خيارات العرب: هل إستبدل "النموذج" التركي بــ "الدور" الإيراني؟

بقلم: 

بحلول العام 2003، بدت تركيا رصيداً قيماً للاستثمار فيه من قبل القوى العالمية، كفاعل رائد في منطقة وُصفت من قبل الغرب بمناعتها وبطئها في التحول الديمقراطي. ولكن بقدوم الربيع العربي، تغيرت الأمور كثيراً، وبدأ الدور الذي رسمته هذه القوى لتركيا في التغير، بل والتراجع بشكل غير مخطط له، وخاصة بصعود قوة إقليمية جديدة إسمها: إيران.

سعت الولايات المتحدة إلى تدعيم فكرتها الجديدة للشرق الأوسط بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي وسقوط النظام البعثي في العراق، وأسمت فكرتها الجديدة "مبادرة الشراكة الشرق أوسطية"، والتي أصبحت تعرف بعدها بإسم "مبادرة الشرق الأوسط الكبير (GMEI)". لم تتوقف جهود الولايات المتحدة عند هذه المبادرة، بل قامت بصياغة مشروع آخر أطلقت عليه "الشرق الأوسط الجديد". الهدف المعلن من هذه المبادرات هو تشجيع الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة بهدف لتحسين صورة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة بعد أن تلطخت كثيراً عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان واحتلال العراق كردٍ على  هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

إذاً، إيجاد نموذج جديد يمكن أن يكون مقبولا لدى العرب ويبعد عن الصورة النمطية للأنظمة  العربية التقليدية التي لطالما وُصمت بتبعيتها للغرب أصبح أمراً لا بد منه. واكتسبت هذه الفكرة المزيد من الزخم بعد وصول حزب العدالة والتنمية (AKP) إلى السلطة مع الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2002، وأضحى المشروع الجديد لدمقرطة الشرق الأوسط خياراً قابلاً للتطبيق.

بصعود حزب العدالة والتنمية أصبحت الإجابة على جميع التساؤلات متمثلة بما يسمى "الإسلام المعتدل"، فتحولت البوصلة في هذا الاتجاه وراج مصطلح "الإسلام المعتدل" بشكل غير مسبوق بالتوازي مع تواتر الحديث عن مفهوم حديث إسمه "النموذج التركي".

فبعد أن أقرّت الولايات المتحدة الأمريكية بمكانة تركيا الجيوسياسية وإمكانياتها الجيوإستراتيجية، وخاصة مع أهمية موقعها بين الشرق والغرب، وإعتبارها حليف للغرب لعقود من الزمان، إضافة لتجربتها الديمقراطية والمختلفة عن باقي دول المنطقة، وظهورها كأمة إسلامية يقودها حزب له جذور إسلامية وتعيش في نظام دولة علماني يجمع بين القيم الإسلامية والغربية بنجاح، أصبحت تركيا العنصر الرئيس في هذه المنظومة الجديدة، واعتبرت تركيا بزعامة حزب العدالة والتنمية نموذجاً للــ"لإسلام المعتدل". وتشكل هذه المعطيات جوهر ما يعرف باسم النموذج التركي، الذي إرتبط بوصول وصعود حزب العدالة والتنمية الحاكم.

شاع الحديث عن النموذج التركي في العالم العربي، عبر وسائل الإعلام والمنابر الأكاديمية، وأصبح جزءا من المناقشات اليومية في حياة العرب، وإنطلق المنتدى العربي التركي والحوار العربي التركي الذي يجمع الدول العربية أجمع من جهة، وتركيا من جهة أخرى، وبدأ المفكرون والمثقفون العرب بدعوة حكامهم وأنظمتهم لمحاكاة هذا النموذج "الناجح". ولقد ساعدت العديد من الأسباب على بروز وازدهار هذا النموذج في المجتمعات العربية.

فبالإضافة إلى جهود الولايات المتحدة الأمريكية الترويج لتركيا كممثل مقبول "للإسلام المعتدل الديمقراطي"، ساعدت الخلفية الإسلامية للنخبة الحاكمة في تركيا، والنجاح الاقتصادي الذي حققته تركيا تحت حكمهم، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع الشرق والغرب، وبالتوازي مع قوتها العسكرية وعضويتها في حلف شمال الاطلسي، جميعها في آن واحد، وضعت النموذج التركي على المسار الصحيح. ولأن الإستثمار في تركيا هدف بعيد الأمد، تم التغاضي عن تصريحات، وفي بعض الأحيان قرارات تركية، تبدو في ظاهرها معارضة للتوجهات الأمريكية، وتوسم السياسة التركية بوسم مستقل، إلا أنها في نهاية المطاف تصب في خدمة الهدف الأسمى وهو تدعيم ركائز النموذج التركي كبديل مقبول عن أنظمة عربية أدينت من قبل شعوبها بالولاء والتبعية. 

