في المسافة من "عودة الأخوة" الى "الجرف الصامد" هم أوهن من بيت العنكبوت
لن أخوض في هذا المقال في تفاصيل جرائم الكيان الصهيوني الغاصب، فنحن المقهورون؛ قلوبنا ثقيلة جداً، ولا نحتاج لبراهين على ذلك. الفكرة في هذا المقال تعود للحدث الأول، عملية اغتيال ضابط الشرطة "باروخ مزراحي"على حاجز ترقوميا قبل عدة أشهر، عندما قتل الضابط جراء عملية إطلاق نار عليه في سيارته واختفى منفذ العملية ولم يترك له أي أثر. عقب عدة أشهر من هذه العملية قام الكيان الصهيوني بإذاعة خبر اختفاء الصهاينة الثلاثة في حدود مدينة الخليل، أنهال كم هائل من "الإسقاطات النظرية" التي ادعت أن هذه مسرحية يعمل عليها المطبخ السياسي الصهيوني في حكومته، راهن الكثير على أن أبعاد ما حصل ستكون وخيمة، لكن بالطبع تبقى فرضية "المقاومة" حاضرة لا محالة في ذلك المشهد وبدون أدنى شك.
لكن في كل الأحوال من راهن على أنها "مسرحية"، لم يحسب حساب الساحة الداخلية، أو ربما استهان بها البعض. بني هذا الكيان الغاصب على مفاهيم عديدة واهية وواهمة، من ضمنها أن هذه البلاد وجدت لليهود الذين عانوا الأمرين في العالم، بالتالي كان لا بد من إنشاء وطن قومي آمن، ومن هنا يتحدث الصهاينة عن أهمية الأمن القومي بالنسبة للصهاينة، هذا الأمر الذي يجعل البعض يقف عند كلمة "مسرحية" ويراجع حساباته، ونعم قد يطرح تساؤل: لماذا لا تكون مسرحية وإن كان فيها دم صهيوني؟ ألم يفعل الصهاينة ذلك من قبل؟! فعلوها الصهاينة من قبل، لكن لم يكن المشهد يحكمه "يميني متطرف" يمثل نخبة صفوة التطرف الصهيوني العلني والظاهر، كما ولم يكن في المشهد "الجيش الذي لا يقهر".
في عملية إطلاق النار على حاجز ترقوميا ومن خلال معاينة "مشط" البندقية التي تم من خلاله معاينة آثار بصمات وبقايا عينات "الحمض النووي" ومن خلالها تم استخلاص الشيفرة الوراثية، ليصل الشاباك لنتيجة أن منفذ العملية هو الأسير زياد عواد من محرري صفقة شاليط. أي عقل يقبل هذا الادعاء؟ لماذا يترك مقاوم مشط بندقيته وبالتحديد أسير محرر؟ وهل من المعقول أن لا ينتبه للبصمات؟ تحليل حمض نووي تظهر نتيجته عقب شهرين من تنفيذ العملية؟ لماذا تكتم الشاباك طيلة المدة على هذا؟ وكيف يقنع الشاباك جمهوره فيما بعد إن حصلت عملية مماثلة أن تحليل "الحمض النووي" كان حقيقة؟ كيف يخاطر الشاباك في مصداقيته أمام جمهوره؟ ولربما نحن موهومين كثيراً بهذا الجهاز.
إذن ما الذي حصل في الخليل؟ المشاهد المتتالية في الخليل من عمليات، وإن كان البعض يظن أنها "مؤامرة"، تجعلنا نسلط الضوء على النقاط التالية:
1- نتنياهو لم يفقد مصداقيته أمام العالم فقط، بل فقدها أمام جمهوره، نتنياهو لم يستطع أن يحافظ على هيبته المتطرفة أمام المجموعات العنصرية، لم يحافظ على العهد، خصوصاً أن الجنود فقدوا ولم تكن هنالك أي حلول فعالة في يد الحكومة. وحتى وإن ثبت أن نتنياهو كان على معرفة بتفاصيل حادثة الاختطاف منذ البداية، فهذه نهاية النفوذ السياسي للتيار اليميني المتطرف العلني في الكيان.
