هل يمكن تعليق التنسيق الأمني مع إسرائيل؟

 

هل يمكن تعليق التنسيق الأمني مع إسرائيل؟
 

 

 

إعداد

هاني المصري
 

 

 

ورقة مقدمة إلى مؤتمر
"التوجهات الفلسطينية لتغيير الوضع الراهن"

الذي نظّمه

المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية

 

شباط 2016

المحتويات

ملخص تنفيذي

3

مقدمة

9

التنسيق الأمني مكون رئيسي من "اتفاق أوسلو"

11

خارطة الطريق ... التزام فلسطيني أحادي الجانب

16

البحث عن مسار جديد

19

عواقب وقف التنسيق الأمني

22

بقاء السلطة جيد بالنسبة لإسرائيل

24

السيناريوهات المُحتملة في حال وقف التنسيق الأمني

27

-          السيناريو الأول: فك السلطة وإعادة تركيبها

27

-          السيناريو الثاني: انهيار السلطة

29

-          السيناريو الثالث: حل السلطة

30

-          السيناريو الرابع: الدولة الفلسطينية

31

التوصيات

32

 

 

 

 

 

 

ملخص تنفيذي

من المفيد في البداية الإشارة إلى التفريق ما بين التنسيق الأمني الذي يتعلق بتبادل المعلومات فيما يخصّ عمليات المقاومة العسكرية التي تستهدف الاحتلال، والتنسيق المدني الذي يتعلق بتسيير حياة الناس في مختلف الميادين، وتتعلق بتأمين حرية مرور الأفراد والبضائع ذهابًا وإيابًا، ومكافحة الجرائم والأمراض والأوبئة وغيرها.

كما من المفيد توضيح أن التنسيق الأمني موجود ضمن التزامات "اتفاق أوسلو" كما هو موجود في قطاع غزة بشكل غير مباشر من خلال الهدن التي يتم الاتفاق عليها منذ العام 2003 وحتى الآن.

المعضلة الكبرى ليست في وجود التنسيق الأمني من عدمه، بل في أي سياق يتم، وهل يخدم المصالح والأهداف الفلسطينية أم الإسرائيلية، أم مصالح الطرفين؟ الحقيقة الواضحة وضوح الشمس أن التنسيق الأمني يخدم الاحتلال وأضرّ بالفلسطينيين، وتحديدًا منذ اتضاح أن العملية السياسية خداع، ولا تقود إلى إنهاء الاحتلال وإنما إلى تعميقه.

قبل قيام السلطة، كانت سلطات الاحتلال مسؤولة عن جميع المسائل الأمنية والمدنية "من دون شريك فلسطيني"، وهي ستقوم بها إذا رفض الشريك تنفيذ التزاماته ردًا على تخلي الحكومات الإسرائيلية عن التزاماتها في "اتفاق أوسلو". وبالتالي، فإن وقف السلطة لالتزاماتها الأمنية لا يعني وقفًا مماثلًا للتعاون المدني إلا إذا قررت سلطات الاحتلال القيام بهذا العمل وحدها، وهذا مستبعد، لأن من مصلحة إسرائيل وجود وكيل فلسطيني يتحمل المسؤولية، ويمنع السير نحو دولة واحدة.

ما يمكن إن يحصل إذا نفّذت القيادة الفلسطينية قرارات المجلس المركزي، وخصوصًا وقف التنسيق الأمني، هو أن إسرائيل ستفرض عقوبات متدرجة لإعادة السلطة لتنفيذ التزاماتها، وإذا رفضت، قد تصل الأمور إلى حد حل السلطة أو انهيارها. وفي هذه الحالة، ستحاول إسرائيل أن تقيم سلطة أو سلطات جديدة مطواعة أكثر من السلطة الحاليّة.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تريد السلطة تنفيذ القرارات التي اتخذها المجلس المركزي تحت وطأة ضغوط سياسية وشعبية فلسطينية، وتحاول القيادة أن تستخدمها بشكل تكتيكي للضغط على الحكومة الإسرائيلية حتى تستجيب لمتطلبات إحياء ما تسمى "عملية سلام" أدخلتها إسرائيل منذ فترة طويلة في موت سريري. وإذا أرادت القيادة تنفيذ قرارات المجلس المركزي هل تستطيع تحمل عواقب ذلك، وهل البنية التي خلقت منذ توقيع "اتفاق أوسلو" يمكن أن تسمح بذلك، وهل هناك بدائل جاهزة أو يمكن أن تكون جاهزة إذا سارت في هذا الطريق؟

الجواب عن هذه الأسئلة بالنفي طبعًا، ولكن هذا لا يعني ضرورة استمرار الوضع على ما هو عليه، وإنما يقتضي رؤية جديدة وعملية كاملة للتخلص منه.

إن التنسيق الأمني نتيجة طبيعية لاتفاق أوسلو الذي تضمن ثلاثة مكونات رئيسية (سياسية واقتصادية وأمنية) شكلت أساس وجوهر وجود السلطة، التي هي كيان سياسي وقانوني، يقوم من حيث الجوهر بلعب دور عنوان مستقل يتحمل المسؤولية عن السكان (الفلسطينيين) بدلًا من الاحتلال، وبالتالي لا يمكن إعادة النظر في التنسيق الأمني بمعزل عن الموقف من اتفاق أوسلو والالتزامات المترتبة عليه.

