التحولات الداخلية والتغييرات في الميزان الاستراتيجي الإقليمي

في محاولة لشرح سلوك أعضاء الكونغرس الأمريكيين في المسائل القومية والدولية، اطلق الرئيس الأسطوري لمجلس النواب توماس ف. اونيل قوله الشهير: ‘كل السياسة محلية’. وهكذا قصد ان يقول ان للخصومات السياسية التي تحركها أساسا اعتبارات محلية، آثارا مهمة على جدول الأعمال القومي وعلى الساحة الدولية. اقوال مشابهة يمكن وصف الاضطرابات التي تهز العالم العربي منذ بداية 2011 بها، فالاضطرابات هي اساسا ظواهر داخلية في هذه الدول، وتلك التي تنطوي على المساعي لاسقاط الانظمة القائمة، تحركها أساسا الضغينة المتراكمة نتيجة للظلم المادي والمعنوي النابع من عدم كفاءة، فساد وإجرام أنظمة القمع. واستمدت الاضطرابات التشجيع من الإحساس المتزايد من القوة التي يعود مصدرها الى تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، والالهام الذي استمد من الانهيار السريع وغير المتوقع للطوبة الأولى في سور الطغيان تونس. والى جانب هذه، فان لنتائج الاضطرابات آثارا مهمة ايضا على الميزان الاستراتيجي، لان تغيير النظام في دولة ما كفيل بان يحدث تغييرات ذات مغزى في المنظومات السياسية، الاقليمية والدولية.

صحيح حتى منتصف 2012 سقطت أربعة أنظمة عربية فقط، وكانت آثار ذلك على الميزان الاقليمي معتدلة جدا. ومع ذلك، بسبب الهشاشة الواضحة للانظمة في اماكن عديدة اخرى في المنطقة، ولا سيما في ضوء الصعود السريع لـ ‘سياسة الهوية’ في السنوات الاخيرة، فان امكانيات التغيير الدراماتيكي الاكبر تبقى على حالها. فوفقا للشكل الذي ستحسم فيه التحديات الحالية والمستقبلية التي تواجهها الانظمة في الدول العربية الاخرى، ولا سيما في سورية تحديات في بعضها تهدد وحدة قسم من هذه الدول ثمة احتمال في أن تجتاز المنظومة السياسية في الشرق الاوسط في المستقبل تغييرا جوهريا في صورتها.

 

تدخل خارجي في التغييرات الداخلية

 

في الجولة الكبيرة السابقة من الاضطرابات الداخلية في العالم العربي، التي وقعت في الخمسينيات والستينيات، أدارت القوى القومية العربية المتطرفة برئاسة جمال عبدالناصر صراعا وحشيا ضد الانظمة المحافظة، ولا سيما ضد الانظمة الملكية المؤيدة للغرب، التي تعد السعودية معقلها الاساس. ولم يؤد هذا الصراع الى مواجهة عسكرية مباشرة، بل عبر عن نفسه بقدر أكبر في طبيعة سياسة تحالفات الانظمة وانتشارها الاقليمي.

ومثل الصراع الذي دار بالتوازي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، دارت في العالم العربي ايضا المواجهة في الغالب بوسائل غير مباشرة مثل التآمر، الدعاية، المال، التجسس واستخدام عناصر مرسلة، الى جانب تدخلات عسكرية مصادفة. وفضلا عن ذلك، اتخذت الخصومات طابعا إيديولوجيا بارزا وجد تعبيره في أن الصيغة والهدف المناسبين للحكم أديا دورا، سواء كجائزة أم كأداة للمنافسة. وأفضل بحث في وصف أجواء هذه الخصومة يسمى ‘الحرب الباردة في العالم العربي’. ويشكل هذا البحث محاولة للعثور في ذاك الزمن عن صدى اقليمي لما وقع بين القوى العظمى على المستوى العالمي. مفهوم أن فكرة تصوير الشرق الاوسط في حينه كمنظومة ثنائية القطب كانت مصابة بالتبسيط الزائد، بالضبط مثل محاولة وصف العالم كله كخصومة امريكية سوفييتية مغلقة. فحدود المنطقة كانت غامضة ولم يكن اي معسكر منضبطا للغاية، واضافة الى ذلك، فان الكثير من الدول التي رأت فيها مصر والسعودية في البداية ساحات للمنافسة، رأت نفسها متساوية القيمة تماما، إن لم تكن منافسة للدولتين المتصدرتين. ومع ذلك، فقد كانت مصر والسعودية عمليا قطبين للميزان الاستراتيجي الاقليمي والمنافسة بينهما كانت شاملة، واسعة ومتعددة الابعاد.