غير أن الثورات لا تقرع الأبواب، فهي تأتي دون دعوة أو ترتيب، تتسلل إلى الديار وتحرف مجرى الخطط وتغير على المخططات دون سابق إنذار. فمع إندلاع ثورات العرب، إستبدلت البيئة المعروفة بثبات وإستقرار أنظمتها إلى منطقة متغيرة متقلبة، وبعد أن كان صانع القرار الأجنبي (والتركي) يرسم الخطط الإستراتيجية بكل يسر تجاه متغير ساكن، أصبح من الصعب التنبؤ بسير أحداثها. عدلت تركيا سياستها الخارجية في المنطقة العربية بشكل سريع، ظناً منها بأن هذه التغيرات ستصب في مصلحتها، إلا أن واقع الأمر كان غير ذلك، فبعد أن كانت تدير سياستها كعنصر من الخارج- مما أعطاها قدر كبير من الثقة والإحترام - أضحت جزءاً من المنطقة وإضطراباتها، وبعد أن كانت طرفاً ثالثاً مقبولاً للتوسط بين الأنظمة العربية المتخاصمة، أضحت طرفاً لا يُجمع على دوره أكثر الناس.
في الحقيقة، إعتقد الكثير في بداية الأحداث بأن هذه المتغيرات فرصة تاريخية تصب في مصلحة تركيا ونفوذها ودورها في المنطقة، غير أن الأمور باتت معقدة وأضحت شعبية تركيا في تراجع مستمر عام بعد عام. ففي إستطلاعات للرأي العام العربي منذ عام 2011 وحتى الآن، تبدلت حماسة العرب حيال تركيا ودورها في المنطقة إلى فتور، ومع مرور كل عام تحول الفتور إلى شك إلى أن وصل لحد النفور. ولم يكن الحال على المستوى الرسمي أفضل حالاً، فبدأت علاقات تركياً أيضاً في التراجع، على المستويات الثنائية مع الأنظمة العربية وحتى على المستويات المتعددة كالجامعة العربية، وأبرز مثال على هذا التراجع هو تجميد عمل المنتدى والحوار العربي التركي.

في ذات الوقت، بدت حظوظ إيران في التصاعد، تتحرك ببطء ولكن في ثبات نحو دور ومكانة غير عادية في المنطقة. الحقيقة المؤكدة هي أن إيران إستطاعت أن تنهض، وبتوقيع الإتفالق النووي 5+1، أنهت إيران عزلة دامت لعقود، مع توقعات بأن يستعيد الإقتصاد الإيراني عافيته سريعاً. صحيح أن إيران لم تتوقف يوماً عن محاولة تدعيم مكانتها ودورها، إلا أن الإتفاق النووي أعتبر علامة فارقة وحجر زاوية رئيس نحو هذه الغاية.

فقبيل الإتفاق النووي، وظفت إيران العديد من الأدوات المتنوعة للتخلص من تبعات العزلة وآثار العقوبات، وبناء شراكات إستراتيجية وشبكة حلفاء في العالمين العربي والإسلامي وحتى أبعد من ذلك. والقوة الناعمة كانت أحد أنجع هذه الأدوات، من خلال وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، والمساعدات الإنسانية والإقتصادية إضافة للعلاقات الثقافية والدينية. كما إستخدمت إيران التجارة والإستثمار لتخترق المنطقة أكثر وتتوغل فيها بشكل أعمق. شركة خودرو- المملوكة من قبل الدولة الإيرانية- هي مثال بارز، فهذه الشركة تعتبر أكبر شركة لصنع المركبات في الشرق الأوسط، وقامت بتصدير ما يزيد عن المليون مركبة في عام 2007.

وقعت إيران مؤخراً إتفاقيات مع أفغانستان وطاجيكستان لبناء خطوط سكك حديد وطاقة تربطها بجمهوريات وسط آسيا، إضافة للصين وروسيا. أما عسكرياً وسياسياً، فظهر التعاون بين روسيا وإيران في أوجه وخاصة في سوريا، فبالإضافة للمكاسب الإستراتيجية التي تحققها إيران في المنطقة من وراء هذا التعاون، تتطلع إيران لدعم موسكو لها في العديد من المجالات الأخرى.