إن أي إجراء فلسطيني أحادي الجانب بوقف أو تعليق أو تجميد أو تخفيف التنسيق الأمني أو أي التزام آخر ستكون له أثمان وعواقب تتعلق أساسًا بردة فعل من الحكومة الإسرائيلية التي سيكون لها رد فعل طبيعي يتناسب أو يزيد مع حجم الفعل الفلسطيني، وإذا كان الإجراء الفلسطيني وقفًا كاملًا للتنسيق الأمني فهذا شيء، وإذا ترافق مع تبني المقاومة والمقاطعة بشكل جدي، فهذا شيء آخر. وفي هذه الحالة يمكن أن يصل العقاب الإسرائيلي إلى وقف تحويل العائدات الجمركية والتسهيلات التي تقدم للسلطة وكبار المسؤولين فيها من جهة، والتضييق على حياة المواطنين من جهة أخرى. وهذا يمكن أن يؤدي إلى إضعاف السلطة، وربما في النهاية إلى انهيارها أو حلها من إسرائيل، مع أن بقاء السلطة أو رحيلها ليس قرارًا إسرائيليًا فقط، وإنما قرار دولي تؤثر فيه مجموعة من الدول والاعتبارات العربية والإقليمية والدولية، وهذا أمر تأخذه إسرائيل بالحسبان.

سيترافق وقف التنسيق الأمني – على الأغلب - مع إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، وتغييرها من علاقة مع شريك سلام إلى علاقة مع عدو، وبالتالي من الطبيعي والمتوقع أن يترافق مع قرارات فلسطينية تمس الاتفاقات والعلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، وصولًا إلى الالتزامات السياسية، فلا معنى لاستمرار الاعتراف الفلسطيني بحق إسرائيل في الوجود في ظل تنكر إسرائيل لكل الاتفاقيات وعدم اعترافها بأي حق من الحقوق الفلسطينية. لذلك "لوحت" القيادة بسحب أو تجميد الاعتراف، وربط استمراره باعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية.

تأسيسًا على ما سبق، سينشأ سياق جديد يؤدي إلى حل السلطة أو انهيارها أو تغيير وظائفها. فلا يمكن أن تقبل إسرائيل ببقاء السلطة من دون وفائها بالتزاماتها، خصوصًا التنسيق الأمني الذي يعتبر عنصرًا مهمًا في هذه الالتزامات، كونه يساعد إسرائيل على إحباط 20% من عمليات المقاومة الفلسطينية التي يتم التخطيط لتنفيذها كما صرح يعالون، وأضاف بأن السلطة ستندثر إذا أوقفت التنسيق الأمني، لأن إسرائيل تبذل جهودًا بنسبة 80% لمنع "سيطرة" "حماس" على الضفة الغربية.

من الصعب على السلطة أن تُقدِم على تنفيذ قرارات المجلس المركزي، لا سيما وقف التنسيق الأمني، من دون توفر قناعة ببلورة خيار مختلف جوهريًا عن خيار المفاوضات، ومن دون بناء بدائل نظرًا للثمن الباهظ الذي ستدفعه جرّاء ذلك، كون السلطة معتمدة إلى حد كبير على العائدات الجمركية التي تجمعها إسرائيل وعلى مساعدات الدول المانحة، وترتهن للاحتلال بحكم تحكمه بالسيادة وفي كل شيء تقريبًا، إذ لن تقوى السلطة على دفع الرواتب، ومنع قيام قوى وأطراف أخرى على ملء الفراغ، لأن المنظمة لا تستطيع أن تكون البديل، بحكم أنها مهمشة ومركز دوائرها وقيادتها واقع تحت الاحتلال شأنها شأن السلطة، إضافة إلى الدور السلبي الذي لعبه الانقسام وما أدى إليه من استنزاف للطاقات الفلسطينية في صراع داخلي، وفي ظل الأوضاع العربية التي لا تساعد إطلاقًا على توفير الحاضنة المالية والسياسية.

إن انهيار السلطة أو حلها بمبادرة من القيادة الفلسطينية أو إسرائيل أو كليهما في غمار مواجهة، أو نتيجة حدوث تطورات تؤدي إلى ذلك من دون اختيارهما، إذا لم ينجم عن ذلك تدخل دولي مستبعدٌ حاليًا في ظل المعطيات الراهنة، وستحرص الأطراف المعنية بوجود السلطة على إعادة تشكيلها من جديد، خصوصًا أن إسرائيل لا تريد أن تتحمل المسؤولية مباشرة عن الفلسطينيين، وتريد الانفصال عنهم، ولا تستطيع طردهم (حتى الآن على الأقل)، ولا تريد ضمهم إلى إسرائيل ومواجهة خطر الدولة الواحدة ثنائية القومية.

