مسيحيّو رام الله: أصحاب الدار إلى تناقص

بقلم: 

يشير العديد من الدراسات الفلسطينية والأجنبية، إلى أن المسيحيين، وحتى نهاية أربعينيات القرن الماضي، كانوا يشكلون الأغلبية في رام الله، التي أسسها راشد الحدادين وأخوه صبرا اللذان قدما من الكرك الأردنية في العام 1550 للميلاد، وهما مسيحيان من طائفة الأرثوذكس جاءا إليها بعد نزاع عشائري مع الأمير ذياب بن قيصوم الذي أراد أن يخطب ابنة راشد الحدادين لابنه على الرغم من اختلاف الدين، ورفض الحدادين وأسرته ذلك.

لكن بعد نكبة 1948 ونكسة حزيران 1967، والهجرات الداخلية من مدن الضفة الغربية في الانتفاضة الأولى العام 1987، وقيام السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقيات أوسلو، تحولت رام الله إلى مدينة تضم مقار الرئاسة والحكومة والوزارات والمؤسسات غير الحكومية والخاصة البارزة، علاوة على أبرز المشاريع والمصالح الاقتصادية الحيوية كالبنوك وشركات الاتصالات وغيرها، غير متناسين الهجرات الداخلية التي بلغت مداها في انتفاضة الأقصى في نهاية العام 2000، وجلها لأسباب اقتصادية، وبخاصة مع الحصار المشدد على بقية المدن، وكانت مدناً اقتصادية مهمة أبرزها نابلس وجنين والخليل، وحتى القدس.

إن ذلك كله غير المعادلة الديموغرافية في المدينة لغير مصلحة المسيحيين، مؤسسيها وسكانها الأصليين، مع عدم إغفال هجرات مسيحيي رام الله على وجه الخصوص، ومسيحيي فلسطين عامة، إلى أميركا وأوروبا وغيرهما من دول العالم، وهو موضوع لا يزال موضع نقاش وجدل في أكثر من اتجاه.

قلة بعد كثرة

يقول الأب فيصل حجازين، كاهن رعية العائلة المقدسة للاتين في رام الله: بحسب احصاءات رعية اللاتين تبلغ نسبة المسيحيين في رام الله اليوم 25% من مجموع سكانها، وهي التي أُسست كقرية مسيحية، والسبب الهجرات المتزايدة في السنوات العشر الأخيرة لمسيحيي رام الله. ويضيف الكاهن: يبلغ عدد «رعيتي» ألفي شخص، 10% منهم من رام الله والبقية من القرى المجاورة. ويؤكد حجازين: مسيحيو رام الله الأصليون هاجروا بكثافة إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث يوجد في فرانسيسكو وحدها قرابة 40 ألفاً منهم، والسبب هو البحث عن مستبقبل أفضل لهم ولعائلاتهم، وطلباً للأمن والاستقرار المفقودين في الأراضي الفلسطينية، والأهم البحث عن خيار روحي للجماعة المسيحية. وفي هذا الإطارعندما يسافرون إلى أميركا، يشعرون أنهم في بيئة مسيحية، ولذلك يفضلون الإقامة هناك، أما نحن فنفضل أن تبقى هذه الأرض المقدسة مسيحية. لكن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني يقول إن نسبة المسيحيين في رام الله، لا تزيد على 9% من مجموع سكان المدينة. في المقابل، يقول الأمين العام للهيئة الإسلامية ـ المسيحية لرعاية المقدسات الدكتور حنا عيسى، إن عدد المسيحيين في الأراضي المحتلة عام 1967 تناقص 50% منذ عام 2000، موضحاً أن عددهم كان يقدر عام 2000 بنحو 2% من مجموع السكان، إلا أنه تراجع اليوم إلى نحو 1% فقط.

يذكر عيسى أن أعداد المسيحيين بدأت تتراجع بشكل ملحوظ منذ النكبة عام 1948، حيث كانت نسبتهم آنذاك 8% من مجموع السكان. وقدر عدد المسيحيين الفلسطينيين اليوم بنحو 46 ألفاً في الأراضي المحتلة عام 1967، ونحو 110 آلاف في الأراضي المحتلة عام 1948، مشيراً إلى أن عدد المسيحيين في القدس تراجع من 27 ألف نسمة عام 1947 إلى نحو خمسة آلاف مسيحي اليوم. وفي رام الله وقراها لا يتجاوز عدد المسيحيين 10 آلاف شخص اليوم، بينما في أميركا وحدها يوجد نحو 50 ألف مسيحي من رام الله. ومن اللافت أن بعض من عاد إلى رام الله ومن بينهم يوسف مغنم الذي أقام في الولايات المتحدة منذ خمسينيات القرن الماضي يقول: لا توجد في رام الله أحكام مسبقة ضدي .. أمارس حريتي في العبادة، وسعيد بعودتي إلى الوطن، حيث الروح المسيحية في أبهى تجلياتها. كمسيحي أشعر في رام الله بأنني قريب من جذور إيماني أكثر مما كان عليه الأمر في أميركا.

