أن تتصل بالشرطة كي تنام!

بقلم: 

أحاول أن أكتب هذه الشكوى، فتعكر الذهن أغنية استهلاكية رديئة يداعب فيها المغني غرور المخاطَب بقوله: "إنت معلم!". تتوه الفكرة ويذهب المعنى إلى حيث ألقت.

وبدت الكتابة أناقة زائدة لعامل نظافة أو صرف صحي في صباح مليء بالقاذورات.

الكتابة لوحة تشكيلية باذخة في صدر بيت محدث نعمة يبيع الخردة بالأطنان.

الكتابة مناغاة طفل رضيع أمام صياح عامل محجر في الظهيرة.

الكتابة نوح حمامة وادعة على شباك حمداني، أمام دمامة كافور لا يدرك من الجمال إلا ثقب شفتيه وتشقق قدميه.

توقفت الأغنية الرديئة الآن.

منذ أسابيع، ونحن، سكان ضاحية الريحان شمال رام الله، نتصل بالشرطة ليليًّا كي ننام. نتصل بعد منتصف الليل لنقول لهم: تعالوا إلى الملاهي المجاورة، إلى هياكل الحديد المزعجة، تعالوا وأسكتوا تراطم المعدات ونشاز الغناء القبيح وصراخ الباحثين عن الخوف، الذي يحاصرنا حيثما ولينا وجوهنا.
نقول لرجل الشرطة المهذب على الرقم 100: لو سمحت، نريد أن ننام!

ويعود المغني الرديء، ليلوث الهواء.

تعود الكتابة ترفًا نمارسه، ظنًّا أننا نجاري الفعل أو نصارعه.

الكتابة كفّ أخلاق من حرير تصارع مخرز الفعل الرديء، فيبدو الجمال أمرًا زائدًا عن الحاجة، أمام رأس المال الذي يتوغل في كل معنى أنيق يطل وسط الخراب.

الكتابة فعل الضعفاء البؤساء الذين لا صوت لهم، ويظنون أنهم يغيرون الكون، أو يعيدون ترتيب أولوياته.

الكتابة سعي ناعم للجمال، يشوهه واقع لا يعترف بأي قيمة تتجاوز المصالح والمنافع.

خفت صوت الأغنية الآن.
***
ثمة من ينتصر لرأس المال على حساب المواطن، رغم كل الشعارات التي يتغنى بها الجميع حول أولوية المواطن دومًا.

ثمة من يحول القانون إلى لوحة جميلة نعلقها في الصالونات ونتحدث عنها في المؤتمرات وورشات العمل.

إن أسوأ المعارك تلك التي تخوضها مع طواحين الهواء، أو "قتام" قطيع أغنام. هذه معارك بلهاء، لا تصنع فرسانًا، ولا تسقط قلاعًا، إلا في وهم الأبطال ومخيال الروائيين. هذا جهد تلقيه في مهب الريح، بحثًا عن مثالية، بلا فائدة!

وها نحن، سكان الريحان والمناطق المحيطة، نضيع جهدًا وتعبًا وأعصابًا، ليليًّا، في طلب إنفاذ القانون، ويذهب جهدنا كالتي نقضت غزلها!

نحاول أن نقول لرجال القانون المحترمين: هاتوا لنا القانون ونفذوه، فقط، وعاقبوا من يخرقه مرارًا وتكرارًا. ونذكّركم بالقاعدة الأخلاقية والقانونية: مَن أمِن العقوبة، أساء الأدب.

ونحاول أن نقول إننا سعداء بكل مشروع يرسم بسمة أو يخرج ضحكة حقيقية، دون أن تكون على حساب الآخرين.
***
على هامش هذا الموضوع، أحب أن أشيد بالتخطيط المديني العبقري في الوطن. ثمة عقول عجيبة تخطط بهدوء لتشويه كل شيء، ولو بحسن نية، أليس الطريق إلى جهنم مفروشًا بالنوايا الحسنة؟!

هناك قصة تقف خلف تراخيص الأراضي وتغيير صفة استعمال من أراضٍ زراعية إلى أراضٍ سياحية، وأرجو من أحد الزملاء الصحافيين أن يلتقطها ويعمل عليها. كم أود أن أنجزها، لكنني أخشى تضارب المصالح، ولدي ما يشبه القناعة بوجود شيء وراء الأكمة! وهذا قد يفسد المصداقية، أو يوفر شبهة جاهزة.
حين تقررت إقامة مدينة الملاهي، قدم البعض طلبات اعتراض على إقامة هذا المشروع قرب ضاحية سكنية، إلا أنها رُفضت، والسبب: "المنطقة بحاجة إلى مشاريع كهذه!".

وللتذكير بجغرافية المنطقة مرة أخرى: أقيمت مدينة الملاهي في وسط هذه الأماكن تمامًا: ضاحية الريحان السكنية التي بلغت كلفتها قرابة مليار ونصف المليار دولار، وإسكان ريف للفلل السكنية الفاخرة، والمدرسة الأميركية، والجامعة الأمريكية للدراسات العليا. ومقابلها الحي الدبلوماسي، وغير بعيد حي الطيرة.

أما حكاية الصوت الذي يصدر عن هذه الهياكل الحديدية، فقصة أخرى، سنرويها بهدوء وفق الطرق القانونية، فما زلنا نؤمن أن القانون يجب أن يسود، ولو تلكأ البعض أحيانًا. كما أننا نؤمن، كمواطنين، أن سلاحنا القانون فقط، وما زال في الجعبة الكثير، لكن في الفم ماء.