تطلباً لتقليدٍ أصيلٍ ما كان ولن يكون، والناجم عن رفضٍ شبه مطلق للحداثة بحجة الاستعمار والغزو الثقافي، جعل من المستحيل إنتاج آلياتٍ وأساليب للتلاؤم مع العالم وحيواته المتغيرة والمتتالية. وأنا لا أزعُمُ أنّ هذا كلَّه كان يجري في الواقع، بل إنه حدث مرةً واحدةً في الوعي، في النصف الأول من القرن العشرين، وصارت حياة الجمهور المسلم المتدين تدور على زيادة التجريف في الصحراء التي يقف في فلواتها تطلباً للأصل والأصيل غير التقليدي وغير الغربي. وكانت الطريقة الوحيدة استدعاء النصوص المتكاثرة التي تنظّم كل شيء من فهم وحدانية الله، وإلى تفاصيل العلائق بين الرجل وزوجه، والإنسان وحاكمه، وقريبه وجاره، والآخَر الاجتماعي، والآخر الأخلاقي، والآخر الديني، والآخر العالَمي. وهذا بالطبع هو أساس أُطروحة الحاكمية الإلهية، والنظام الكامل الذي أتت به الشريعة. فباختفاء التقليد أو تضاؤل تأثيره، انتفت المقاييس أو تراجعت أو صارت موضع خلافٍ كبير. صار لا بُدَّ من سمْتٍ واحدٍ مجمَعٍ عليه، وهذا ما لا يمكن بلوغُهُ في حياة الفرد فضلاً عن حياة الجماعة والأمة. وزاد الطين بِلّةً أنّ العسكريين كانوا قد سيطروا على مقاليد الأُمور في الدولة الوطنية الناشئة. وقد أخذ هؤلاء بحسب أفهامهم- من الدولة الحديثة شموليتها، ومن الأنظمة الشيوعية أوحدية حاكمها ورموزها. فتماثلوا ظاهراً مع التصحر الديني، وحصلت تلك الانفجارات المدمِّرة عبر العقود الماضية. ومسألة النظام الكامل، في غياب فكرة الجماعة والتقليد، هي التي أدت إلى ظهور الأحزاب الدينية الخلاصية وقادتها ومُرشديها لدى الإيرانيين ولدى العرب وكثرة من المسلمين.

نعم، نحن محتاجون إلى التسامُح. فالتسامُحُ يعني اعترافاً بالآخَر المختلف في الدين والمجتمع والعمل السياسي والوزن الأخلاقي. التسامُحُ في حالتنا يعني عودة مجتمعاتنا إلى طبيعتها، أي تعددُّها وسلامها الداخلي، فتستعيد القدرة على التلاؤم مع العالم، بسبب تلاؤمها مع ذاتِها العميقة، أي الإنسانية. يقول تشارلز تايلور في كتابه الشهيرSecular Age : إنّ المجتمعات الدينية التاريخية مثل المجتمعات الإسلامية هي مجتمعاتٌ ثقةٍ وعيشٍ مشترك تفتقر إليه مجتمعات الحداثة غير الآمنة، والتي لا تنتظم إلاّ بالآليات القانونية المُلْزِمة. فكيف نستطيع أو نأمل ببلوغ ذلك؟ الذي أراه أنّ حالة الثقة المفترضة في المجتمعات الإسلامية ما عادت موجودة. وإذا كان المفتَرَض أنّ تلك الحالة كانت تعود للدين الرحْب والموحِّد بتقاليده العريقة؛ فإنّ الأمل والعمل لا يمكنُ أن يكونا السعْي لاستعادة التقاليد أو أحيائها، من أجل استعادة الجماعة والمجتمع لأنّ ذلك ما عاد ممكناً. بل ينبغي العمل على تغيير الوعي الديني الضيّق والذي استشرى خلال العقود الماضية. فلستُ مقتنعاً أنّ الإسلام مختلفٌ عن الديانات الأُخرى لجهة الإلزام والتكليف في الخاصّ والعامّ، وبطابع قانوني مفروض في كلّ شيء أو لا يكون المرء مسلماً مخلصاً، ولا المجتمع مجتمعاً إسلامياً. إنه وعيٌ مستجدٌّ لدى جمهورنا أو الفئات المتدينة في زمن الصحوة؛ وإلاّ فالمجتمع في نظر التقليد الإسلامي مكوَّنٌ من صالحين وطالحين يخلطون العمل الصالح بالعمل غير الصالح، ويكون الحساب إيجابياً في النهاية، لغَلَبة الخير على الناس. فالعمل على الوعي يعني عملاً على تغيير رؤية الذات والدور والعالم في ذهنية المسلم. إنه يعني تغيير أمرين في الوعي: أنّ العالَمَ ضدَّنا فرداً فرداً، وأنّ إيماننا غير كامل وغير مستقرّ إن لم نحيَ حياةً إسلاميةً كاملة، ومن ضمنها وضع ديننا والمقدَّس ومجتمعاتنا في عناية حزب خلاصي. والأمر الثاني: هو اكتمال الدين وهو أهمُّ من الأمر الأول. لأنّ عودة مجتمعات الثقة بالنفس وبالله، هي السبيلُ إلى العودة لرؤية العالم بشكل صحّي غير عدواني وغير خائف. إنّ جمهورنا يملك أشواقاً عميقةً إلى السلام القائم على الثقة والندية وعلائق الوُدّ. وما كنتُ أُفضّلُ مصطلح أو تفكير "الإصلاح الديني" لسببين: أنه يذكّر بالتجربة البروتستانتية في المسيحية، ومشكلتنا مختلفة؛ بل الأحرى القول إن مشكلتنا بدأت مع النزوع الشبيه بالبروتستانتيات. والسبب الثاني أنّ مثقفينا الكبار فهموا الإصلاح الديني باعتباره عملاً على النصوص تفكيكاً أو تفتيحاً أو الأمرين معاً. أمّا ما أقصدُهُ بالتفكير في الدين وماهيته ودوره من جديد فهو العملُ على الوعي، وهو أمرٌ مختلف.