2- يجتمع جهاز الشاباك ومؤسسة الجيش لأشهر، دون نتيجة ودون دلائل، الأمر الذي يجعل "الجمهور الإسرائيلي" يراجع مئات المرات حقيقة أن جيشهم لا يقهر وأن جهاز الاستخبارات هو من أكفأ الأجهزة في العالم. أود الإشارة هنا أن عملية البحث التي استغرقت اسابيع من قبل "الجيش الذي لا يقهر" كانت في مساحة يستطيع الفلاحون الفلسطينيون نبشها في مدة أقل من شهر في موسم زراعي ما.
3- لم يستطع الصهاينة تصدير الصورة التي يريدون للعالم، لم يستقبلهم العالم بالدموع على ما فقدوا، بالعكس هاجموهم في المؤتمرات، أصبحت أزمة إضافية هذه الدعاية الصهيونية المحروقة.
ثم قامت مجموعة صهيونية عنصرية حاقدة باختطاف الفتى الشهيد محمد أبو خضير وعذبته حتى الموت وحرقته، الأمر الذي أدى إلى إنفجار الداخل المستعمر من القدس وحتى أقصى شمال فلسطين التاريخية، لم يدرك الصهاينة ما يحصل، لم يستوعب الجلاد في تلك اللحظة ما يحصل ومن أين أتى هذا الكم الهائل من الانتفاض، وكأن الشارع لا ينسى، وكأن الأرض تمنح الحياة لأصحابها في كل دمعة لأم شهيد. يدعي البعض أن هذه اختبارات لقياس الشارع، وأن هذه الهبة ما هي إلا مجرد "زوبعة في فنجان"، لكن كيف تكون زوبعة في فنجان وحدت عدت مناطق جغرافية فصلها الكيان الصهيوني عن بعضها البعض بجيشه ومستوطناته، وحدها في موقف واحد ألا وهو رفض الذل والخنوع لتنتفض فلسطين كلها في نهاية المطاف وإن لم تكن الصورة واضحة بشكل جيد.
وفي ظل وجود هذه الانتفاضات العفوية البريئة حرقةً على دماء الشهيد أبو خضير، كانت المقاومة في غزة تقصف المناطق المحيطة للقطاع بشكل متقطع بينما يقوم الصهاينة بقصف عشوائي لأحياء ومناطق في غزة محاولاً جر المقاومة في غزة إلى معركة، وما أن حدث هذا اصطدم "الجيش الذي لا يقهر" بما هو جديد.
في معادلات التقسيم الجغرافي التي فرضها الاستعمار الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية تعجيز للعقل ليس فقط للحركة، تعجيز لحركة العقل، إذ أن الاستعمار وبكل تأكيد دائم الحرص على تقطيع جغرافيا الأرض المستعمرة، لا لمجرد السيطرة على جسد المستعمر والسيطرة على حركته بل أيضاً للتحكم في كل النفسية المستعمرة على الأرض، فالجغرافيا هي حدود للمجتمع والثقافة وكل ما يتعلق بالفرد داخل موطنه. لكن في مجابهة المستعمر، يتم التعامل مع الطبوغرافيا ميدانياً لضمان فاعلية العمل المقاوم، لكسر أي عائق يضعه المستعمر في حيز التفكير حول الجغرافيا والحواجز.
في الوقت الذي قام الصهاينة به بإقصاء فضاء غزة جغرافياً واستثنائه عن خارطة العالم ووضعه في طوق من حديد، كانت حركات المقاومة في غزة تتجه نحو دراسة الطبوغرافيا في غزة ورسم ملامح لجغرافيا جديدة في جوف الأرض، وهذا ما نعرفه عن قطاع غزة منذ الحصار، لكن ما الجديد اليوم؟
منذ اليوم الأول لبدء عملية "الجرف الصامد" التي أعلن عنها الكيان الصهيوني ووضع لها أهدافا تقليدية جداً تضمنت التخلص من صواريخ المقاومة واغتيال بعض القيادات الفلسطينية، أعلنت أيضاً المقاومة الفلسطينية عن بدء عملية "البنيان المرصوص"، إن انتبهنا للتسميات هنا نلاحظ أن المقاومة وضعت "البنيان المرصوص" في نفس وزن "الجرف الصامد" لتكون هذه دلالة على التوازن في الصمود والتحدي والإرادة، ولعل البعض لا يرى دلالات لذلك لكن علينا ان نعرف أن التسمية هنا من قبل الصهاينة هي للجمهور الصهيوني، وعلى غرار ذلك التسمية من قبل فصائل المقاومة هي أيضاً للجمهور والجيش الصهيوني، ومن هنا بدأت الحرب النفسية.