في كل الحالات، سواء انهارت السلطة أو حُلت في الضفة الغربية، فإنه من المرجح استمرار السلطة في غزة، كون إسرائيل تحقق فوائد جمة من انفصالها عن قطاع غزة، ومن استمرار الانقسام الفلسطيني الناجم عن ذلك. كما أن إعادة احتلال غزة ليس نزهة بعد تراكم أسباب المقاومة وخبرة نتائج العدوانات الإسرائيلية السابقة، التي أثبتت أن أي إعادة احتلال إسرائيلي لقطاع غزة ستكون مكلفة جدًا.

المخرج من الواقع الذي انتهينا إليه بعد توقيع "اتفاق أوسلو" اعتماد مسار جديد، من خلال بلورة إستراتيجية سياسية ونضالية مختلفة عن الإستراتيجيات المعتمدة حتى الآن، تؤدي إلى إطلاق عملية جديدة تراكمية بطيئة تنطلق من الأمر الواقع السيئ جدًا، وتهدف إلى تغييره إلى ما نريد عبر التخلص من "اتفاق أوسلو" بقيوده الغليظة، السياسية والاقتصادية والأمنية، ومما سميّت "عملية سلام"، من خلال وضع رؤية شاملة وخطة عمل كاملة هدفها النهائي إنجاز الحقوق التاريخية وحل جذري للقضية الفلسطينية، وهدفها الراهن إنجاز كل ما هو ممكن في كل مرحلة وصولًا إلى الحل التاريخي، وما يقتضيه ذلك من فتح كل الخيارات واعتماد خيار في الوقت المناسب، والانتقال إلى آخر إذا اقتضا الأمر، والجمع بينها، أي التحلي بالمرونة والاستعداد للانتقال من خيار إلى آخر وفقًا للتطورات والظروف.

على الرغم من أهمية وقف التنسيق الأمني وأن يتم ذلك بأسرع وقت ممكن إلا أن وقفه مستبعد للأسباب الآتية:

1.  إن القرار بوقف التنسيق الأمني اتخذ نتيجة ضغوط سياسية وشعبية، وما يعتبر"مزايدات"، وليس نتيجة قناعة بضرورة وقفه.

2.  تبلور واقع جديد بعد حوالي 23 عامًا على توقيع "اتفاق أوسلو"، عبّر عن نفسه ببنية اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية جديدة، أوجدت أفرادًا وشرائح واسعة نسبيًا داخل السلطة وخارجها، مستفيدة من استمرار أوسلو.

3.  الخشية من عواقب وقف التنسيق الأمني لجهة فرض مقاطعة وعقوبات إسرائيلية وأميركية، وربما أوروبية ودولية، الأمر الذي قد يعرض السلطة إلى الانهيار، أو تغيير المسار، وهذا وذاك غير مرغوبين من قيادتها.

4.  تأثير الانقسام جرّاء وجود جماعات أصبح من مصلحتها استمرار الانقسام، ولجهة الخشية من استفادة "حماس" أو "فتح" من وقف التنسيق الأمني لتحقيق أغراضهما الفئوية.

5.  عدم وجود البديل وعدم توفر القناعة بضرورة وجود بديل، وبالتالي عدم الشروع في بنائه للحد من عواقب وقف التنسيق الأمني.

6.  المنظمة لا تقدم البديل لأنها مهمشة وواقعة شأنها شأن السلطة تحت الاحتلال لوجود جل قيادتها ودوائرها في الضفة الغربية المحتلة.

7.  الخشية من ردات الفعل العربية على وقف التنسيق الأمني، خصوصًا من الدول التي تقيم علاقات ومعاهدات سلام مع إسرائيل، ومن الدول التي تعتقد بأنها يمكن أن تتحالف مع إسرائيل ضد الخطر الإيراني .

8.  الخشية من نشوء فراغ إذا تم وقف التنسيق الأمني وتدهورت العلاقة مع إسرائيل جرّاء الضعف الشديد الذي تعاني منه المؤسسات، وتقاسمها، وفقدانها للشرعية في ظل عدم إجراء انتخابات وعدم وجود توافق وطني، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من انهيار للسلطة وفوضى وفلتان أمني وملء الفراغ من مراكز القوى، ما يسمح بنشوء سلطات متناحرة، أو إعادة صياغة السلطة لتصبح مطواعة أكثر للاحتلال ومستعدة لقبول ما تطرحه إسرائيل من حلول تصفوية.

9.  إن طرح وقف التنسيق الأمني وغيره من قرارات المجلس المركزي مجرد مناورة ووسيلة للضغط من أجل تحسين شروط الأمر الواقع الذي هبط كثيرًا عن سقف "اتفاق أوسلو"، إضافة إلى تحسين فرص استئناف المفاوضات الثنائية.

إن ما سبق يرجح إلى حد كبير عدم تطبيق قرارات المجلس المركزي وعدم التخلي العلني عنها، مع أننا بتنا في وضع إذا طبقت فيه القيادة القرارات ستخسر وإذا لم تطبقها ستخسر، خصوصًا في شعبيتها ومصداقييتها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

قبل الدخول في الموضوع، لا بد من الانطلاق من أن الوضع الراهن - كما هو الآن، وكما استمر طوال السنوات الماضية - غير قابل للاستمرار طويلًا، لأن الشعب الفلسطيني لم يعد قادرًا على تحمّل استمرار هذا الوضع كما تدل مؤشرات عديدة، آخرها الموجة الانتفاضية المندلعة منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ولأن ركيزته الأساسية وهي ما سميت "عملية السلام" قد توقفت تمامًا من دون إعلان وفاتها رسميًا. أما الآن فنمرّ في مرحلة انتقالية من دون تحديد سقف زمني نهائي، ولكنها لن تطول كثيرًا، فإما أن تشهد ترميم وتحسين هذه العملية وإطلاقها مجددًا ضمن سقف أوسلو كحد أقصى، أو إطلاق عملية جديدة ضمن سقف آخر، وإما أن تنهار العملية كليًا وتدفع الوضع إلى المجهول.

