النيوليبرالية وحركة العمارة في العالم العربي: مقاومة أم انصهار؟ مدينة رام الله نموذجاً

بقلم: 

يعتبر المكان\الحيز التحصيل الحاصل عن التفاعل بين الإنسان والبيئة المحيطة حوله، إذ أن المكان وتشكله ما هو إلا نتيجة حتمية لاحتياجات الإنسان الأساسية والتي تؤثر وتتأثر في بيئة الإنسان والجغرافيا المحيطة. ويختلف المكان مع اختلاف احتياجات المجتمع أيضاً، إذ أن الريف على سبيل المثال وتشكل الريف يأتي احتياجاً لمتطلبات المجتمع الريفي، والذي ما أن تتغير احتياجاته يعكس هذا التغير على شكل المكان ككل، فكلما دخلت عناصر "التمدن" على سبيل المثال للريف نجد أن أشكالاً جديدة وصوراً لامست المكان لم تكن موجودة في الصورة الكلاسيكية للمكان.

يظهر على صعيد المجتمع الفلسطيني ثلاث أمكنة متعلقة بالواقع السياسي الاجتماعي وبشكل مباشر، وهي المدينة والقرية (الريف) والمخيم، ويعتبر المخيم كمكان فضاء دخيل على المجتمع إذ أن المخيم كمكان هو محطة انتظار للفلسطيني الذي هجر من أرضه عنوة وقسراً، ولكن مع التغيرات الاجتماعية والديموغرافية حصل تغيرات على هذه الأماكن جميعها ومن ضمنها المخيم أيضاً مع العلم أنه محطة انتظار. لكن يبقى من أهم الأماكن التي تحولت وبشكل سريع فضاء "المدينة"، فالمدينة بعد أوسلو اختلفت بحكم دخول عناصر جديدة مع قدوم "السلطة الفلسطينية" التي أقامت عدداً من المؤسسات العامة الخدماتية والتي أحدثت نقلة نوعية في الانتقال من سوق العمل في الريف والداخل المحتل إلى هذه المؤسسات وبشكل كبير.

وصل الحال اليوم إلى تغيير مكاني واسع على صعيد المدينة، إذ أن حركة الإعمار والبنيان التي زادت نتيجة التسهيلات البنكية التي قدمتها سياسة فياض ساهمت وبشكل كبير في انتشار العمار في مناطق واسعة من المدن وبالتحديد مدينة رام الله التي تعتبر العاصمة السياسية والاقتصادية الحالية بحكم الظروف التي تخضع لها الضفة الغربية.

ويتميز نموذج "العمارة السكنية" بأنه نموذج جامع لعدد من العائلات التي تقطن داخل العمارة، وهذه العوائل لا تتشابه فيما بينها بحكم أن لكل عائلة قصة وجذور اجتماعية مختلفة، ولكن من الملفت للإنتباه أن هذا الجسد الواحد "العمارة السكنية" في داخله عدد من الأمكنة الصغيرة التي تتشكل وفقاً لما تحمل العائلة من جذور اجتماعية وثقافية، هذه الأمكنة تتشكل إما عن طريق التماهي مع أو بأن تأخذ الشكل المقاوم للمسار العام (المدينة) الذي فُرض على المدينة الأماكن الأكبر قليلاً "العمارة"، أي أنها إما ترفض وتقاوم ما المحيط العام وسياساته وإما تقبل به وترضخ له.

مع دخول النماذج الجديدة على المجتمع الفلسطيني، يتغير شكل البنيان الاجتماعي والمعماري، لكن يبقى نموذج "العمارة السكنية" هو النموذج الأكثر إثارة وغموضاً من بين النماذج الأخرى، إذ أن "العمارة السكنية" هي نموذج يحتضن عدة خلفيات اجتماعية في داخل الحيز السكني للعمارة، تبقى العمارة على شكل واحد على مدار السنوات، وهنا يمكن القول أن النمط الحالي للعمارة السكانية التي من المفترض أن تضم شريحة واسعة من الطبقة الوسطى يتم مقاومة طابعها السائد من خلال التغيير في المضمون داخل العمارة (الشقق السكنية).