بتعابير عديدة فان ردود الفعل المتبادلة بين التطورات الداخلية والتدخل الخارجي في موجة الاضطرابات الحالية تخلق جولة اخرى من الحرب الباردة في المنطقة، رغم أنها هذه المرة اتسعت ايضا الى دول مركزية غير عربية تركيا وايران.

ومع ذلك، فان طبيعة الخصومة في الجولة الحالية باتت مركبة بما لا يقاس، بسبب تعزز الهويات العرقية والدينية الطائفية، بمعنى، هويات تحت دولة وفوق دولة. وحسب النظرية الواقعية الكلاسيكية، فان الهدف الاعلى للسياسة الخارجية هو الحفاظ على الاستقلال والامن للدول من خلال حث ميزان قوى في كل منظومة اقليمية او عالمية تتعلق بها. وحسب مثل هذا الفهم، فان حساب المصلحة السياسية (او ‘الوطنية’) هو عمل شبه آلي يتشكل من عناصر ملموسة من القوة الحجم، السكان، الجغرافيا، الطوبغرافيا، المقدرات الطبيعية، الذخائر العسكرية وما شابه. والدولة نفسها هي مثابة ‘صندوق اسود’؛ السياسة الداخلية، اي الايديولوجيا، طبيعة النظام واعتبارات اخرى تتصنف باهمية ثانوية، لان المصلحة الوطنية واضحة بشكل موضوعي الى هذا الحد أو ذاك، وهي التي تقرر في النهاية طبيعة السياسة الخارجية للدولة. بكلمات اخرى، يمكن تقليص تعريف المصلحة الوطنية الى الصيغة التبسيطية ‘المكان الذي تقف فيه منوط بالمكان الذي تسكن فيه’.

تتميز المنظومة الإقليمية الحالية أساسا (وان لم تكن حصريا) بالمنافسة بين المعسكر الشيعي، بقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبين المعسكر السني الذي تقوده السعودية (وان كان مرة أخرى، مثلما في الخمسينيات والستينيات، ثمة آخرون يدعون التاج، ولا سيما تركيا ومصر ايضا، منذ إسقاط مبارك). في المنافسة التي تصنف بهذه التعابير، اين تقف حكومات وجماهير، لا يزال ذلك كفيلا بان يكون منوطا بجواب ‘اين يسكنون؟’ ولكن أين يسكنون منوط غير مرة بالجواب على سؤال ‘من هم؟’. هذه الآلية تتضح أكثر فأكثر ليس فقط في سورية، بل أيضا في العراق، في لبنان، في البحرين وفي دول اخرى منسجمة العناصر، يبدو فيها أن الجواب على السؤال ‘من يحكم’ يقرر مسبقا أو يخيل أنه يقرر مسبقا الجواب على سؤال ‘بالنسبة لمن’؟

سيكون خطأ الاستنتاج بان هذه الظاهرة يتميز بها الشرق الأوسط. ففي الهزات الداخلية التي اجتازتها بلدان البلقان وأدت الى تفكك يوغسلافيا، مال المسلمون في العالم إلى أن يؤيدوا بشكل عام البوسنة وكوسوفو (رغم تحفظ بعض الحكام العرب الطغاة، مما بدا لهم كسابقة خطيرة للتدخل العسكري الأجنبي)، ولكن عطف اليونان الأرثوذكس والروس الأرثوذكس مال اكثر للصرب الأرثوذكس. ولم تصبح الهوية عنصرا مهما في السياسة فقط بعد اندلاع الربيع العربي. يبدو أنها كانت من قبل عنصرا مهما في السياسة أثناء الحرب الإيرانية العراقية، حين كادت كل الدول العربية السنية تؤيد العراق، وليس فقط تلك التي وجدت في خطر فوري بسبب قربها من إيران. سورية وحدها التي هي تحت سيطرة العلويين ارتبطت بايران. يبدو أن مسألة الهوية تشرح ايضا التأييد الذي منحته دول مختلفة في الشرق الأوسط للاطراف المختلفة المشاركة في الحرب الداخلية ‘الباردة’ و’الساخنة’ الجارية في لبنان في العقود الأربعة الأخيرة.