إن إطلاق عملية سلام جادة مستبعد، على الأقل، حتى ما بعد إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية وشروع الرئيس الجديد في ممارسة مهامه، وإقرار السياسة التي سيعتمدها في منطقة الشرق الأوسط، مع ملاحظة تراجع أهمية المنطقة في الإستراتيجية الأميركية، وهذا ما يفسر تراجع الدور الأميركي وتقدم دور أطراف دولية وإقليمية أخرى، إضافة إلى وجود قضايا أخرى أكثر سخونة من القضية الفلسطينية وتستأثر بالاهتمام، مثل توقيع واقتراب تنفيذ الاتفاق النووي، وما يعنيه ذلك من تقدم الدور الإيراني.

السؤال هنا: ضمن أي سياسة ستسير إيران في المرحلة القادمة، وكيف سيؤثر ذلك على القضية الفلسطينية بصورة عامة، وعلى التنسيق الأمني بصورة خاصة؟ الغيث يبدأ بقطرة، وها هي ثمار الاتفاق النووي تظهر من خلال تعويض إسرائيل على حساب الفلسطينيين عبر إطلاق يدها لتفعل ما تشاء مقابل تمرير هذا الاتفاق.

إذا لم ترمم "عملية السلام" فإننا سنكون أمام:

استمرار التدهور الحاصل، بحيث نكون أمام تغييرات دراماتيكية، مثل حل أو انهيار السلطة، وتغيير الخارطة السياسية الفلسطينية، وطبيعة العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية، وضمن هذا الاحتمال إما أن تكون هناك رؤية فلسطينية جديدة تؤسس عبر تبني إستراتيجية وخطة عمل كاملة تستند إلى ما تحقق، وتنطلق من الأمر الواقع كما هو، وتهدف إلى تغييره وفق المأمول فلسطينيًا. وهذا يمكن أن يفتح الباب لإطلاق عملية سلام جديدة مختلفة كليًا تنقذ حل الدولتين من الانهيار التام، بعد أن أدت السياسات والإجراءات الاحتلالية الاستيطانية العنصرية الإسرائيلية لإدخاله إلى غرفة العناية المشددة، أو تستنزفه وتعبد الطريق أمام خيار آخر.

أو أن نكون أمام خيارات وحلول أخرى مختلفة وبديلة عن حل الدولتين، من خلال مفاوضات ثنائية برعاية أميركية، أو رعاية دولية شكلية ومشاركة إقليمية، وخصوصًا عربية، مختلفة عما كان سابقًا، ومن هذه الخيارات: خيار الدولة الواحدة بكل أشكالها، مع أنه غير واقعي وأصعب بكثير من حل الدولتين، وخيار "إسرائيل الكاملة" بضم كل أو معظم أو أجزاء كبيرة من الضفة، من خلال خطوات تدرّجية يمكن أن تبدأ بخطوات أحادية إسرائيلية في الضفة تضمن الانفصال عن السكان، مع الاحتفاظ بالأرض، إضافة إلى إحياء الخيار الأردني، أو حل القضية الفلسطينية على حساب الاْردن، وهذا احتمال متدنٍ جدًا، وخيار الدولة ذات الحدود المؤقتة التي يمكن أن يكون مركزها غزة، بينما تتبع لها المعازل مقطعة الأوصال في الضفة، أو خيار دولة في غزة.

تأسيسًا على ما سبق، لا يمكن مناقشة موضوع مثل تعليق أو عدم تعليق التنسيق الأمني، قبل التوقف قليلًا أمام التطورات والاحتمالات التي يمكن أن تحدث. كما لا يمكن ذلك من دون التوقف أمام العملية السياسية التي جاء في سياقها طرح موضوع وقف أو تعليق التنسيق الأمني. كيف بدأت، وماذا تخللها، وإلى ماذا انتهت؟

 

 

 

 

التنسيق الأمني مكون رئيسي من "اتفاق أوسلو"

لا يمكن التوقف عند التنسيق الأمني من دون تحديد موقف من "اتفاق أوسلو" كونه مكونًا رئيسيًا من الاتفاق.

هل "اتفاق أوسلو" خطوة اضطرارية كان ولا يزال لا يمكن تفاديها بالرغم من كل ما انطوى عليه من تنازلات، وما انتهى إليه من كارثة بكل معنى الكلمة، أم أنه أقل ما يقال عنه خطأ فادح جراء ما يمثله من قيام الضحية، بشكل عام أو خاص، من خلال ما سمي "رسائل الاعتراف المتبادلة" بين ياسر عرفات وإسحاق رابين من التنازل عن روايته التاريخية والأوراق والأسلحة التي يملكها من دون مقابل يذكر.