كانت المفاجئات قد بدأت منذ الأيام الأولى للحرب على غزة، عندما أمطرت المقاومة الفلسطينية الكيان بصواريخ نوعية تختلف في دقتها وقوتها عن الصواريخ التي استخدمت في المرات السابقة، إذ استطاعت المقاومة في أيام العدوان أن تضع فلسطين التاريخية كلها في مرمى الصواريخ، وأعلنت أن ما خفي أعظم، فكانت الصواريخ قد وصلت لجنوب فلسطين في بير السبع، وشمال فلسطين في الخضيرة وحيفا، حتى أنها وصلت البحر الميت!! ثم جاءت عملية "زيكيم" البحرية التي استطاعت من خلالها عناصر المقاومة "غزو" قاعدة زيكيم من خلال وحدة خاصة تابعة للمقاومة من خلال البحر، قامت الوحدة بالغوص والسباحة للالتفاف على الحدود التي وضعها الكيان ومن ثم تنفيذ العملية. كما أن عملية معبر كرم أبو سالم التي قام بها المقاومون كانت مفاجأة مدوية، إذ أن الأرض انهارت بالصهاينة، انهارت من تحتهم!!
ثم بدأ الجيش الصهيوني بتوسيع هذه العملية وبدأ الحديث عن اجتياح للقطاع، ومهما كان شكل هذا الاجتياح لم تسكت المقاومة لترسل صاروخ "كورنيت" وتطلقه على مدرعة عسكرية أصيب فيها جنود صهاينة على الأغلب أنهم قتلو، هذه رسالة بسيطة لما سيعانيه الصهاينة في حال تم الاجتياح، ناهيك طبعاً عن الرسائل الأخرى التي تحمل دلالات في هذه الحرب من قبل المقاومة.
إن ما يجب التركيز عليه هو أن المقاومة استطاعت فرض معادلات جديدة لم تكن بالحسبان، ترسم من خلالها صورة جديدة يظهر فيها أن السماء والبحر والأرض وما في جوف الأرض هي تحت سيطرة المقاومة:
1- صواريخ المقاومة التي نزلت في الأراضي المستعمرة طالت المناطق التي تعتبر نبض الكيان، "تل أبيب" هي العاصمة السياسية (عاصمة صنع القرار)، "ديمونة" في بئرالسبع والتي تضم مفاعل ديمونة النووي (هنا نلاحظ إسقاط للإدعاءات والمخاوف العربية من هذا الكيان)، قصف "مطار بن غوريون" كان ضربة موجعة للكيان الصهيوني (المقاومة تردد على مسامع الصهاينة أن هذا الكيان اليوم حركته باتت في أيدينا)، بالإضافة إلى استهداف نتنياهو وتبني محاولة الاغتيال من قبل سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي (وهنا أود الإشارة إلى أن الصورة تأخذ منحى إقليميا نظراً للعلاقات الإقليمية لحركة الجهاد، هذه رسالة موجهة). طبعاً الأضرار المادية لا تحصى والتي تكلف الكيان الصهيوني الكثير، كما أن الكيان يتكتم على جميع خسائرة المادية والجسدية – الأرواح، ويكفينا أيضاً أن أكثر من ثلاثة ملايين صهيوني يقبعون في الملاجئ، بمعنى أن الكيان بات شبه مشلول.
