الأزمة أبعد كثيراً من صندوق انتخابات ..!

بقلم: 

 

المنطقة لم تستقر بعد، ما زالت تهتز على وقع الصدام بين الأطراف المتصارعة على الحكم والتي تعكس كل تجاربها فشلاً يبدو أنه سيكتب تاريخ المنطقة لسنوات قادمة، فالمتسرعون اعتقدوا أن تغيرات الإقليم قبل عامين تفتح نوافذها على ربيع عربي آن أوانه هنا، واعتقدت ساذجة أنها ستتنسم عبير الديمقراطية من زهوره التي ستتفتح.

لكن الحقيقة الأكثر وضوحاً أن الفوضى تضرب المنطقة، والدم هو الأكثر حضوراً وبفارق زمني قصير بين أوهام الربيع وواقع خريف الوعي العربي ومستوى الأداء السياسي لأحزاب ما زالت تحمل من الأفكار ما يكفي لتدمير الوطن حين تتحقق في الحكم، ففكروا فقط ماذا تعني كلمتا "التمكين" و"التطهير" مثلاً، كلاهما يعني الاستيلاء والإقصاء وإعدام الآخر سياسياً والتفرد بالحكم.

التفسير السطحي ساد في المنطقة قبل عامين بأن الديمقراطية قاب ميدانين أو أدنى فخرجت الجماهير المغلوبة والتواقة لتحسين حياتها إلى الميادين العامة مدفوعة بأحلام وشعارات التيار الديني وإعلام حشد محرضيه من سياسيين وعلماء اجتماع كانوا يعرفون أن الديمقراطية ليست قراراً أو ضربة حظ أو شعارات أو حتى صندوق انتخاب بإمكانه أن يقلب الواقع العربي بجهد لحظة، متناسين أن الديمقراطية هي مسار حياة وثقافة ونمط وسلوك وقناعة تطورات منذ مئات السنين منذ أن قرر برلمان بريطانيا قبل ثمانمائة عام انتزاع صلاحيات من الملك بما عرف بـ "الماغنا كارتا" مروراً بالثورة الصناعية ثم الثورة العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة ثم تبلور المدن هناك وواقع الحداثة الذي فرضه هذا التطور المتراكم.

لهذا أيضاً استنفرت كل أوروبا ضد النزعة النازية وهتلر صاحب مقولة "من ليس معنا فهو ضدنا" وحين اعتقد أنه الأفضل وهو يمتلك الحقيقة ولا آخر يستحق الاعتراف به والذي كان يطلب قائلاً، "دعوني أفكر لكم" هذا العنوان وحده يعكس ربما أزمة الفكر النازي في المجتمعات ومن أجل أن تستعيد أوروبا قيمتها كان لا بد وأن تقضي على تلك النزعة ولكن الحقيقة أن قيم الفكر النازي إذا ما دققنا هي قيم مرافقة للسياسة العربية فمن منا يعترف بالآخر، ومن منا لا يرى أنه الذي يمتلك الحقيقة المطلقة ومن منا على استعداد للتعايش مع المختلف سياسياً وإن كانت الجرعة لدى التيار الإسلامي أعلى بحكم اعتقاده أن التنظيم السياسي الديني وحتى كل فرد من أفراده تم اختياره لمهمة مقدسة دون البشر وهو التيار الذي يمتلك الحقيقة فقط.

فحجم العداء والكراهية الذي نراه بين شعوب الدولة الواحدة ينذر بفشلنا في إقامة الدولة المدنية، وما تعكسه الشعارات السياسية التي يتداولها نشطاء الأحزاب من احتقار للآخر وتضخيم للذات والأحزاب حد التقديس ورغبة لشطب المختلف معه من خلال تكفيره أو تخوينه أو تجهيله ينبئ بعدم إمكانية التقاء هذه الأحزاب في نظام سياسي واحد فالمسألة أبعد من حكومة وصندوق انتخاب.