وفي حقيقة الأمر فان المنطقة تعاني منذ زمن بعيد جدا من صدامات على خلفية عرقية/ او دينية طائفية. ولكن أهمية الهوية ثنائية القطب تصاعدت بشكل كبير منذ بدء موجة الاضطرابات في العالم العربي، ووجدت تعابيرها بمساعي بعض الدول للتأثير على سياق التطورات في دول أخرى، بهدف تحقيق نتائج يفترض أن تناسب مصالحها في المنطقة، او كبديل إحباط تجديد احلاف ضارة، حين يكون كل شيء يقوم بقدر كبير على أساس هوية الاطراف المتصارعة الواحد مع الآخر في الساحة الداخلية.

 

تغيير النظام والميزان الاقليمي

 

لم تكن سياسة الهويات واضحة من تلقاء ذاتها فور بدء ما سمي بالربيع العربي. وكانت خطوط الشرخ الاقليمي قد ظهرت من قبل، حين وقف حيال معسكر ‘المقاومة’ بقيادة ايران ما يسمى المعسكر المؤيد للغرب ‘البراغماتي’ او ‘المعتدل’، الذي أبرز أعضائه هما مصر والسعودية. تونس، التي كان حكم زين العابدين بن علي أول من وضع في الحصار، هي احد المجتمعات الاكثر انسجاما في المنطقة، ولهذا فقد كانت ردود الفعل على الثورة ذات خطوط سياسية/إيديولوجية معروفة اكثر. وحرصت ايران على تمجيد كل ذرة تهديد للكتلة السعودية/المصرية، بل ادعت أنها هي الإلهام الإسلامي خلف الثورة الشعبية التونسية. ومالت معظم الأنظمة الأخرى الى الحفاظ على الصمت بالنسبة للتطورات في تونس، رغم أنه كان هناك بلا ريب تخوف ما من أثر الدومينو المحتمل، في حالة نجاح المعارضة في اسقاط بن علي. وفي كل الاحوال، أدى قرار الجيش باقناع بن علي بالرحيل الى انتهاء الثورة بسرعة وبلا عنف تقريبا، بحيث لا يمكن للجهات الخارجية، بل ولم تضطر الى بذل جهود كبيرة كي تؤثر على الاحداث. وفضلا عن ذلك، بدأ بعد ذلك انتقال سلس جدا نحو انتخابات ديمقراطية، رفعت الاسلاميين ‘المعتدلين’ ظاهرا، من جماعة ‘النهضة’ الى الحكم، ممن ركزوا، حتى الان على الأقل، تقريبا وحصريا على إعادة بناء شؤونهم الداخلية. ومع ان السلفيين بدأوا بالتدريج يطلقون صوتهم، وكان أساس التخوف من أن يكون من شأن الديمقراطية في تونس ان تنتج في نهاية المطاف نظاما غير ليبرالي، الا ان التحول الذي اجتازته تونس لم يكن له تأثير ملموس على الميل الاقليمي والعالمي فيها، ولهذا السبب أيضا على المنظومة الإستراتيجية في المنطقة.

وسيتفاجأ مراقبون كثيرون حين يتبينوا ان شيئا مشابها يمكن قوله أيضا عن الدولة العربية الثانية التي شهدت تغييرا للنظام، مصر. مثلما في تونس، قاد المظاهرات التي اندلعت في مصر ضد النظام بداية بالأساس شبان مدينيون متحضرون من أبناء الطبقة الوسطى، احتجوا على الجمود وقمع نظام مبارك، وان كان الاحتجاج استمر لزمن أطول وكان اكثر عنفا مما في تونس. ومثلما في تونس، في مصر أيضا لم يكن في الثورة بعد ديني طائفي أو إثني، ليس لان مصر منسجمة مثل تونس.

في مصر أقلية مسيحية قبطية كبيرة جدا، ولكن الأقباط، رغم تعرضهم للتحرشات وللتمييز المستمر، لم يشعروا بانهم محرومون من الحقوق من جانب النظام او مهددون من جانب معارضي النظام حتى انضمام الإسلاميين الى المظاهرات، وان كان متأخرا بعض الشيء. مثلما في تونس، اسقط الحاكم المصري في نهاية المطاف بانقلاب ‘رقيق’ من الجيش، الذي رغم عدم الاستقرار المستمر، نجح في ابقاء عناصر مركزية من المنظومة من عهد مبارك لزمن طويل، بحيث دفع الناس الى التساؤل هل حقا حصل تغيير للنظام. ولكن مصر، ليست مثل تونس، بفضل وزنها الديمغرافي، قوتها العسكرية ومركزيتها التاريخية والثقافية بقيت دوما في قلب منظومة الدول العربية بحيث ان كل تغيير سياسي في مصر حظي بكامل الاهتمام الاقليمي.

