مقاطعة البضائع والتحرر من الاستحمار

بقلم: 

يقول المفكر العظيم المرحوم علي شريعتي في كتاب النباهة والاستحمار حول علاقة المستعمِر مع المستعمَر: "...نعم هذا المقدار يكفي! يكفي أن يتجدد الى حد يكون معه لطيفاً، فيخلع الأزياء القديمة، ويلقيها في سلة النسيان لكن، لا يتجاوز شعوره إلى حد يجعله يبتدع أو يختار نوع أو لون أزيائه من تلقاء نفسه. وكأنهم يقولون: إن الأمر لا يرتبط بك، فأنت لست إنسانا حتى تختار !! قلنا، إخلع ملابسك فقط لا أكثر...!" (شريعتي، 36، 1984).

ما زلت أذكر عندما جاء معلمي علينا بسيارته التي تحمل نمرة صفراء (نمرة "إسرائيلية") صابغاً علم الكيان الصهوني باللون الأزرق الغامق، ليمحي ملامح العلم والأحرف من تحته، استهجن معظم الطلاب الحاضرين هذا العمل، وعمَّت الدهشة المكان، لم نفهم حينها ما معنى ذلك وما دلالته. لكن اليوم تنتابني فرحة عارمة في داخلي كلما تذركت أن هنالك أشخاصاً يجدون مكاناً للمقاومة في كل تفاصيل حياتهم، الصغيرة والكبيرة، يسعون دائماً لطمس شرعية الاستعمار ومجابهة وجوده. يحمل البعض منّا فهماً خاطئاً لمقاطعة البضائع الصهيونية، بل لأي حملة مقاطعة سواء اقتصادية استهلاكية أو إنتاجية أو مقاطعة أكاديمية، وهذا يعود لحمل الفهم الخاطئ للاستعمار، بطبيعة الحال يتعامل المعظم مع الكيان الصهيوني على أنّه كيان محتل، جاء لِلَجمِ الناس بعد سرقة الأراضي التي حصلت وما زالت تحصل، متناسياً أن "إسرائيل" هي مشروع استعماري إحلالي، وأن الصهونية هي حركة ناجمة عن عصارة الرأسمالية اليهودية المركزية في أوروبا إبان الحرب العالمية الأولى والثانية، حركة تسعى للتوسع على كل الأرض، مشروعها لا يرحم.

في ظل هذا السخط العالمي على الدم البريء، وفي ظل هذا التعتيم العالمي لمآسي المقهورين، يشعر المقهورون على هذه الأرض أنهم ليسوا بـ "فاعلين"، مهما حاولوا ومهما فعلوا، وقد يرى البعض أن أي محاولة وإن ظهرت في شكلها أنها بسيطة قد لا يكون لها أثر، وهذا طبعاً جزء من منظومة "الاستحمار" التي ترى في الجلاد سيداً وملكاً لا يمكن التطاول عليه وإيجاعه مهما حاول المقهور ذلك!!

في مقاطعة الصهاينة جوهر مقاوم لكل من فهم أهمية هذه المقاطعة، يعود هذا الجوهر لأساس الهويّة التي تنبع من داخل واقع العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، هوية المستعمَر المقاوم، الذي يرفض في داخله أن يعطي أي شرعية لكيان المستعمرة، والذي يلغي في داخله أي جاهزية لاستقبال وقبول فكرة أن ما يعيشه شرعي، وواقع يجب أن يبقى كما هو. تعيد لنا مقاطعة كل ما ينتج من هذا الكيان الغاصب الإحلالي فرصة لإعادة ترميم الهوية الحقيقية للفلسطيني، الذي رفض الاستعمار وما زال يرفضه، والتي من المفترض أن تكون على رأس البناء في الوعي الجمعي الفلسطيني.