فالديمقراطية في العالم العربي ليست أكثر من شعار يستنجد به الضعفاء ومن هم خارج السلطة وحين تتبدل المواقع يداس الشعار مع أول خطوة على البساط الأحمر للمعارض "الديمقراطي" السابق لأن الديمقراطية لديه لم تكن قناعة وثقافة وممارسة بقدر ما كانت شعاراً للمناكفة السياسية. فالواقع السياسي العربي هو واقع القبيلة لكن السؤال الكبير ما الذي يجعل الشعوب العربية التي يسجل أنها أكثر الدول حديثاً وتأكيداً على الصندوق باعتبار أن هذا لم يعد موضوع حديث في الدول الديمقراطية، ما الذي يجعل الشعوب العربية تخرج قبل ولاية الصندوق لتتغلب على النتائج وتنذر بفوضى جديدة أو ثورة جديدة تتشابهان في تجليات الأزمة وتفاصيلها بغياب الاختلاف في ممارسة كل منهما وفي هذا يمكن وضع اعتقادين:

الأول: أن ليس هناك قناعة بالاحتكام إلى الصندوق بعد وهو ليس أكثر من إعطاء فرصة لسياسي ما بالوصول للحكم دون الالتزام بالفترة الزمنية التي يحددها القانون لولاية الصندوق فلا تشعر الشعوب العربية بالالتزام تجاهه، وربما أن التجربة الطويلة في تزييف صناديق المنطقة العربية من نتائج الـ99% أحدثت نوعاً من الاغتراب بين المواطن العربي والصندوق لهذا ليس مستعداً للالتزام كما نصت القوانين وخاصة أن الشعب هو مصدر السلطات فلماذا لا يخرج ليمارس سلطته.

الثاني: هو أن المواطن العربي يصوت بلا إرادة مستندة لوعي بأهمية دوره في المشاركة السياسية، يصوت تحت تأثير حزم المساعدات وكوبونات السكر والزيت التي تكثر في المنطقة العربية مع مواسم الانتخابات ويبرع بها الإسلاميون دون غيرهم، وهذه تكفي للإشباع لفترة قصيرة فيعود المواطن ليسأل عن احتياجاته بسرعة حين ينتهي مفعولها ويتحرر المواطن من تأثيرها يشعر أنه خذل فيخرج للشارع معارضاً بلغة أكثر قسوة من السابق، والسؤال هنا هو هل تصلح نتائج الصناديق التي يتم شراؤها بالكوبونات وبالرشوة استغلال الحاجة والابتزاز أساساً للحكم؟

الفوضى تضرب المنطقة والدم هو الأكثر حضوراً بفارق زمني قصير بين كسوة الربيع وعري الخريف وانكشاف حقيقة مستوى الكذب والتخلف في ممارسة السياسة، ولم تهدأ رياح الربيع على النظام الديمقراطي خاصة حين تقلد الإسلام السياسي الحكم منها فالديمقراطية هي كفر بالمفهوم الديني وقد استخدمها هذا التيار كشعار ساحر لاصطياد الأصوات ليس أكثر وكذلك الوطنيون لم ينشئوا نظماً ديمقراطية والأزمة أكثر عمقاً من نظرة سطحية نسقط خلالها أحلامنا على التحليل معتقدين أن أي تغيير موجود وسط الميادين أو على فتحة الصناديق، الأزمة أعمق بكثير وتجد تعبيراتها باتهام الرئيس مرسي بالتخابر مع حركة حماس وهي التهمة التي تندر عليها نشطاء التواصل الاجتماعي مستذكرين اتهامات حركة حماس لمعارضيها بالتخابر مع رام الله وحركة فتح كل ذلك يأتي في إطار من الخصومة السياسية والكراهية التي تعبر عن نفسها مرة بتفخيخ السيارات والاغتيالات ومرة بتفخيخ العقول بالتفكير والتخوين وما بينهما هذا يعني أن الشعوب العربية بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يبدو أنه الغائب الأبرز وغيابه سبب الأزمة في المنطقة فليس هناك اتفاق على نموذج حكم فإذا كانت الديمقراطية هي مستوى من التطور الذي لم تصله المنطقة فليكن هناك عقد اجتماعي ولو على طريقة القبائل.

من مفارقات سخرية أقدار العرب السياسية أن التيار الذي فتح ذراعيه وصدره لتلقف نتائج الربيع وتغيرات الإقليم "الإسلام السياسي" يدفع بسرعة غير متوقعة ثمناً أكبر مما جنى والمفارقة الأكبر أن كل التغيرات الهائلة لم تؤثر على الحالة الفلسطينية هل لأن الفلسطينيين كانوا رواد الفشل الأول في الانقسام والقتل والكراهية؟.

Atallah.akram@hotmail.com

المصدر: 
الايام