أحد أبرز هذه المجالات هو دعم التوجهات الإيرانية للإنضمام لمنظمة تعاون شنغهاي (SCO) كعضو كامل بعد أن قُبلت سابقاً كعضو مراقب. العضوية الكاملة لإيران في منظمة كهذه تضمن لها مزيداً من الدعم الإستراتيجي وتعاون أوسع وخاصة مع روسيا والصين مما يزيد من حظوظها كقوة إقليمية صاعدة.
في عودة للدور الإيراني في المنطقة، يمكن الحديث عن وجود واضح لتأثيرها في المنطقة من خلال شبكة من الحلفاء تتوسع وتضم المزيد من الأعضاء يوماً بعد يوم. ثبات ومن ثم تمدد شبكة الحلفاء هذه تعتمد على ركيزيتين رئيسيتين لقوة إيران الناعمة: تصدير القيم الثورية وتوسيع إرتباطات الأخوة الشيعية.

وكانت نجاعة سياسة إيران الناعمة تكمن في مهارتها للترويج لنفسها كمرفأ وعنوان لجميع الثوريين الذين يأملون في محاربة الإمبريالية الأجنبية، وكانت النتيجة المنطقية تدشين ما أطلق عليه "محور المقاومة" ليواجه في المقابل أعوان الإمبريالية- وفقاً لإيران- أو ما يسمى "محور الإعتدال" الذي يضم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية والغرب في المنطقة.

أما فيما يخص الركيزة الثانية، فإرتباطات إيران مع المجتمعات الشيعية في المنطقة العربية وخارجها علامة نجاح فارقة وإنعكاس لقدرتها في الترويج لروابط الأخوة العقائدية. اضطراد أعداد زوار إيران خير دليل على هذا التوجه، فوصل عدد من زاروا إيران في عام 2013 ما يزيد عن أربعة ملايين "سائح"، معظمهم لأسباب "سياحة" دينية، إضافة لعدد أقل من سياحة العلاج، والبقية القليلة الباقية سياحة عادية.

لم يقتصر التوسع في شبكة علاقاتها وحلفائها على الأنظمة والدول مثل سوريا والعراق، بل شملت فاعليين غير دوليين ومجموعات مثل حزب الله في لبنان، حماس والجهاد في فلسطين، وأخيراً الحوثيين في اليمن. وكانت القيادة الإيرانية من البرغماتية لتوسع شبكة علاقاتها خارج حدود المنطقة العربية مع دول تختلف عقائدياً وفكرياً معها تماماً مثل الصين، وروسيا، والهند، ونيكاراجوا، والجزائر، والبرازيل، فوقعت عشرات إتفاقيات التعاون في مختلف المجالات وخاصة تلك التي تتعلق بالطاقة والهيدروكاربون، والتجارة والموصلات.

في الختام، يمكن القول أنه ودون إغفال دور الدول الكبرى، فإن ثبات السياسة الخارجية ومواكبتها للتغيرات الإقليمية بهدوء كان سبباً رئيساً في أفول النموذج التركي وصعود الدور الإيراني، أما وإن كان الإتفاق النووي الإيراني قد عزز من حظوظ إيران في المنطقة، فهو يطرح جدلية ثالثة: إن إرتضى العرب- برغبتهم أو دونها- بدور القوى العالمية الكبرى في منطقتهم، فإنهم تنازلوا أيضاً عن فرصة الريادة الإقليمية حتى، وإقتصر دورهم على ردة فعل في مواجهة أو موكابة نموذج أو دور، وعليه فلا يمكن لوم هذا النظام أو ذاك بتغريده خارج السرب، لأن تغريد العرب مؤخراً أصبح أكثره رد فعل... أثره قصير وسرعان ما يزول. نعم، شاخت الأطفال وتجعدت الجباه، ومازل أكثرنا يرمي بلومه على خبث الآخرين، يشكو مرارة عيشه على قسوة الزمان، فتارة نقول هي أمريكا، وتارة نلوم روسيا، وأخيراً لا نرى بأنها سوى مؤامرة من تركيا وإيران، ولكن أما آن الأوان ليكون قرار وحدتنا في الحسبان؟