أسباب الهجرة

القس متري الراهب، رئيس «مجموعة ديار»، رأى أن السبب الرئيس لتناقص أعداد المسيحيين هو النكبة، ثم الهجرة. ففي عام 1924 كان 10% من السكان في فلسطين التاريخية مسيحيين. وغداة النكبة كانت نسبتهم نحو 8%. وفي ليلة وضحاها انخفضت النسبة من 8% إلى 2.4%، فالنكبة كانت نكبة للشعب الفلسطيني عامة، وللمسيحيين خاصة. أما السبب الثالث في تناقص النسبة المئوية للمسيحيين بعد النكبة والهجرة، بحسب متري الراهب، فيكمن في أعداد مواليد العائلة المسيحية. ففي إسرائيل مثلاً تنجب المرأة اليهودية ما معدله 2.88 طفل، والمسلمة 3.84 أطفال، والدرزية 2.49 طفل، والمسيحية 2.18 طفل، وهي الأقل بين الفئات الأخرى، لكن هذه النسب المتناقصة للمسيحيين في الأراضي المحتلة العام 1948 والعام 1967، لم تمنع أن يكون 45% من مجموع المؤسسات والهيئات الأهلية هي مؤسسات مسيحية التمويل أو الإدارة أو التأسيس، كما تبين انه في الضفة الغربية تعد الكنيسة من أكبر الموفرين لفرص العمل بعد السلطة الفلسطينية، إذ يعمل في الكنائس نحو 22000 موظف من مسيحيين ومسلمين. وعلى صعيد آخر يعمل ثلث المسيحيين الفلسطينيين في مؤسسات كنسية. ومن الملاحظ أن هناك تناميا في روح التطوع في الكنائس، وفق ما يقوله الراهب.

من جانبه، حمل حنا عيسى الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الأولى عن هجرة المسيحيين من الأراضي الفلسطينية، موضحا أن «الاحتلال يتحكم في المناطق التي توجد بها الأماكن المقدسة ويتحكم في الوصول إليها». ولخص عيسى أسباب للهجرة، فذكر أسباباً سياسية وأخرى للبحث عن عمل أو الدراسة أو الالتحاق بالأسرة، إضافة إلى عوامل طاردة مثل قلة فرص العمل والأوضاع السكنية الصعبة. وأشار إلى أن هناك «قوى خارجية معنية بهجرة المسيحيين، لتفريغ فلسطين من مسيحييها، حتى يبدو الصراع القائم في بلادنا، وبخاصة في القدس، وكأنه بين اليهود والمسلمين ولا علاقة للمسيحيين به، وهذا يحمل توجهات خطيرة، من المفروض أن يتم التنبه لها فلسطينياً وعربياً، حتى يتم العمل وبشكل حثيث على تعزيز وتدعيم صمود المسيحيين وضمان زيادة عددهم».

أسباب أخرى

قول الباحث في الشؤون المسيحية غطاس أبو عيطة، إلى أن نزيف الهجرة المسيحية من فلسطين والمنطقة بصورة عامة لم ينقطع منذ أواخر القرن التاسع عشر، إلا أن عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، إضافة إلى عوامل ثقافية، حولت هذه الظاهرة إلى موجات ترتبط بتلك العوامل التي شكلت أداة دفع لهجرات واسعة. وقال: أدى تغلغل نموذج الدولة القومية الأوروبية في الإمبراطورية العثمانية مع تغلغل النفوذ الغربي، إلى نشوء الحركة القومية الطورانية على يد النخب التركية التي تأثرت بهذا النموذج، وتبعت ذلك فكرة تتريك رعايا الإمبراطورية. وبتأثير الثقافة الوافدة أيضاً، ورداً على خطر التتريك، اتجهت النخب العربية نحو إبراز الهوية القومية العربية، داعية إلى اعتراف السلطة بتلك الهوية، ليتبلور من خلال الصراع المشروع القومي التحرري للأمة العربية. ويستطيع المرء أن يدرك أن النخب العربية المسيحية ذات الإطلاع الأوسع على الثقافة الغربية عبر نشاط الإرساليات التبشيرية، كان لها شأنها البارز في هذه الحركة الثقافية السياسية، وأن ما طالها من ملاحقات قمعية جراء هذا الدور دفع أوساطاً منها إلى الهجرة نحو الأميركتين، وبخاصة إلى أميركا الجنوبية، حيث واصل هؤلاء في المهجر عملية إحياء وتجديد اللغة العربية بمنظور قومي. وتابع أبو عيطة: الموجة الثانية للهجرة المسيحية التي لم تقتصر على النخب الثقافية والسياسية، ارتبطت بظروف الحرب العالمية الأولى وما عرف بـ«السفر برلك»، إذ أنه هرباً من التجنيد الإجباري لسلطة أخذت تبدو خارجية، وتحت ضغط الظروف المعيشية القاسية التي بلغت حد المجاعة، جرت هجرة شبابية نحو أميركا الوسطى والجنوبية وكذلك الشمالية.