كان معسكر ‘المقاومة’ هو الذي فرح بشكل خاص بالاهتزاز المفاجئ لنظام مبارك الذي ادى في نهاية المطاف الى إسقاطه. وهزء بشار الاسد في سورية من مصاعب من كان عدوه الإقليمي اللدود، وفسرها كدليل على عدالة طريقه السياسي المختلف، في ما أصرت القيادة الايرانية على أن مبارك دفع الثمن لقاء قطيعة تعود لثلاثين سنة مع ايران، ولقاء قمع حلم المسلمين في مصر في تبني نموذج الثورة الاسلامية الايرانية. ومع ذلك فمصر هي دولة كبيرة ومستقلة اكثر من أن تسمح لعناصر خارجية في التأثير بشكل حقيقي على سياق تطوراتها الداخلية، بحيث أن هذا التدخل اللفظي لم يحظَ بعطف كبير في أوساط القوى المؤيدة او المعارضة للنظام. وحتى عندما تبين أن الايرانيين كانوا محقين، جزئيا على الاقل، في ادعائهم بان الاسلام هو تيار اعمق بكثير في المجتمع المصري مما قدر الكثيرون (في الغرب اساسا)، تبين أن سياسة الاسلام في مصر لا تعمل في صالح ايران. يخيل ان الايرانيين، الذين شجعهم اسقاط مبارك ومؤشرات صعود قوة الاسلام في النظام المصري، يؤمنون بان التيارات المحلية ستفعل فعلها.

وتغييرات صغيرة كالسماح لسفينة قتالية ايرانية باجتياز قناة السويس اعتبرت مؤشرا يبشر بتغييرات أكبر، وعلى رأس ذلك امكانية استئناف العلاقات المصرية الايرانية التي انقطعت في 1979، بل وربما تصميم نوع ما من الحلف الايراني المصري الذي يكافح النفوذ المقيت للغرب واسرائيل.

عمليا، تبين أن هذه الامال كانت على الاقل سابقة لاوانها ومبالغا فيها، إن لم تكن عديمة الاساس على الاطلاق. فبعد انتخابه للرئاسة قام محمد مرسي – مرشح الاخوان المسلمين باول زيارة خارجية له الى السعودية اشارة غير رقيقة على نحو خاص الى الشكل الذي يرى فيه سلم الاولويات المصري المناسب. ومع أن مرسي هبط انتقاليا في طهران في طريق عودته من الصين في بداية ايلول/سبتمبر 2012، كي ينقل عصا رئاسة مؤتمر دول عدم الانحياز، الا ان زيارته استغرقت عدة ساعات فقط. ولم تتضمن الزيارة لقاء مع الزعيم الايراني الاعلى، وكاد لا يكون فيها بعد الثنائية (كدعوة زعماء ايران الى رد الزيارة في مصر). عمليا، تضمن خطاب مرسي في المؤتمر انتقادا حادا للنظام السوري والمؤيدين له، اي ايران (حسب بعض التقارير لم يبث التلفزيون الايراني موقف مرسي من سورية). وللدقة، شدد مرسي عن قصد على القدسية السنية، من خلال ذكر اسماء ‘صحابة’ النبي محمد: ابو بكر، عمر، عثمان وعلي.

الذكر العاطف للثلاثة الاوائل هو مثابة امر منكر لمعظم الشيعة. وفي نهاية المطاف، بدت علائم قليلة لتحقيق امكانية المصالحة الايرانية المصرية، التي توقعها البعض. مفهوم أنه توجد تفسيرات جغرافية – سياسية متماسكة لذلك: الدور التاريخي لمصر كمركز القوة في الشرق الاوسط والاهمية التي توليها لنفسها يتناسبان بقدر أكبر ومكانتها كمنافسة لايران على الصدارة، من أن تكون شريكا لها (فما بالك ان تكون شريكا صغيرا). ومع ذلك، لا يمكن أن نستخف باهمية الهوية الدينية الطائفية مثلما تبينت من خطاب مرسي في طهران. عمليا، يحتمل أن يدور الحديث حتى عن عامل اهم لمصر الاسلامية مما كان يمكن أن يكون تحت حكومة علمانية مزعومة في القاهرة. وليس ثمة في ذلك ما يعني أن مصر لا يمكنها بطريقة ما ان تعود لان تحتل مكانها المركزي في العالم العربي مثلما كانت في عهد ناصر أو انها لن تقيم انواعا جديدة من العلاقات، بهذه القوة او تلك، مع جهات اخرى في الشرق الاوسط (ومن خارج المنطقة) مثل تركيا. ولكن على الاقل حسب وصف منظومة الدول في الشرق الاوسط، والذي ينبغي الاعتراف بانه تبسيطي للغاية، والذي يرسم منافسة ثنائية القطب (هزيلة) بين المعسكر الشيعي ‘للمقاومة’ بقيادة ايران وبين المعسكر السني، فانه لم يكن للتحولات في مصر تأثير جوهري على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة.

