الاستثمار في الإنسان!

بقلم: 

عندما تخرجت من جامعة اليرموك عام 90 و عدت إلى القدس ، بدأت بالبحث عن فرصة عمل و كنت مصرا على البقاء في فلسطين و عدم الهجرة خارجها كما نصحني الكثير من رفاق الجامعة خاصة ان والدي كان يعمل في دولة الامارات ، لانني كنت مؤمنا انا و والدي رحمه الله أن الهدف من ذلك هو إعادة الزرع الذي بدأ يطرح ثمارة إلى الأرض التي نبت منها بعد ان قوي عوده و أصبح قادرا على العطاء ، وكان والدي رحمه الله قد زرع فينا فكرة أن كل من ينهي تعليمه الجامعي عليه أن يعود إلى أرض الوطن ليؤدي ما عليه و أنه علينا المشاركة في بناء الإنسان كي يستطيع الصمود أولا و من ثم مقاومة الاحتلال.

خلال هذه الفترة بدأت اتواصل مع الناس و أعيد العلاقات مع الجيران الذين انقطعت عنهم بسبب غياب سنوات الدراسة و خاصة أصدقاء والدي و زملاءه من باب صلة الرحم و الوفاء له .

خلال إحدى هذه الزيارات لأحد الجيران سألني ذلك العم الأمي الذي بالكاد ( يفك الخط ) و الذي أنشأ جميع أبناءه الذكور اميين مثله تماما ، سألني قائلا : هل تعلم أنني ولدت انا و أبوك في نفس الليلة ؟ قلت له أعلم ذلك و انا الان أقوم بزيارتك لأنك صديق والدي و رفيق الطفولة له ، قال : هل تعلم أن لدي عدة بنايات و أراضي لا اعرف عددها و أبنائي كلهم زوجتهم و يملك كل منهم بيته المستقل ؟ قلت هذا يسعدني يا عماه و اتمنى لهم المزيد من الرزق و التوفيق ، قال : و ماذا فعل والدك ؟ لا يملك سوى المنزل الذي بناه في السبعين و لم يضع عليه حجرا واحدا ، أما أنا فكما ترى مال و أراض و بنايات و سيارات ، قلت له : و لكنك لا تعلم يا عماه أن والدي يمتلك ستة ابراج بناها خلال غيابه عن البلد ، شده الرجل وقال : أين ؟ في عمان ؟ في الإمارات ؟ أين بنى هذه الابراج الستة ؟

أشرت إلى نفسي وقلت: هذه أحد الابراج يا عماه ، أمامك .. لقد علمني والدي و دفع لي أموالا لقاء تعليمي تعادل بناء برج من بناياتك و كذلك فعل مع أشقائي الثلاث و اختاي البنات فمنا المهندس و الطيار و الأستاذ و السياسي و المعلمة و منا حملة الماجستير و منا الضابط و منا رجل الأمن المتعلم الواعي المثقف ، و لو أراد أن يبقينا اميين كما فعلت انت مع أبنائك لاستطاع أن يبني ستة ابراج بالأموال التي دفعها ثمنا لتعليمنا، لكن هذا الكلام لا يمكنك أن تقدره انت لأنك لا تقدر العلم و لا التعليم و تظن أن بناء الحجر هو الأساس حتى لو كان ساكن هذا البناء لا يعرف كتابة اسمه.

اليوم وأنا لدي ثلاثة أبناء في الجامعات وأقوم بدوري كما فعل والدي رحمه الله اقول لكل ابناء شعبنا أن الاستثمار في الإنسان هو الأهم و هو الأساس و أن التجارة في الحجر و الشجر و المال لن تصنع منا شعبا مقاوما و لا شعبا مثقفا يعاند الاحتلال ..

لا يبدو في الأفق حل قريب لإنهاء الاحتلال و يبدو أننا سنفاوض و نقاوم عشرات السنين القادمة و ليس أمامنا إلا الاستثمار في تعليم أبنائنا و تهيئتهم لقادم الايام وإعادتهم إلى الوطن كي يساهموا في الرباط والثبات والمقاومة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.