سياسات السلطة الفلسطينية وحركة العمارة في فلسطين

تبنت السلطة الفلسطينية عدداً من السياسات "التنموية" التي تندرج تحت إطار النيوليبرالية وظهر ذلك جلياً في العام 2007م، وتصور المبادرات النيوليبرالية على أنها سياسات الأسواق الحرة التي تشجع المشروع الخاص وحرية المستهلك (تشومسكي، نعوم "الربح مقدماً على الشعب – النيوليبرالية والنظام العالمي". سوريا: منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب. 2011م، ص8 من مقدمة روبرت ماك تشيزني). و تختلف الحركة النيوليبرالية حتماً في أنحاء مختلفة من العالم، هناك درجة عالية من المحاسبة في أماكن محددة، مثل بريطانيا وألمانيا والدول الاسكندينافية وسواها، في المقابل هناك مناطق أخرى أقل محاسبة وشفافية، مثل الشرق الأوسط بشكل عام (داهر، رامي. "خطابات في النيوليبرالية والتفاوت في مشهد المدينة: رافعات وحفارات وحالة من التمدن الحضري"). وكما هو الحال في الشرق الأوسط وبالتحديد في الأردن ومصر ودول الخليج، دخلت هذه المنظومة للأراضي الفلسطينية المحتلة لتفرض سياسات جديدة، هذه السياسات لم تخرج عن إطار اعتماد المنح والمساعدات الخارجية، كما أن المشاريع التنموية التي تبنتها الحكومات المتوالية حتى سلام فياض، ما هي إلا شكل من أشكال التنمية الواهية للنظام الرأسمالي. شجع سلام فياض الاستثمار البسيط عن طريق زيادة الاستهلاك الفردي للأشخاص مقابل تراكم رأس المال لدى المستثمرين والذين راهنت عليهم الحكومة في دفع الضرائب وايجاد مصدر لدخل الخزينة الضريبية، واعتمد على ذلك بشكل مباشر وبالمقابل ساهم في عملية تسهيل إجراءات البنوك في الإقراض الأمر الذي دفع بعدد كبير من سكان الضفة الغربية في التركيز على الاستهلاك ونسيان العامل الاقتصادي الأهم وهو الإنتاج الصناعي التقليدي والزراعي (الصالحي، عبدالعزيز. " ثلاث معيقات داخلية في اقتصاد السلطة الوطنية الفلسطينية")

شجعت حكومة سلام فياض الاستثمار البسيط عن طريق زيادة الترفيه بواسطة المقاهي والمطاعم الفخمة وأعتمد على ذلك بشكل مباشر وبالمقابل ساهم في عملية تسهيل إجراءات البنوك في الإقراض الأمر الذي دفع بعدد كبير من سكان الضفة الغربية في التركيز على الاستهلاك ونسيان العامل الاقتصادي الأهم وهو الإنتاج، والأدهى من هذا وذاك هو ارتباط المواطن بالبنك، الأمر الذي يجعل من الشعب مكبلاً، ولا حول ولا قوة له في العمل الوطني والسياسي (المصدر السابق). ويوضح عدنان دعنا بشكل تفصيلي إذ يقول: "إن لهذه الحالة من المديونية الشخصية تداعيات اجتماعية كبيرة لأنها تشجع مذهب الفردية وتوجِّه الاهتمام بالشواغل الشخصية الخاصة، مما يدفع الناس على نحو منهجي للتخلي عن القضايا الوطنية الحاسمة. وهي تعزز اللامبالاة السياسية وتُضعِف التفكير الناقد والجهود المناهضة لطبيعة النظام القمعية." (دعنا، عدنان. "الرأسمالية الفلسطينية المتمادية"، موقع الشبكة – شبكة السياسات الفلسطينية، 14 يناير 2014م). تعكس هذا التحولات الكبيرة واقعاً اجتماعياً جديداً، يتمثل في استحضار نماذج لمدن يقطن فيها عدد من الشرائح الاجتماعية، وأحد أبرز هذه النماذج هي مدينة رام الله. إن إجمالي سكان محافظة رام الله والبيرة بلغ 262941 نسمة وفقاً لتعداد عام 2007م، ولتمركز المؤسسات الخدماتية في المدينة زادت حركة البناء المعماري السكانية للعائلات التي تأتي للعمل في رام الله من مختلف أنحاء الضفة الغربية وغزة أيضاً.