يروي المخرج السينمائي التشيلي، الفلسطيني الأصل، ميغيل ليتين (ميخائيل اليتيم)، قصة 40 فتاة من منطقة بيت لحم هاجرن للزواج من أقارب لهن فغرقت السفينة التي كانت تقلهم. وتطرَّق إلى هذه الحادثة في فيلمه «قمر بيت لحم» الذي أنجزه في الأعوام الأخيرة، مبرزاً ما أحدثه الغزاة من تشويه لهوية هذه المدينة ومحيطها.

يقول أبو عيطة: بفعل النكبة، نزح 750 ألف فلسطيني عن مدنهم وبلداتهم وقراهم، ومن بين من هجِّروا 50 60 ألفاً من المسيحيين، ولكون هؤلاء هم من برجوازية المدن الذين أثروا من أعمال الزراعة الحديثة، والصناعة والتجارة، فقد اتجهوا إلى بلدان المهجر لإعادة بناء حياتهم. ونشير هنا إلى أن أبناء الأسر المسيحية البرجوازية هم في الغالب من شيدوا الأحياء الجديدة ذات الثراء خارج أسوار القدس في البقعة والقطمون والطالبية وغيرها، وكان أن أُجبرت هذه الأسر على ترك أحيائها تحت ضغط الحملة العسكرية المدمِّرة التي قادها في حينه أرئيل شارون، حيث يروي كل من جبرا إبراهيم جبرا وإدوارد سعيد ما حملاه في ذاكرتيهما عن تلك الهجمة الوحشية.

يفي الأعوام التي أعقبت احتلال الضفة والقطاع في العام 1967، استمرت الهجرة الفلسطينية تحت ضغط الأوضاع التي فرضها المحتلون، ومن بين 338 ألف مهاجر غادروا مدنهم وقراهم ومخيماتهم، خرج قرابة 11 ألف مواطن مسيحي يشكلون ما نسبته خمس مجموع المسيحيين في المناطق المذكورة، وفق أبو عيطة، الذي أضاف: شهدت الأراضي الفلسطينية بعد ذلك، موجة جديدة من الهجرة تحت ضغط حملة النهب الضريبية التي شنها الاحتلال عقب حرب تشرين الأول 1973، في مسعىً لمعالجة اقتصادهم المنهار، فإضافة إلى تردي قيمة العملة الإسرائيلية، وما تركه ذلك من أثر في مدخرات الفلسطينيين المتواضعة، فقد فرضت سلطات الاحتلال أرقاماً خيالية كضرائب عشوائية على دخل المواطنين، كما فرضت القيمة المضافة على السلع بجميع أنواعها، وهنا طالت الهجرة أوساط المهنيين من أبناء الشرائح الدنيا الذين ما عادوا قادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجات أسرهم.

أضاف أبو عيطة: الموجة التالية من الهجرة ارتبطت بالأوضاع التي نشأت عن اتفاق أوسلو، فإضافة لاتساع الهجمة الاستيطانية للصهاينة وما صاحبها من نهب للأراضي، توالت عمليات الإغلاق للمناطق الفلسطينية عبر العقوبات الجماعية التي عممت البطالة في صفوف عشرات الآلاف من العاملين داخل الكيان، وترافق ذلك مع تصعيد أعمال القمع، ومع تمزيق الأراضي الفلسطينية إلى (أ، ب، ج) وفق بنود «أوسلو»، لكن ما جرى في انتفاضة الأقصى من تعطيل لصناعة السياحة التي يعتاش منها أبناء بيت لحم ومن ثم القدس وإلى حد ما رام الله، كان له الأثر البالغ في إطلاق عملية الهجرة.