لقد تضمن "اتفاق أوسلو" وملحقاته، وخصوصًا رسالة عرفات لرابين، الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، و"نبذ العنف"، والتخلي عن "الإرهاب"، وتشكيل لجنة أمنية لتحقيق التعاون في المجالات المدنية والأمنية، والموافقة على علاقة اقتصادية تبعية للاقتصاد الإسرائيلي مقابل قيام إسرائيل بالاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي للشعب الفلسطيني من دون أن يترتب على ذلك أي اعتراف بأي حق من حقوق الشعب الفلسطيني (حق تقرير المصير، والدولة، والعودة، والمساواة لشعبنا في 48).

لم يقتصر الخطأ في أوسلو على ما تقدم، بل فصل ما بين القضية والأرض والشعب، وقسّم كل منها إلى أقسام، حيث أصبحت القضية قضايا، وقُسّمت الأرض إلى أراضي (أ) و(ب) و(ج)، كما فصلت القدس عن بقية الأراضي المحتلة العام 1967. وقَسّم الشعب إلى تجمعات مختلفة، ولم يشر أوسلو بكلمة واحدة إلى الاحتلال. كما قَسّم الحل إلى مرحلتين انتقالية ونهائية من دون أن يشير إلى أن الهدف هو إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وإنما أقصى ما وصل إليه الالتزام بالتفاوض على قضايا الوضع النهائي، والتوصل إلى اتفاق خلال خمس سنوات، وعندما انتهت المرحلة المحددة للاتفاق في أيار 1999 تم تمديدها ولا تزال قائمة إلى أجل غير مسمى.

لم يكن "اتفاق أوسلو" شر كله، بل وضع اسم فلسطين على خارطة المنطقة من خلال قيام سلطة حكم ذاتي مقيدة بالتزامات وقيود مجحفة، ومكّن ربع مليون فلسطيني من العودة إلى الأراضي المحتلة العام 1967، وجمّد مؤقتًا (أو أوحى بذلك لبعض الوقت على الأقل) خطة إقامة "إسرائيل الكبرى".

لا يمكن حل قضايا الصراع التاريخية الكبرى اعتمادًا على حسن نوايا العدو أو مراهنة على الآخرين، خصوصًا الذين يرتبطون بعلاقات عضوية مع إسرائيل، ولا يمكن تبرير تجاهل احتمال عدم التزام الحكومة الإسرائيلية بما وقعت عليه، خصوصًا بعدما قلل إسحاق رابين من سقف التوقعات حينما أعلن بعد اتفاق أوسلو بأن "لا مواعيد مقدسة"، وتجاوز بذلك أهم نقطة في الاتفاق، وهي تحديد سقف زمني للاتفاق النهائي، ومن خلال إجابة رابين عندما وجه إليه سؤال حول ماذا سيعطي الفلسطينيون في الحل النهائي؟ فقال نصف الأراضي المحتلة، وعندما قيل له بأن الفلسطينيين لن يقبلوا بذلك، أجاب حينها عندما يرفضون ما سنعرضه عليهم "فليحتفظ كل طرف بما لديه"، في دلالة أنه لم يكن مؤمن بإعطاء الفلسطينيين 22% من أراضي فلسطين بعد أن تنازلوا عن 78% مقدمًا وقبل أن يحصلوا على أي شيء. هكذا بدا الأمر في الزمن الذهبي لأوسلو، واتضحت الصورة أكثر بعد تولي بنيامين نتنياهو منصب رئاسة الحكومة الإسرائيلية لأول مرة بعد اغتيال رابين، حيث كان رفضًا لأوسلو، وكان هدفه للقضاء عليه معروفًا على رؤوس الأشهاد.

صحيح أن هناك عوامل وشروط صعبة دفعت القيادة الفلسطينية إلى التوقيع على هذا الاتفاق، وعقد هذه الصفقة المجحفة، منها حملة تجفيف موارد المنظمة التي جعلتها تعيش في ضائقة مالية وسياسية حقيقية، ومنها تداعيات انهيار التضامن العربي بعد احتلال العراق للكويت وعواقبه وعقاب الفلسطينيين على موقف قيادتهم الذي اعتبر متعاطفًا مع صدام حسين، إضافة إلى انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، وما أدى إليه ذلك من انهيار نظام القطبين الذي كان يحكم العالم في مرحلة الحرب الباردة ليحل محله لفترة لا تزال بقاياها ماثلة حتى الآن نظام سيطرة القطب الأميركي الواحد. وبالرغم من هذه الأسباب القوية إلا أن لا شيء يبرر الإقدام على مثل هذه الصفقة السيئة، من دون ضمانات ولا أوراق قوة، وبخاصة أنها قادت إلى كارثة، وكما يمكن أن تقود إلى كارثة أكثر إذا استمر الالتزام الفلسطيني بها.