آلية المقاطعة لا جدال ولا نقاش عليها، بمعنى أنه لا يباح للمستعمَر أن يستهلك ما يصنع في مستوطنة صغيرة في أراضي الضفة الغربية، وأن لا يستهلك ما يصنع في "تل أبيب" مثلاً، هذا هراء، إن حملات المقاطعة لـ "بضائع المستوطنات" و"سأقاطع المولات الإسرائيلية" هي حملات تبخس من حقيقة واقع المُستعمَر الأليم، المقاطعة تعني قطع كل ما قد يرسم في ذهنك شرعية لهذا الكيان، بالتالي البضائع التي تصنع في "تل أبيب" لا تختلف بتاتاً في موقعها داخل منظومة المقاومة عن بضائع أي مستوطنة صهيونية صناعية على أرض فلسطين التاريخية، وأن الحالة الطبيعية تفرض على الشعب المستعمَر أن يقاطع كل صغيرة وكبيرة، وتبقى "بضائع المستوطنات" و"المول" مفاهيم تدرج في آخر مفاهيم سلاح المقاومة، إذ أن هذه المقاطعة الفعالة ترفض كل ما ينتج عن هذه المستعمرة.

كما ان آلية المقاطعة تصل من مقاطعة الاستهلاك المادي إلى مقاطعة الاستهلاك الفكري، الأمر الذي يحمي الوعي الجمعي والبنية الثقافة لدى المستعمَر، إن وقوع المستعمَر ضحية الاستهلاك الفكري الصهيوني يجعل منه آداة لإعادة إنتاج مفاهيم استعماريّة، وإعادة إنتاج ركائز الاستعمار بما يتلاءم مع انهزامنا كفلسطينين مستعمَرين. فاللغة العبرية ليست مبرمجة في وعينا إلا من واقع "الهزيمة"، وكذلك الحال شكل البناء والعمار، وأمور أخرى لا أريد الخوض فيها لأنها تفتح باب آخر من النقاش، ببساطة الاستهلاك الفكري هو انبطاح علنيّ لأي فكرة تأتي من ثقافة الصهيونيّة.

وقد يرى البعض أن مقاطعة الصهاينة ليست مجدية على الصعيد المادي وأن العالم كله يدعم الاقتصاد الصهيونيّ في الأوقات الحرجة، هذا غير صحيح بتاتاً على صعيد السوق الداخلي للكيان الصهيوني، لكن الأساس في هذه المقاطعة هو أن ترفض شرعية الكيان كبداية، ثانياً أن لا تساهم في أن تكون أقرب وأكبر مستهلك لسوق الكيان الصهيوني الذي يعود ريع مبيعاته لقتل الفلسطيني وأسر روحه، وجسده، وطمس وجوده. كيف لك أن تقبل ذلك على نفسك؟! كيف تكون أنت الضحية المستعمَرة وتقبل على نفسك أن تكون المستهلك لسوق الاستعمار؟! كل الأصوات المهزومة التي لا ترى فائدة في مقاطعة الاستعمار ومنتجاته فتحت ممراً أمام مفهوم الاستعباد والقبول به في داخلها، هذه قمة "الاستحمار"، هذه ذروة الهزيمة:

- إن هذا الكيان القائم على ذكريات وتاريخ الفلسطينيين يكسب شرعيته بقبول المستعمَر بذلك، بقبولنا نحن كفلسطينيين ذلك، وإن كان الزمان لا ينصف المقهورين، إنصف نفسك أنت ولا تمنح الكيان الصهيوني أي فرصة في كسب شرعيّة حتى لو كانت معنوية.

- إن المقاطعة نقطة انطلاق تصل في المجتمع لحد النضج التام في ضميره الجمعي، وذلك من خلال إدراك مسألة أن هذه المقاطعة هي إلغاء وقطع لكل ما قد يمنح هذا الكيان شرعيته، وإبرازها كأولوية في الوعي الجمعي.

- إن كل البضائع الصهيونيّة من مواد غذائيّة أساسيّة واحتياجات منزليّة وأدوات بناء وحتى الدواء تستبدل بأي منتج آخر بعيد عن الكيان الصهيونيّ، وهذا أمر يتحقق إن أدرك الناس أن المقاطعة تعتبر من أبجديات الهويّة الفلسطينيّة.

- للمقاطعة أشكال كثيرة، كمقاطعة البضائع والطبائع والتصرفات، كلها تمنع دخول الهزيمة إلى الداخل الفلسطيني و"النفس" الفلسطينية.

- إن الضحية التي تقبل بوجود جلّادها، وتسلم له على أنه السيّد الجيّد الذي يمتلك مفاتيح لكل ما هو جيّد، هي ضحية مستحمرة لا مستعمرَة فقط، تقبل على نفسها حكم الجلّاد وتستهويه.
اليد التي لا تقاطع في المجتمعات الثورية الناضجة حلال قطعها!!