هكذا أيضا في حالة ليبيا، رغم أن ظروف التغيير واسباب نتائجه كانت مختلفة. فاسقاط معمر القذافي هو الحالة الوحيدة في هذه الجولة من الثورات العربية (اي منذ اجتياح العراق) التي يمكن أن تعزى بشكل واضح لتدخل خارجي.

وفضلا عن ذلك، فمع أنه يمكن ان نعزو الجانب العسكري لهذا التدخل الى قوى غربية (ولا سيما فرنسا، بريطانيا والولايات المتحدة)، ولكن قسما من الجوانب المالية واللوجستية جاءت من دول عربية، ولا سيما قطر. بل وربما نقطة أهم الغطاء السياسي الذي وفرته دول عربية واسلامية، من خلال قرارات الجامعة العربية والتأييد لقرار مجلس الامن في الامم المتحدة لحماية مواطني ليبيا. وباستثناء الاعتبارات الانسانية، فلا يزال هناك بعض انعدام اليقين بالنسبة لدوافع هذا السلوك من جانب الدول العربية. فبقدر ما، يحتمل أن يكون هذا نتيجة سنوات عديدة نجح القذافي خلالها بتهديداته واهاناته في أن يبعد عنه تقريبا كل نظرائه من الدول العربية. ومهما يكن السبب، فلا يوجد اي دليل على أن عوامل دينية طائفية او إثنية أدت هنا دورا ما. فليبيا هي في اغلبيتها الساحقة مجتمع عربي سني، رغم كونها ممزقة بسبب المواجهات بين القبائل.. وفي السنوات الاخيرة قطع القذافي نفسه عن الشؤون العربية وركز على افريقيا جنوب الصحراء.

وبالتالي، لم تسارع اي دولة عربية أو اسلامية اخرى الى الدفاع عن القذافي. كلها، سواء بهذه الحماسة الشديدة أو الاقل شدة، ايدت التدخل وتغيير النظام، وعندما وقع الامر بالفعل كان التأثير على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة طفيفا، كما كان متوقعا..

في اليمن، أدت الاحتجاجات الطويلة وسفك الدماء بالرئيس القديم، علي عبدالله صالح الى التنازل عن موقعه (وان كان صالح وزوجته نجحا في الفرار، ونائبه استولى على موقعه).

ومع ذلك، ففي فترة التشوش ما بعد نزول صالح عن الحكم، ليس واضحا الى أي مدى تغير النظام عمليا. فضلا عن ذلك، مثلما لتونس، لليمن ايضا وزن هامشي فقط في العلاقات الاقليمية بحيث أنه حتى اذا ما حصل تغيير سياسي أكبر، فانه لن يتغير الميزان الاقليمي بشكل جوهري. ومع ذلك، يجدر هنا أن نضيف ملاحظتين. الاولى هي أنه يوجد عنصر اثني/ديني طائفي مشارك في عدم الاستقرار في اليمن: يوجد سكان حوثيون/شيعة في شمال غرب الدولة، ثاروا على الحكم المركزي حتى قبل اندلاع الاضطرابات في باقي ارجاء الدولة، وحسب ادعاءات مختلفة تمتعوا بدعم ايراني. ملاحظة ثانية هي ان الحكومة المركزية تؤدي منذ زمن بعيد دورها رسميا فقط في الكثير من اجزاء الدولة، وتترك مجالا واسعا لازدهار عناصر جهادية كالقاعدة في شبه الجزيرة العربية. لهذين السببين ايدت صالح دول مثل السعودية وقوى سُنية اخرى مؤيدة للوضع الراهن، ومن شبه المؤكد ان هؤلاء سيحاولون احباط تطورات مستقبلية تضر بمصالحهم في شبه الجزيرة. وقد تجسد الامر بالملموس في أعقاب الثورة الحصرية ذات العنصر الديني الطائفي الصرف والتي قمعت، حتى الان، بتدخل عسكري اجنبي واسع البحرين.