بالإضافة إلى أن نفوذ رؤوس الأموال في المؤسسة السياسية قد زاد بشكل كبير، وتبوأ رجال الأعمال والتكنوقراطيون الساعين لرأسم المال مناصبَ وزارية، وهذا أدى إلى تبعية مباشرة لرأسالمال الفلسطيني المُستثمر، يقول عدنان دعنا: " يستطيع الرأسماليون أن يضغطوا على السلطة الفلسطينية لكي تغير سياساتها بما يتفق ومصالح الشركات الخاصة الكبرى، حيث يهددون بسحب بعض الاستثمارات أو الامتناع عن الدخول في استثمارات أخرى، كما يبين علاء الترتير في دراسة صدرت مؤخرًا. وغني عن القول إن الشعب هو من يدفع الثمن، كما حصل حين رفعت السلطة الفلسطينية ضريبةَ الدخل وخفَّضت الإنفاق في مطلع 2012م". (دعنا، عدنان. "الرأسمالية الفلسطينية المتمادية"، موقع الشبكة – شبكة السياسات الفلسطينية، 14 يناير 2014م). بالتالي يحكم حركة العمارة في فلسطين مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين الذين يهيمنون اليوم على سياسات السلطة الفلسطينية، وذلك يأتي أيضاً في ظل غياب حركة معمارية فلسطينية حقيقية، وهذا وبالضرورة  يعكس واقعاً كارثياً على المواطنين بشكل أساسي، إذ يغيب التخطيط والاستجابة لمقدرة المواطن المادية. ذكر رامي داهر في حديثه حول المعمار والنيوليبرالية في الشرق الأوسط "كانت البلديات تدير المدن وتدبّرها في الستينيات والسبعينيات، بينما توجد اليوم هيئات جديدة –شركات- تظهر من العدم وتدير مدننا فعلاً وتملي كيفية حصول التغير العمراني، مثل “سوليدير” الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت في بيروت و”موارد” في عمّان و”أسيزا” في العقبة" (داهر، رامي. "خطابات في النيوليبرالية والتفاوت في مشهد المدينة: رافعات وحفارات وحالة من التمدن الحضري")، بالتالي لا يوجد حركة معمارية فلسطينية وتغيب.

داخل العمارة وخارجها والمسار السياسي الاجتماعي (المقاومة والتماهي مع الأنماط)

تعتبر حركة العمران والتمدن شكلان متميزان من النتاج الثقافي، بمعنى أنهما يعكسان بيانات العلاقات الاجتماعية -  الاقتصادية في المجتمعات وسلطاتها البنيانية. إن إنتاج المساحات المشغولة في مدينة ما هو انعكاس للتفاعل بين السائد المحلي والمهيمن عالمياً، وهذا مما ينتج صراعا لا ينتهي، يكون من شأنه تشكيل صورة المدينة العامة (العناني، يزيد. "أكاديميا، وجه المرآة". نشر في موقع Artterritories.)
و تتكون العمارة كلغة من مجموعة من الرموز يمتلك كل واحد منها معنى أو مجموعة من المعاني التي تستمد روحها وقيمها من الحضارة نفسها (الماجدي، باسم. "دور الملمس في الصفات الادراكية للفضائات الداخلية للعمارة". مجلة العلوم الهندسية و تكنولوجيا المعلومات: جامعة بغداد، 2006م، ص286.)، ولكن هذا المكان بالتحديد (العمارة السكنية) تحمل أكثر من دلالة ومعنى مع العلم أنها بشكلها الخارجي تبقى صامتة وترمز لدلالة ما، وتكون الدلالات المتعددة للعمارة السكنية في تعدد الأمكنة الصغيرة داخل هذه العمارة (الشقق) والتي تتشكل بعيداً عن العمارة التي تحتضن جميع الأمكنة الصغيرة في داخلها. وبالرغم من تجمع العائلات داخل العمارة واختيارهم للسكن فيها، إلا أنه لا يمكن أن تكون البيئة المكانية أليفة بالنسبة للمتلقي ما لم توفر مجموعة من المتطلبات والحاجات المتعلقة بسيكولوجية إدراكها عبر حملها لمعاني اقترانية ترتبط بصور ذهنية مفضلة قادرة على إثارة التفاعل الإيجابي بين المتلقي والنتاج مع ضرورة اتساقها ضمن خصوصية الحدث والخصوصيات الاجتماعية (المصدر السابق، ص287). ولعل إدوارد تي هول قد تحدث عن ذلك جلياً في كتابه "البعد الخفي"، إذ يقول في كتابه أن الإنسان يشكل الحيز الذي يتلائم مع ثقافته الاجتماعية وتاريخها، وكان تي هول يتحدث عنها عن دراسة أجراها عن العرب المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية (تي هول، إدوارد. "البعد الخفي"، ترجمة: لميس فؤاد اليحيى، مراجعة: محمود الزواوي. (الأردن: الأهلية للنشر والتوزيع) 2007م، ص5-7). هذا الأمر يعتبر تفاعل من نوع مقاوم لطبيعة الفضاء العام الذي يندرج تحته العرب في الولايات المتحدة، إذ يخلق العربي مسافة بينه وبين الأمريكي على مستوى المحادثة والاتصال ولكن لا تكون واضحة بشكل جلي. ولكن في تعميم حالات المقاومة للفضاء العام وبالتحديد فيما يتعلق بهذا المقال، علينا أن نفهم كيف يخلق الأفراد مكاناً خاصاً بهم في مربعهم الخاص كمحاولة في التحايل على العام، بمعنى أن يقاوم الأفراد الفضاء العام بتشكيلهم لفضاءهم الخاص. يتحدث جيمس سكوت عن مفهوم السياسة التحتية (Infrapolitics) للجماعات الخاضعة، والجماعات الخاضعة هي الجماعات التي تتم ممارسة السياسة العامة الكبرى عليهم في ظل منظومة حكم ما (الشعب)، ويقصد سكوت بمفهوم السياسة التحتية أنها تنويعة عريضة من أشكال المقاومة تحتية السمات، التي لا تجرؤ على إعلان ماهيتها بوضوح (سكوت، جيمس. "المقاومة بالحيلة – كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم"، ترجمة: إبراهيم العريس، تحقيق: مخايل خوري. (دار الساقي للطباعة والنشر) 1995م، ص36). نلاحظ من مفهوم سكوت حول السياسة التحتية أنها غير معلنة، وبطبيعة الحال تتم ممارسة هذه المقاومة التحتية في المكان الخاص أو الحيز الخاص الذي يتيح للأفراد العمل على مقاومة ما لا يريد أن ينصهر به.

