صلة الماضي بالحاضر.. والتأرجح نحو المستقبل!
" الحاضر ليس هدفاً ... فالماضي والحاضر مجرد وسائل للوصول إلى المُستقبل (الهدف)"
هكذا قال الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال حول واقعه وصناعته كفرنسي لمستقبله، لكن في الواقع الفلسطيني يُمكننا الرد عليه بأن " الذكريات مفتاح المُستقبل ... لا مفتاح الماضي"، تلك الذكريات التي تُشكل جذورنا المُتأصلة في هذه الأرض، فليس هي وسائل قديمة قد عفا عنها الزمن، هي مُتجددة في فكرنا كتجدد الأمواج في البحر، فلا ماضينا يُنسى، ولا حاضرنا يُصنع دون ذلك الماضي، تلك الذكريات التي تناقلت لنا عبر اّبائنا واّجدادنا منذ سنوات طويلة وأوصونها بنقلها لأبنائنا، تلك الذكريات ليست ماضي مُجرد، هي مُفعمة بالحياة، بتفاصيل حياتنا اليومية، وبتلك المُقارنات التي لم تعد تخلو عقولنا منها يومياً، مقارنات الحاضر بالماضي أشبه بصناعة العديد من الروابط والوصلات لبناء جسر يُوصل الماضي بالحاضر لكي يُساعدنا للوصول إلى ذلك المُستقبل المنشود.
وفي ظل واقعنا الحالي الداخلي والخارجي، ننظر لكل ما يُقال عن ذلك الماضي والذي يُمكننا أن نختصره باّليات أصبحا طرحها أمراً اعتيادياً لدى الكثير، فذلك الماضي الذي يُريد كل من حولنا أن ننساه من تلك الذاكرة الجمعية المتواترة والمتناقلة لنا منذ سنوات طويلة، يحاولون اختصاره بكثير من الاّليات التي يطرحونها الاّخرون دون شعورهم بالألم لنتائجها المُستقبلية التي ستواجهها ذاكرتنا الجمعية، فمنهم يُحاول اختصاره بالترحيل أو ما يُسمى "الترانسفير"، ومنهم يُحاول بالتكيف الممزوج بالولاء لذلك المسُتعمر وفق الواقع المُصطنع حديثاً، ومنهم من يحاول بالتكتلات البانتوستاناتية "الكانتونات المُنفصلة" على تجربة جنوب أفريقيا القديمة التي تم القضاء عليها في مسقط رأسها، ومن من يُحاول بالاندماج في ذلك الاقليم المُحيط بنا، باعتبارنا وفق تفكير المُستعمر أننا ما زلنا جزء منهم، فكيف لمن يصمت عنا وقت الشدة، وكيف لمن بدأ بزرع المُصال في الرأي العام لشعوبهم ضدنا ان يدمجوننا لديهم، رغم رفضنا المُطلق لاليات الاختصار لنا التي تحدثت عنها للتو، فحجتهم ليس المحافظة علينا في أرضنا، ولكن هو تجزئتهم لذلك الاقليم المُختلف دوما فيما بينه، والاتجاه نحو الخلاص الفردي لا الجماعي، هُم اختصروا أن الحياة للاّخرين هو العيش والتكيف في أي مكان تُوفر فيه أساليب العيش المادية، فالفلسطيني أسلوب عيشه تاريخه، ونمط تنفسه انتمائه لذلك التاريخ، وحياته الكريمة هي أرضه الذي يُعززها ذلك التاريخ، ورفاهيته المنشودة هي جمال طبيعة تلك الأرض التي حدثنا عنها تاريخنا، تلك الأرض المُفعمة بزيتونها وببرتقالها وليمونها، والمسقية بدماء أبنائها، كيف لأ والدم هو ملح الأرض.
لعل الكثير ربما يصف هذا الحديث بالأمر المفروغ منه والغير واقعي تنفيذه في عالمنا الحالي بمتغيراته، وأن هناك واقع جديد يُقال له "الحل المقبول" أتفق تماماً أنه واقعٌ مُتفق عليه محلياً رسمياً فصائلياً وإقليمياً ودولياً، لكن ذلك الواقع قد يجعل مُستقبلنا يتأرجح بين حدودنا الجديدة الواقعية، وحدود عقولنا التاريخية التي ترَبت على تلك الخريطة بصورتها الكاملة، تلك المدن بتكاملهم الجميل، تلك الطبيعة باكتمالها المُتناسق، وذلك التاريخ الشفوي الذي انغرس في عقولنا من حكاوي اّباؤنا واّجدادونا، ولذلك الواقع التي تعيشه عائلاتنا في بقاع دول العالم مُتشتتين كمن لا مأوى لهم، وذلك أقاربنا وأنسابنا في داخل الحدود الاخرى التي رسمت بجوارنا لدولة لم تعد ديموقراطية وفق ما يُقال، ووفق الحل المقبول فهم أحرار بدولتهم التي أقرينا بها، فأقربنا وأنسابنا بها سيصبحون كاليتامى كمن تخًلى والديهما عنهم في وقت الشدة، فيتأرجح قرارنا بين أن نتخلى عنهم ام نعتبرهم جاليتنا هُناك، أم يصبحون من تلك الأمة التي تقسمت ولجأت للخلاص الفردي بحالها وصمتها الرهيب المُستمر.
وما بال ذلك الشق الاخر على ذلك البحر الأبيض المتوسط، ذلك الشق الذي انفصل عنا جغرافياً وديموغرافياً، أين سيذهبون بديموغرافيتهم المتصاعدة رغم كل ما يواجهونه؟
هذا الواقع أشبه بمصنعٍ كبير لديه كونتينرات عديدة مُنفصلة جغرافيا بينهم حواجز عديدة جعلتها مُنفصلة ديموغرافيا، تم قطع عنه كل ما يحتاجه ذلك المصنع من أجل تشغيل ماكيناته وطاقاته المُتعددة، فأصبحت مخترئة، فربما حال المصنع أفضل من واقعنا لأن إدارته واحدة، أما نحن فإدارتُنا اختلفت وانفصلت بنفسها وبجغرافيتها وديموغرافيتها!
فكيف لنا أن ننسى ذلك الماضي، ونعترف ونتكيف مع هذا الواقع، ونفكر ونشاهد ذلك المُستقبل، فجميعهم مكونات ذلك الجسر الفلسطيني؟