في بداية 2011، بعد وقت قصير من اسقاط بن علي ومبارك من الحكم، أعلن الرئيس السوري بشار الاسد انه ليس قلقا من مصير مشابه وذلك لانه بزعمه ‘مرتبط جيدا بمواقف الشعب’. وبعد وقت قصير من ذلك، كانت تكفي حادثة تنكيل بطفل امسك به في المدينة الجنوبية درعا وهو يرش على الحائط شعارا مضادا للنظام، من أجل اشعال نار الاحتجاج الذي انتشر ضد القمع، الفساد وعدم أهلية نظام الاسد. كان يبدو أن الاسد لا يحب شعبه اكثر مما كان يحبهم بن علي ومبارك.

ولكن خلافا لتونس ومصر، فان الجيش لم يدر للحاكم ظهر المجن، وذلك اساسا بسبب الطبيعة الاجتماعية الديمغرافية المميزة للدولة. ومع ان الانتفاضة ضد الاسد لم تبدأ كحركة علنية ذات طابع اثني أو ديني طائفي، ومع ذلك فانها سرعان ما اتخذت هذه الاتجاهات (وربما بشكل محتم). وللحقيقة، فان ايديولوجيا حزب البعث كانت دوما ايديولوجيا القومية العربية وغير الطائفية تماما، وتمتع النظام تقليديا بدعم ما ايضا من الطائفة السنية، ولا سيما في أوساط النخبة التجارية المدينية. اما عمليا، فان القاعدة العلوية لاذرع الامن منحت حقوقا للاقليات، ولا سيما العلويين، في كل جوانب الاقتصاد السياسي، وخلقت احساسا بالظلم النسبي في أوساط اغلبية المسلمين السنة، واشعلت بشكل خاص النقمة من جانب الاسلاميين منهم تجاه ما اعتبروه حكم الكفرة. وعليه فليس مفاجئا أن تتخذ المعارضة صورة الحركة السنية، وان اقليات اخرى، عالمة جيدا بمصير المسيحيين في العراق وتخوف المسيحيين في مصر، تخشى على مصيرها في حالة يقظة اسلامية لم تعد مكبوحة الجماح بأيدي نظام طاغية. هذه المخاوف لا تنقطع عن الواقع، ولا سيما كلما اصبح العامل السلفي في المعارضة اكثر فأكثر وضوحا، ولكن بالتوازي يحرص الاسد على اشعالها كي يقلص الخطر في انتشار الاحتجاج في كل شريحة ديمغرافية اخرى باستثناء العلويين. وكنتيجة لذلك، ورغم النفي سواء من جانب الحكم ام من جانب المعارضة، باتت المواجهة في سورية دينية طائفية أكثر فأكثر بالتدريج مع تعاظم مظاهر العنف. وللدقة، فان مركزية سورية جعلت المواجهة الداخلية فيها محورا ستنتظم حوله المنظومات الاقليمية، كون تطوره ونتائجه قد تنتشر الى دول مجاورة فيها ايضا ينقسم المجتمع، وتؤثر على الميزان العام بين القطبين الفارسي العربي/الشيعي السُني المتنافسين على السيطرة في المنطقة.

منذ اندلاع الانتفاضة في سورية بدد الأسد قدرا لا نهاية له من التوقعات بنهايته القريبة. فقدرته على الصمود تنبع بشكل لا بأس به من الدعم المالي، العملياتي، الفني، اللوجستي والاستخباري الذي يتلقاه من ايران الدعم الذي وفق تقارير عديدة اتسع لدرجة التدخل الحقيقي في الحرب من جانب الحرس الثوري (لواء القدس). ويعود التفسير السطحي لالتزام ايران الى أن نظام الاسد هو ذخر استراتيجي. هذا صحيح بالتأكيد، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا هو ذخر، بمعنى لماذا دارج جدا الافتراض (الذي هو صحيح على نحو شبه مؤكد) بان بقاء الاسد سيبقي سورية في المعسكر الايراني، ولكن اذا سقط ربما بانقلاب لضباط علويين ينجحون في الاحتفاظ بالسلطة سيؤدي الامر الى تغيير الاتجاه نحو ابتعاد سورية عن ايران. الجواب الاكثر اقناعا على هذا السؤال هو أن الصلة الدينية الطائفية بين ايران وبين الماسكين بالحكم في سورية هي التي ستنشق.