وكشف أبو عيطة: أبلغني أستاذ في جامعة بيت لحم بأنه ذهل لعدد «المتسولين» من أبناء المنطقة ممن كانوا يحملون منتجاتهم السياحية ليعرضوها أمام الكنائس في المدن الأميركية لكي يعودوا ببعض ما يساعد أسرهم، لافتاً إلى أن إغلاق كازينو أريحا إبان انتفاضة الأقصى أوقف بصورة مفاجئة دخل 500 أسرة مسيحية من أبناء بيت ساحور وحدها، بحيث باتت تلك الأسر عاجزة عن سداد القروض التي أخذتها اعتماداً على هذا الدخل، ما دفعها إلى طلب الهجرة.

البحث عن حلول

أكد الأب فيصل حجازين أن الرعية تسعى جاهدة للحيلولة دون المزيد من هجرة المسيحيين الفلسطينيين، وبالتحديد مسيحيي رام الله. وقال: كانت هناك جهود كبيرة في السنوات الأخيرة من الكنائس لتثبيت المسيحيين في رام الله، وتحقق ذلك عبر عدة طرق من بينها المدارس المسيحية.. المدرسة مهمة لنا في الرعية، ففي المدارس الحكومية لا يتلقون التعليم المسيحي، بالتالي فأي مسيحي في هذه المدارس لا يتعلم تفاصيل ديانته، ولهذا زاد اهتمامنا بالمدارس المسيحية التي عملت على الانفتاح على المسلمين، حيث تجمع من خلال طلبتها بين أبناء الديانتين من سكان رام الله، وهذا يساعد المسلمين في المدينة على الانفتاح على أخوتهم المسيحيين وفهمهم، ولذلك هناك وجود إسلامي ومسيحي في مدارسنا، بل إن الطلبة المسيحيين في هذه المدارس لا يزيدون عن 40% منها.

في هذا الإطار، قالت كاترين سالم، إحدى راهبات الوردية وتخدم في رعية اللاتين: لدينا علاقات صداقة جيدة، ونعيش مع بعضنا دون مشاكل، وهو ما شددت عليه الراهبة ماري يوسف، من رهبانية القديس يوسف للظهور بقولها: كنت شاهدة على تجربة لمدرسة مسيحية للفتيات في رام الله، يرتدنها مسيحيات ومسلمات يعشن في اتفاق وتوافق.

من جانبه، طالب عيسى بالعمل على تثبيت المسيحيين من خلال اهتمام الجهات الرسمية في السلطة الفلسطينية وبلورة برنامج بين الكنائس وهذه الجهات، وبخاصة الحكومة، لدعم بقائهم، إضافة إلى إيجاد تنسيق بين القطاعين الخاص والعام لاستيعاب أكبر عدد ممكن من العمالة المسيحية.

واقترح أيضاً توسيع نطاق قبول الطلبة المسيحيين في الجامعات بعد تخرجهم من المدارس، ومساعدة الجامعات الفلسطينية في إعفاء الطلبة المسيحيين من الرسوم، وأخيرا وضع خطة لبناء مساكن لهؤلاء المسيحيين ودعمهم في موضوع الزواج والإنجاب بدلا من أن تظل الكنائس الغربية هي التي تقود الكنائس الفلسطينية.

ولخص عيسى حاجات المسيحيين في الظروف الراهنة، في: دعم عمليات السلام في الأرض المقدسة، ضمان حقوق الرعايا الدينية وحقوق الفرد للأقليات المسيحية في الأرض المقدسة، الحفاظ على المقدسات المسيحية، تعزيز رحلات الحج إلى فلسطين، وقف الهجرة، دعم المشاريع التي يمكن أن توفر شواغر عمل للشباب لتمكينهم من وقف الهجرة إلى الخارج، دعم المشاريع التي تقوم بها الكنائس، توفير المساعدات للعائلات الفقيرة، توفير المنح الدراسية.

من الجدير بالذكر أن رئيس بلدية رام الله الحالي موسى حديد، الذي فاز بالانتخابات، مؤخراً، هو من المسيحيين، وهذا شرط من شروط رئيس البلدية في المناطق ذات الأصول المسيحية، وقد سن ذلك الرئيس الراحل ياسر عرفات، ولا يزال ساري المفعول من حيث التطبيق على أرض الواقع.

المصدر: 
السفير