الأنكى والأمر مما تقدم أن القيادة الفلسطينية انطلقت قبل توقيع "اتفاق أوسلو" وبعده من قناعة خاطئة لا تزال بقاياها مستمرة حتى الآن، بأن هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية مع المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري في ظل موازين قوى مختلة لصالح إسرائيل، استنادًا إلى مراهنات وتقديرات - أثبتت التطورات عدم صحتها - بتراجع مكانة إسرائيل ودورها في الإستراتيجية الأميركية، وحاجة إسرائيل إلى حل القضية الفلسطينية عبر الموافقة على قيام دولة لتسهّل غزوها وامتدادها في المنطقة العربية.

إن هذه القناعة المُؤسسة على الضعف وفقدان الخيارات والإرادة أدت إلى توقيع "اتفاق أوسلو"، ثم إلى توقيع ملحقاته التي كانت أسوأ منه، وصولًا لما حدث بعد أن تجاوزت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الالتزامات الإسرائيلية فيه. وكان الرد الفلسطيني رافضًا - في البداية - للأمر الواقع الذي تحاول إسرائيل فرضه، كما لاحظنا من خلال "هبة النفق" في العام 1996 والأزمات التفاوضية المختلفة، ثم جرى التعايش مع الخروقات الإسرائيلية استنادًا إلى تقدير خاطئ مفاده أن ما لا نأخذه بالمفرق في المرحلة الانتقالية سنأخذه بالجملة في المرحلة النهائية، وهذا أدى إلى الوقوع في الفخ الذي نصبه أيهود باراك، الذي جاء رئيسًا للحكومة خلفًا لنتنياهو، من خلال الموافقة على ما طرحه من رفض تطبيق "النبضة الثالثة" التي تتضمن الانسحاب من مساحة كبيرة من الضفة الغربية، وطالب بجمع التزامات المرحلتين الانتقالية والنهائية حتى لا تأخذ القيادة الفلسطينية دون أن تدفع.

وفي ضوء الموافقة الفلسطينية على ذلك تم عقد قمة "كامب ديفيد" في العام 2000، التي لم يكن هدف باراك فيها التوصل إلى اتفاق سلام، بل إلى فرض الاستسلام على ياسر عرفات، أو إزالة القناع عن وجهه إذا رفض العرض الإسرائيلي، الأمر الذي أدى إلى فشل القمة، وتحميل الرئيس الأميركي بيل كلينتون مسؤولية الفشل للفلسطينيين خلافًا لتعهده السابق بعدم تحميل مسؤولية الفشل للفلسطينيين أو غيرهم من خلال قوله "باراك قدم أكثر ... عرفات قدم أقل".

فتح فشل "كامب ديفيد" الباب لاندلاع مواجهة شاملة أخذت الطابع المسلح، حاول كل طرف فيها أن يحقق أهدافه التي عجز عن تحقيقها على طاولة المفاوضات، فأراد باراك إرغام عرفات على قبول ما رفضه، بينما حاول عرفات من خلال العودة إلى اعتماد خيار المقاومة تحسين شروط المفاوضات. وفي هذا السياق اندلعت انتفاضة الأقصى بعد زيارة شارون الاستفزازية الذي أصبح بعد ذلك رئيسًا لحكومة إسرائيل.

خلال انتفاضة الأقصى، وبالرغم من المواجهة الشاملة بين الجانبين، لم تقم إسرائيل بحل السلطة رغم أنها دمرت مقراتها وبنيتها التحتية، وخصوصًا الأجهزة الأمنية، لأن إسرائيل تريد بقاء السلطة لكي تتحمل المسؤولية عن الفلسطينيين، ولأن حل السلطة أو بقائها قرار دولي، ولتحقيق الانفصال الإسرائيلي عنهم مع الاحتفاظ بالأرض، انسجامًا مع السياسة الإسرائيلية القائمة على الفصل التام ما بين الأرض واصحابها الأصليين، بحيث يجرى تجميع السكان في معازل مأهولة ومفصولة عن بعضها البعض في جزء من الضفة الغربية، واستكمال مخطط الاستيلاء على أكبر مساحة من الأرض، حتى أصبح هناك الآن أكثر من 700 ألف مستوطن، ووضعت مخططات لزيادة عددهم إلى مليون مستوطن خلال سنوات قليلة.

ومما أدى إلى عدم إقدام إسرائيل على حل السلطة رغم تبنيها لخيار المقاومة المسلحة مراهنتها على قدرتها ومعها الولايات المتحدة، وبمساعدة أطراف متعددة، بتوظيف وقائع المواجهة والاختلال الفادح في ميزان القوى، وربط المقاومة المشروعة، لا سيما العمليات الاستشهادية، بالارهاب، خصوصًا بعد أحداث 11 أيلول 2011 في الولايات المتحدة الأميركية؛ لإعادة صياغة السلطة الفلسطينية، حيث تم استهداف قيادة ياسر عرفات، وجرى العمل على إيجاد قيادة فلسطينية جديدة ومختلفة ملتزمة بالسلام وتحارب "الإرهاب" كما جاء حرفيًا في خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في حزيران 2002.