الذخر/الحليف الاستراتيجي الثاني في اهميته لايران، حزب الله، ملتزم هو ايضا بدعم نظام الاسد المعارضة السورية تدعي حتى انها القت القبض على بعض من مقاتلي الحزب في سورية ومواقفه الكفاحية من الاحداث في سورية تطرح التخوف من اشتعال متجدد على خلفية التوتر الديني الطائفي في لبنان. فمن جهة، العضو الاخر الوحيد في كتلة ‘المقاومة’ حماس اضطر الى ابعاد نفسه عن الاسد لانه لم يكن بوسعه (رغم علاقاته الطويلة مع ايران) أن يبرر ارتباطه بالمعسكر ‘الشيعي’ في سورية امام جمهور مؤيديه السنة.. لا ريب أن الاردن هو الاخر يشعر بعطف قليل فقط تجاه الاسد (وايران) في ضوء مصاعب النظام السوري، رغم أنه يحرص على عدم الالتزام بذلك علنا. فبعد كل شيء، كان الملك عبدالله هو الذي حذر لزمن طويل قبل اندلاع الاضطرابات في العالم العربي ضد صعود ‘الهلال الشيعي’ في المنطقة.

واضح انه يمكن دوما تفسير التحالفات الخارجية بين الحكومات بواسطة فكرة مبسطة للغاية تسمى ‘المصلحة الوطنية’. ولكن، اولئك الذين لا يزالون يشككون باهمية الهوية السلطوية او الاجتماعية في تحديد ما هي المصلحة الوطنية، رغم ردود الفعل الاقليمية على الحرب الاهلية في سورية، يمكنهم أن يجدوا دليلا اكثر اقناعا في ذلك في التاريخ المتلوي للميل الاقليمي لدى العراق في عصر ما بعد اسقاط صدام حسين من قبل القوى الغربية. ويتضمن هذا العصر حربا أهلية متواصلة واقامة حكومة في بغداد بسيطرة شيعية. ولم يتغير شيء في الظروف الموضوعية التي قررت ظاهرا المصلحة الوطنية حسب الفهم الواقعي الجغرافيا، الطوبغرافيا، حجم السكان، المقدرات الطبيعية التي بقيت كلها كما كانت. الامر الوحيد الذي تغير كان الاقلية الطاغية، التي الى جانب الهيمنة الفكرية للقومية العربية ابقت الاغلبية الشيعية تحت حكم سني.

دول الخليج التي ساندت في الماضي صدام حسين في حربه ضد ايران لانها رأت فيه السور الواقي في وجه توسع الهيمنة الايرانية في المنطقة فقد تبنت الان نهجا باردا وبعيدا على نحو واضح تجاه الرئيس العراقي الحالي، نوري المالكي، كونها ترى فيه، ضمن امور اخرى، دمية أو جهة مساعدة نشطة في خدمة الهيمنة الايرانية.

 

الاستنتاجات

 

المتغير المركزي في محاولة تقدير الميزان الاستراتيجي في الشرق الاوسط هو نتيجة الحرب الاهلية في سورية. إذا بقي بشار الاسد (او حتى النظام بدونه) ففي المدى القصير من المتوقع أن يطرأ تغيير هامشي فقط على الميزان، هذا اذا وقع اصلا. ولكن اذا ما اسقط النظام فعندها بالضبط مثلما غير تغيير النظام في العراق الميزان الديني الطائفي الداخلي، وتوجه هذه الدولة بشكل أثر على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة، هكذا ايضا فان تغييرا مشابها في سورية سيخل بالتوازن الديني الطائفي الداخلي في الدولة، ونتيجة لذلك ميلها في مجال العلاقات الخارجية. ومن المتوقع لاهمية التأثير على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة الا تكون أقل مما هي في العراق، ولا سيما اذا أخذنا بالحسبان المنافسة الاساسية بين القطب الايراني/الشيعي والعربي/السني في السياسة الاقليمية في الشرق الاوسط.

مفهوم أنه حتى لو لخصت هذه الثنائية جيدا الميزان الاستراتيجي في المنطقة، فانها بصعوبة تستنفد كل السيناريوهات المحتملة، لا سيما ان مسألة الهوية أعقد من أن تسمح بتحليل بسيط احادي البعد. وأحد اسباب التعقيد هو العدد الجم للجهات التي هي دون الدولة وفوق الدولة ممن يتوزعون بشكل قاطع بين المعسكرين.