ولستُ أزعُمُ أنّ أحداً ما قام بذلك من قبل. فالإصلاحيون والتنويريون عملوا في سياقات تغيير الوعي بالدين ومقتضياته؛ ومنذ الطهطاوي والتونسي وجمال الدين وعبده وغيرهم في القرنين الماضيين. وكانت طريقتهم حتى ابن عاشور وعلاّل الفاسي تأويل الإسلام كُلِّه تأويلاً تقدمياً تارةً على أساس إعادة قراءة النصوص، وطوراً على أساس المقاصد والمصالح- بحيث يعني ذلك أنّ الدين أو ما صار ديناً يستوعب بل وينصر مقتضيات التحديث والحداثة الاجتماعية والسياسية والفكرية. بل وهذا ما يحاوُلُه شيخ الأزهر اليوم في وثائقه المشهورة بعد الثورات. وهذه المقاربة تبدو هي الوحيدة الممكنة الآن، أي اجتراح تأويل أو تأويلات تُدخلُ منتجات الحداثة في بطن الدين الواسع أو الذي كان كذلك. لكنني أرى أنّ ظهور الإسلام السياسي واتجاهه للانتصار الآن لدى فئات واسعة من الجمهور، يشكّل عقبةً كأداء في مسعى الإصلاح هذا. لأنه يدخل في وعي شرائح واسعة باعتباره مضياً قوياً في تحقيق الحياة الإسلامية الكاملة التي سعت الصحوياتُ لإنجازها. ولا بد من الاعتراف أنّ تجربة السلطة لدى حركات وأحزاب الإسلام السياسي، ربما أعانت على شيء من التلاؤم مع مقتضيات الحياة المعاصرة. لكنّ ذلك كلَّه لا يُحدثُ الصدمة المطلوبة لإخراج الوعي المسلم مما وقع فيه وحاصره. بل الأحرى القول إنّ حالة الرضا هذه قد تُغري بالمُضِيّ قدُماً في مكافحة الندية والتعددية ومقتضيات المواطنة وإنسانية الإنسان. إنّ الذي أراه أنه لا بد من الدخول في تحدي النهوض كما أُسميه. وتحدي النهوض أو التحدي النهضوي هذا يعني الدخول على الوعي الجمعي باعتبار أنّ الدين لا يملك حلولاً لإدارة الشأن العام، أو أنه لا يقتضي نظاماً سياسياً معيناً، وأنّ المواطن- وليس الحزب الديني ومن طريق الديموقراطية التمثيلية والتشاركية هو الذي من حقّه وواجبه اجتراح الحلّ للمُشكل السياسي بعد استبدادات الضباط ووُرّاثهم. وهذا لا يعني أن يقع التحدي بين الدين والدولة؛ بل أن يظلَّ الدينُ- صَوناً له- هو الضامنُ لثقة المجتمع ووحدته وتضامُنه، فلا يُستخدم في الصراع السياسي الذي أصبح شراً على الدين، وصيّره عاملاً من عوامل الانقسام في المجتمع والدولة.

نحن محتاجون حياةً ووجوداً إلى التسامح اليوم قبل الغد. وقد تطور الأمر في المفاهيم والممارسات الدينية، بحيث صارت الحزبية الدينية عاملاً من عوامل التعطيل والإعاقة والتشدد والاصطفاف والحيلولة دون سواد التساهل والتفاهم والتفهم والنزوع المُسالم والتعددي. ولأنه لا يمكن الارتكانُ إلى وجود تقليد يمكن تجديده في الفصل بين الديني والسياسي؛ لأنّ زمن الصحوة قضى عليه، فلا أقلّ من الطموح إلى استحداث تقليدٍ Invention of Tradition بذلك إذا صحَّ التعبير، ليكونَ المدخل للعلاقة الجديدة والجدية والصحية بين الدين والدولة في مجالنا الثقافي والآخر السياسي. وإذا صحّت هذه الفرضية أو الفكرة: فمن الذي يقرع الجرس؟.

نشرت هذه الورقة ضمن حلقة نقاشية حول الحاجة الى التسامح، وشارك فيها الى كاتب المقالة كل من علي/ وخليل وعبد الحسين شعبان، في العدد 411 من "المستقبل العربي".

معد الدراسة: 
د. رضوان السيد