"حي التنك" الذي على باب "المول"

بقلم: 

على بال زمن..بقلم صالح مشارقة

لم أكن أتصور أن محمد صغير العائلة سيكبر ويترك عالم الشكولاتة والشيبس والصلاة الدائمة في الجامع، ليذهب إلى عالم جيفارا والاقتصاد الماركسي والمسرح الشعبي مرة واحدة، ويوم الخميس الماضي كان محمد مع عشرة من أبناء فرقة مسرحية، يملؤون مسرح الإغاثة في رام الله بالدهشات والمفاجآت العميقة التي صفعت عقل الجمهور في توقعاته.

"حي التنك" مسرحية من إخراج المسرحي القدير فتحي عبد الرحمن، فاجأتني شخصياً في تطورها عن نص مسؤول يوثق هزائمنا السلوكية في هذه المرحلة، ويكشف بطولاتنا التي بنيناها بلهفةٍ تحت سياط الاحتلال، ولكنها لا تمضي بعيداً في الأسطرة بل تنكشف في نميمة منظفة حمامات إحدى مدارس الوكالة، وتصير فكراً سياسياً عادياً، ليس كذلك الموجود في الكتب العليا، بل ليوميات بائع سجائر طويل ونمام يقود الثورة.

ارتبطت صناعة "اليوتوبيا" في الحبكات والذروات الدرامية بالوصول إلى نموذج مدينة نظيفة وسعيدة وراقية، لكن "يوتوبيا" حي التنك التي في نهاية المسرحية، أنتجت حياً بائساً لكنه أشد جدارة بالحياة من مدن لامعة. هنا إضافة فتحي وأولاده وبناته، تحويل مدن الصفيح وأحياء الفقر إلى مدرجات صعود القيم الحقيقية التي تصنع البشر حتى لو كانوا تحت أصعب أنواع القسر والاحتلال والمراحل المشوهة.

شكرا أيها الفن بين العلوم جميعها وأنت الوحيد القادر على التحليل والبناء، تحليل العقد وفكها وبناء المعنى الحقيقي
هذا ما حدث في مسرح فتحي عبد الرحمن الهادئ البعيد عن شوشرات الحياة الثقافية في سنوات فلسطين الأخيرة، خرجت هذه المسرحية بكل هدوء كاشفةً عورات عشرين عاماً من الاجتماع والافتراق، فـ"أبو حديد" الأسير المحرر وصل بالصدفة إلى نموذج بطولة ضمن اشتباه في قتل الرجل المتحرش في الحي، وعريف الشرطة "مستر دانس" حارس بوابات السلطة هو نفسه المتضامن مع أحلام بائع السجائر المعارض، وشريفة منظفة الحمامات الفاجرة صوتاً وسلوكاً أصدق من شاعرات البلاط أو مفكرات الأكاديميا أو حتى أميرات الميك أب الشفافات، وفتان بائع السجائر الطويل والأهبل مدمن النمائم وزوج أكثر نساء الحي ثرثرةً، هو من يفك عقد النهايات لأبطال المسرحية الذين شوهتهم المراحل.

ورغم كآبة معمل الفك والتركيب داخل المسرحية وجمالية الخروج من العقد إلا أن جمالاً إضافياً رأيته بعد أن غادرت المسرحية الناقدة والمعارضة جداً، تمثل هذا في قدرة البلد على تحمل النقد الجاد والبناء والخائف على مصير حتى خصومه في السياسة والفكر، فوكالة "وفا الوكالة الرسمية للسلطة الوطنية هي وسيلة الإعلام التي سبقت الكل في تغطية هذه المسرحية الكاشفة، وفي الحياة الجديدة جريدة الدولة كما يقولون سعدت وانأ أرى خليل أصغر المحررين يحرر الخبر لنشره، وعلى الهاتف اعتذر وزير الثقافة بسبب انشغالاته وأبدى رغبة عالية في حضور العمل، … قلت في نفسي: رام الله تقدم نموذجها وهذه المرحلة بكل انكساراتها، فيها نفس بنائين شجعان من كل الحقول، وفيها تسامح حتماً سيبني ويعمر معان لا عماد لها على رأي الشاعر".

وفي العائلة، عائلتي التي تنتج من جيلين سابقين على الأقل نماذج صعبة في "حماية المشروع الوطني" فثمة فرحة شديدة بالولد العاق محمد، ويتملص الجميع الآن قرب خشبة المسرح لأخذ صورة مع المتمرد على مزايا وزوايا العائلة اليمينية المحافظة.

شكرا "محمد الصغير مشارقة" المهندس والمسرحي معاً، وستجلس بعد هذا السلوك المعارض في أفضل كرسي بين أفراد أحفاد والدي بلا أية خيباتٍ من جماعة اليمين الوطني التي تعشعش في جينات العائلة.
 

-مقال خاص بزمن برس