سبب آخر هو حقيقة أن مراكز القوى الكبرى نفسها ليست بالضرورة ثابتة خالدة. فتغيير النظام لا يزال يمكنه أن يقع ايضا في ايران، وربما بشكل يتركه في هويته الشيعية، ولكنه يؤدي الى تغيير في ميله الاقليمي ويمنع منظومة اقليمية بقيادة ايران تقوم على أساس حماستها الايديولوجية. يحتمل حتى ان تقف ايران، التي توجد فيها أقلية لا بأس بها من السكان غير الفارسيين وغير الشيعة، امام تحديات العزلة تهدد وجودها، كما يحصل في سورية وفي العراق. أمر مشابه يمكن قوله عن السعودية، حيث يوجد سكان شيعة بعدد كبير ومغتربين في المحافظة الشرقية (والمنتجة للنفط) فيها. في حالة تحقق احد السيناريوهات الكثيرة لضعف دولة ما أو تفكك دولة ما، فان الاثار على المنظومات الاقليمية ستكون قاطعة.

فضعف مراكز القوة المركزية سيؤدي الى منظومة اقليمية أقل تراصا، مع فرص عديدة أكبر لجهات هامشية نسبيا للعمل كلسان الميزان، ولكن دون دافع الهوية القوي الذي يكبح جماح مدى مناورتها. وتجدر الاشارة الى أن وضعا من هذا القبيل سيكون مرغوبا فيه أكثر سواء من جانب القوى الخارجية المتحمسة لمنع صعود الهيمنة الاقليمية، أم من جانب جهات اقليمية كاسرائيل التي تعتبر (بتعابير الهوية الأصلية) ‘النموذج الشاذ’.

وحتى لو لم تضعف او تتفكك مراكز القوى المركزية، فلا تزال توجد امكانية نظرية ان تؤدي تقلبات سياسية في المنطقة مع الزمن الى تعزيز الميول الديمقراطية الليبرالية وهذه ستقلل بالتدريج من اهمية الهوية الاثنية/الدينية الطائفية أو تشجع على الاقل تعابيرها بوسائل قتالية او متطرفة بقدر أقل. من زاوية نظر اسرائيل فان قيام الديمقراطية الليبرالية (بما في ذلك في ايران) سيكون تطورا واعدا أكثر (وان كان معقولا أقل) من صعود مراكز قوة اخرى ولكنها أضعف، وتفكيك منظومة الدول في المنطقة الى كيانات اصغر.

وعلى الرغم من ذلك، لا ينبغي استبعاد امكانية تطورات اكثر بشاعة. وتناول توني بلير في العام 2001 نهج ايران تجاه طالبان، صدام حسين والقاعدة، وادعى ان ‘العداء كان المركز في الانقسام السني/الشيعي، وليست أساليب أو مذاهب كل طرف.

ودارت المعركة حول مسألة من يقود حركة رجعية داخل الاسلام، وليس من يمكنه أن يبني حركة تقدمية’. وهذه، بالطبع، ليست القوى الوحيدة في الميدان السياسي.

وفي التشكل المتواصل للربيع العربي لا تزال هناك جهات ليبرالية تتطلع الى تصميم رؤية حديثة للاسلام بالتعاون مع باقي العالم، الى جانب أنظمة طغيان قائمة تكافح في حرب شاملة لا توجد أي رؤية حقيقية خلفها.

غير أن موجة الاضطرابات في العالم العربي وضعت هذه الانظمة في حالة دفاع، وتركت فتحة محتملة فقط لذوي الحداثة، ممن عرضوا حتى الان قدرة محدودة فقط على استغلالها. وبدلا من ذلك، فان الاسلاميين هم الذين يتمتعون بالازدهار، سواء في العالم السني أم في العالم الشيعي. ليس واضحا بعد مَن مِن بين كل المدعين للتاج السياسي والاجتماعي هو الذي سينتصر، او حتى اذا كان الاسلاميون سيواصلون التقدم فأي تيار اسلامي سيتغلب. ومع ذلك، لا يمكن أن نستبعد تماما احتمالية أن تؤدي الدينامية الحيوية لليقظة العربية في نهاية المطاف الى ان ينتشر الوضع الذي وصفه بلير في 2001 في عموم الشرق الاوسط. اذا تبين ان آثار الربيع العربي ستؤدي في نهاية المطاف الى الصدام بين الهلال الشيعي والهلال السني/السلفي، فسنجد أنفسنا نتوق للفترة التي سادت فيها في المنطقة حرب باردة فقط.

تقرير استراتيجي لاسرائيل للعامين 2012 ـ 2013

مركز بحوث الامن القومي ـ جامعة تل ابيب 2013

معد الدراسة: 
مارك هيلر