لقد تغيرت العلاقة في أواخر سنوات حكم ياسر عرفات، وتحديدًا بعد طرح "خارطة الطريق" الدولية في العام 2003، من علاقة شركاء في عملية سياسية سميت زورًا "عملية سلام"، وما يترتب عليها من التزامات متبادلة رغم الخروقات الإسرائيلية إلى علاقة دونية، يقوم فيها الجانب الفلسطيني بالالتزام بتنفيذ التزاماته، لا سيما الأمنية، دون اشتراط أن يتم ذلك بالتزام إسرائيلي مماثل، وذلك عكس المطلوب تمامًا، حيث كان الممكن والمطلوب عشية وغداة انتفاضة الأقصى التحرر من الالتزامات المجحفة في "اتفاق أوسلو"، بعد أن تجاوزته الحكومات الإسرائيلية من دون إعلان إلغائه حتى تضمن استمرار تطبيق الالتزامات الإسرائيلية فيه، واشتراط الندية والتبادلية في العلاقات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، حيث قامت إسرائيل بإعادة احتلال الضفة، وإلغاء الصلاحيات التي منحتها للسلطة، لدرجة أنها أعادت "الإدارة المدنية" المسؤولة عن إدارة شؤون الحياة للسكان الفلسطينين، واستباحت مناطق السلطة، فباتت القوات المحتلة تقتحمها متى تشاء وتفعل ما تشاء.

كان يمكن في تلك الفترة التي شهدت إعادة احتلال الضفة، وإحياء الإدارة المدنية، وبناء جدار الفصل العنصري، وشن العدوان على الضفة والقطاع ومحاصرة الرئيس ياسر عرفات؛ إعلان وقف "اتفاق أوسلو"، والعمل على الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، والشروع في تجسيدها على الأرض. وكان يمكن، على الأقل، ربط الموافقة على "خارطة الطريق" وتطبيقها على أساس الالتزام بمبدأ الندية والتبادلية في تطبيق الالتزامات، حيث كانت الظروف الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية أفضل أو أقل سوءًا مما هي عليه الان.

لقد تغيرت قواعد اللعبة بالاتجاه المعاكس، حيث فرضت إسرائيل معادلة جديده مفادها "بقاء السلطة مقابل وفائها بالتزاماتها السياسية والاقتصادية والأمنية"، وحاول المجتمع الدولي وأطراف اللجنة الرباعية التي شكلت في هذه الفترة إنقاذ ما تبقى مما سمي "عملية السلام"، وطُرِحت في هذه الفترة خارطة الطريق التي اعترفت بإقامة دولة فلسطينية على هذا المستوى الدولي، حيث تضمنت بندًا يسمح باقامة دولة ذات حدود مؤقتة، إضافة إلى بند آخر يطالب بوقف الاستيطان، بما في ذلك وقف التكاثر الطبيعي. كما طالبت بفتح بيت الشرق في القدس.

 

 

 

خارطة الطريق ... التزام فلسطيني أحادي الجانب

إن ما تضمنته "خارطة الطريق" من نقاط إيجابية لا معنى لها، لأن أطراف اللجنة الرباعية لم تفعل ما يكفي للضغط على الحكومة الإسرائيلية لقبولها، بل مارست الضغط على الفلسطينيين للوفاء بالتزاماتهم من جانب واحد، من دون التزام إسرائيلي بخارطة الطريق، بينما طرحت حكومة شارون أربعة عشر تحفظًا عليها نسفتها من حيث الجوهر وحولتها إلى خارطة طريق إسرائيلية.

لقد التزم الجانب الفلسطيني من جانب واحد بما جاء في "خارطة الطريق"، حيث انتهى كل ذلك بتغيير النظام السياسي الفلسطيني من خلال استحداث منصب رئيس الحكومة، بهدف إضعاف وتقييد ياسر عرفات، وإيجاد قيادة فلسطينية معتدلة أكثر ملتزمة بالسلام وتحارب "الاٍرهاب"، وعندما انقلب ياسر عرفات على هذه الخارطة بعد أن قطع شوطًا في تنفيذها حينما أدرك أنها لن تؤدي إلى رفع الحصار عنه ولا إلى إطلاق عملية جادة تمّ التخلص منه عبر تسميمه.

جعلت "خارطة الطريق" الأمن الإسرائيلي هو الشرط الأهم توفيره قبل استئناف المفاوضات، والمرجعية الأهم للحكم على جدارة السلطة في الاعتراف بها ودعمها ولقبولها كشريك سلام، وهذا أدى إلى الهبوط بالسقف السياسي الفلسطيني عن السقف الهابط الذي مثله أوسلو، من خلال اعتماد مقاربة تقوم على العودة إلى المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها، ومن دون تغيير قواعدها أو مرجعياتها، أو اعتماد مبدأ الندية والتبادلية، وعلى التركيز على إثبات الجدارة وبناء المؤسسات كطريق لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة، على أمل أن النجاح في ذلك سيجعل المجتمع الدولي يتحمل مسؤولياته ويضغط على إسرائيل لتمكين الدولة الفلسطينية من القيام وممارسة سيادتها.

إن هذه المقاربة تضع العربة أمام الحصان، وتحمل الضحية وليس الاحتلال المسؤولية عن عدم الاستجابة لحقوقه، وتضعه أمام اختبار لتطبيق الجدارة لا ينتهي، وإسرائيل هي من تضع العلامات وتحديد هل أصبح جديرًا باعتباره شريكًا للسلام أم لا. فلا يمكن إقامة مؤسسات الدولة تحت الاحتلال، ولا يمكن ونحن في ذروة الصراع أن نقوم بما يتوجب فعله بعد انتهاء الصراع.