اختفاء المفاهيم القديمة وظهور الجديدة

من الواضح إذن أن هذا النمط المعماري الذي فرض على الفلسطينيين لم يكن خيارً اجتماعياً أو شعبياً، كما ونلاحظ أن عمليات المقاومة الخفية الممارسة داخل المنازل واضحة كلما نزلنا لمستوى المايكرو في فهم واقع تشكيل المكان (الشقق)، وهذا من خلال التوجه نحو إيجاد زاوية بعيدة عن النمط العام داخل المنزل مثل حديقة منزلية خاصة التفاعلات الاجتماعية الحية داخل المنزل التي لا تمتاز بالفردانية في معظم الحالات، بينما تنصاع وتتماهى مع الحالة العامة في بعض الحالات وذلك لأن هناك تباين في الدخل والتاريخ الاجتماعي لكلاهما، ويستحضر كلا النمطين التاريخ الاجتماعي في داخل المكان. وتغيب العديد من المفاهيم القديمة وتختفي، ولعل من أهمها مفهوم "الحارة" في حركة الإعمار الجديدة بدأ بالاختفاء، ذلك لأن العملية السكنية التي يسكن بها الأفراد تحت سقف الإعمار النيوليبرالي تحرق مرحلة التطور الطبيعي للمكان ومحيطه. كما ونلاحظ أن هناك خصوصية عالية عند الأفراد بحكم أن البيوت غير مفتوحة على بعضها البعض، وبالرغم من ذلك يغيب الأمان ومفهوم الأمان، وهذا يتمثل بكاميرات المراقبة الموجودة في محيط العمائر الجديدة، وكاميرات المراقبة الموجودة في مصفات السيارات، وهذه الفكرة حديثية الطابع مستوحاة من وهم حماية النيوليبرالية للأفراد من خلال تقديم هذه السلع في السوق. كما أن الهوية البارزة داخل المنزل تختلف عن الهوية التي يحاول المقاوم للفضاء العام إظهارها عندما يعود للفضاء العام، في بعض الحالات تغيب الرموز الدينية مثلاً داخل الشقق السكنية لكن تظهر على أبوابها من الخارج وفي الشارع من خلال الرموز الموجودة على السيارة.