إن ما يهم هنا أن المقاومة اليوم تملك الخارطة، تستهدف ما تشاء وترمي ما تشاء، سخرت الطبوغرافيا للسيطرة على الجغرافيا، فأصبح الكيان كله مستهدفا!! لترسم معادلات جديدة. كما أن أحد الصواريخ التي تم الإعلان عنها وهو صاروخ M302 السوري الصنع، شكّل صدمة للكيان الصهيوني وأثبت فشل استخباراته في جمع المعلومات، وفشل سيطرته على الحدود.
2- إن عملية "زيكيم" ومعبر كرم أبو سالم تعني في منطق الحركة الهجوم لا الدفاع "اليوم نغزوهم ولا يغزونا" بالإضافة إلى ما حصل في إيلات وتم التعتيم عليه بشكل كبير. (الهجوم بمعنى نقل المواجهة إلى الداخل المستعمر لم يكن في حسبان "الجيش الذي لا يقهر"، وهذه دلالة أيضاً على أن من يوجه المعركة اليوم هي المقاومة.)
3- ترسل المقاومة في غزة رسائل من خلال "أبو أحمد" الناطق باسم السرايا و"أبو عبيدة" الناطق باسم كتائب القسام رسائل تفيد بأن غزة صندوق بارود، ثم أطلق صاروخ كورنيت على عربة عسكرية صهيونية واشتبكت المقاومة مع كل الوحدات الصهيونية التي حاولت الاقتراب من غزة (المفارقة هنا أن الصورة تقلب، الكيان يضرب بصواريخ مثل ما تضرب قوته غزة، والغزو بات ممكناً للمقاومين وسيكون وخيماً إذا تجرأ الصهيوني على الاجتياح لأنه لا يسيطر إلا على ما يراه وبالكاد)
4- الحرب النفسية حاضرة من خلال الرسائل والمفاجآت ومصداقية المقاومة (رسائل الفيديو التي ظهرت وطبقت) وهذا ما يجعل كلمة المقاومة مسموعة، ويجعل نتنياهو وطاقمه في مهب الريح. إن ما يحصل اليوم هو إدارة للمعركة من قبل المقاومة، ومن يدير المعركة يملي الشروط، كلما حاول نتنياهو الحديث عن تهدئة أمطرت المقاومة فلسطين التاريخية كلها بالصواريخ، وكأن المقاومة تقول: لنا الكلمة.
5- شل القبة الحديدية أمام صواريخ المقاومة نزع الثقة الكاملة في منظومة الدفاع، لا يوجد سوى الملاجىء، وهروب الصهاينة يعني بشكل أو بآخر هزيمة موجعة طالما استمرت الحرب.
6- باتت صورة اليمين المتطرف العلني المرهونة بعنصرية صهيونية فذة، في مهب الريح، نتنياهو قضى على مستقبله السياسي، ويحتاج الصهاينة الكثير الكثير للرجوع إلى الشارع ك "سيد" وبقوة.
عادت الصورة في نهاية المطاف لتؤكد فشل نتنياهو بين الجمهور، تؤكد أن الشاباك فشل في جمع المعلومات، وكأنه لا يعرف شيء عن المقاومة وما تملك، من "عودة الإخوة" إلى "الجرف الصامد" فشل الكيان من تحقيق أي أهداف حقيقية في مساحات ضيقة جداً سوى قتل الأطفال وتدمير البيوت، كيف لهذا الكيان أن يصمد أمام جيوش حقيقية خصوصاً وأن المعادلة في فلسطين المستعمرة هي معادلة صمود.
إن ما يحصل اليوم حصل سابقاً في لبنان (حرب تموز)، إلا أنه مع مرور الوقت تراكمت الخبرات والإمكانيات لدى المقاومة. أود الإشارة إلى أن غزة محاصرة بكل الأشكال، بينما تبقى لبنان مفتوحة جغرافياً، لنتخيل كيف ستكون الحالة بعد كل هذا الوقت إن قام الكيان باقحام نفسه في حرب مفتوحة في جغرافيا مفتوحة سهلة الحركة على السطح وتحت السطح. استطاعت المقاومة في آخر عشر سنوات أن تثبت للعالم أن الكيان الصهيوني يسقط بمجرد الإبداع قليلاً في التفكير ووضع منطق العقل على حياد بجانب الإصرار على الصمود، الصمود في شهر تموز.