وحتى يضمن شارون قبر الجوانب الإيجابية بالنسبة للفلسطينيين في "خارطة الطريق" بادر إلى تبني خطة "فك الارتباط" عن قطاع غزة، التي استهدفت الفصل بين الضفة والقطاع، والانسحاب خطوة إلى الوراء في غزة مقابل التقدم عشر خطوات في الضفة، وقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية، وعلى انطلاق عملية سلام جادة أو اعتماد خيارات وبدائل غير مناسبة لإسرائيل.

وساهم تطبيق خطة "إعادة الانتشار" في غزة إلى حصول ما حصل من اقتتال وانقسام سياسي وجغرافي، انتهى إلى قيام سلطتين متنازعتين، واحدة في الضفة الغربية والأخرى في قطاع غزة. الأولى منهما ترتبط بالتزامات، أهمها التنسيق الأمني، بينما ترتبط الثانية بهدن تستمر ما بين المواجهة والأخرى، مع ما شهدناه بعد العدوان الأخير من محاولات لفحص إمكانية التوصل إلى هدنة طويلة مقابل الحفاظ على السلطة في قطاع غزة عبر مفاوضات غير مباشرة.

وتم في سياق خارطة الطريق إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أساس عقيدة جديدة سمحت بوجود ما أطلق عليه المبعوث الأميركي كيث دايتون "الفلسطيني الجديد". وهذه نقطة مهمة لإدراك أن الأجهزة الأمنية لن تشارك ببساطة وسهولة بكثافة في "الانتفاضة" الحالية أو بأي انتفاضة قادمة كما شاركت في الانتفاضة الثانية، حيث ساهمت في الكثير من عمليات المقاومة المسلحة. كما أن القيادة السياسية باركت سابقًا وسهّلت هذا الدور، أما الآن فالقيادة ليست بوارد إعطاء الضوء الأخضر للأجهزة الأمنية للمشاركة في المقاومة، التي لم تعد مستعدة كما كانت في السابق.

في ضوء ما تقدم، لا يمكن وقف أو تعليق التنسيق الأمني بمعزل عن تغيير المقاربة السياسية المعتمدة كليا، فإذا استمر الرهان على المفاوضات الثنائية برعايه أميركية أو دولية شكلية (وهو مستمر) سيستمر التنسيق الأمني، وسيكون التهديد بوقفه مجرد مناورة للضغط. ولا يمكن أيضًا تعليق التنسيق الأمني بمعزل عن مختلف المركبات الأخرى التي تكونها السلطة وتحدد علاقاتها مع إسرائيل، فالسلطة تقوم من حيث الجوهر على التزامات، سياسية واقتصادية وأمنية، وأي مساس بواحد منها سيؤثر حتمًا على الالتزامات الأخرى.

ولعل هذا يفسر لماذا استمر التنسيق الأمني بالرغم من قرارات المجلس المركزي ومن اندلاع الموجة الانتفاضية، إلى حد الإعلان على لسان قائد أمني بارز في مقابلة مع صحيفة أميركية بأن أجهزة السلطة الأمنية تتعاون مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، وأحبطت 200 عملية منذ اندلاع الموجة الانتفاضية، لأن هذا – وفق القائد الأمني - يحقق مصلحة فلسطينية بسبب أن تنفيذ عمليات يستدعي ردًا عسكريًا وسياسيًا إسرائيليًا يظهر عجز السلطة، ويساعد على حدوث فوضى وفلتان أمني ستوظفه "حماس" للاستيلاء على السلطة. وهذا الأمر يوضح تعقيد المسألة، ويفرض إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام حتى لا يعطي بقاءه سببًا إضافيًا لاستمرار التنسيق الأمني.

إن استمرار البنية والخيارات المتبعة وشلل المؤسسات وغياب الحياة السياسية وآلية التجديد والحصول على الشرعية من دون تغيير أو بتغيير ثانوي؛ سيؤدي إلى بقاء العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية على ما هي عليه، لذا من المفروض الشروع في بناء خيارات جديدة قادرة على فتح أفق جديد، من خلال تنفيذ خطوات قابلة للتنفيذ في نفس الوقت الذي يجري فيه الاستعداد لاتخاذ خطوات نوعية عندما يحين الوقت المناسب. فإذا كانت الوحدة الوطنية صعبة، مع أنها ليست مستحيلة ويجب أن تعطى الأولوية، فما الذي يمنع تفعيل منظمة التحرير وإصلاحها إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد بمشاركة الجميع؟ ما الذي يمنع نقل معظم مقرّات ودوائر وقيادة المنظمة إلى خارج قبضة الاحتلال؟ ما سبق غيض من فيض مما يمكن فعله وحدنا دون عواقب وخيمة.

إن انهيار السلطة أو حلها بمبادرة من القيادة الفلسطينية أو إسرائيل أو كليهما في غمار مواجهة، أو نتيجة حدوث تطورات تؤدي إلى ذلك من دون اختيارهما، ولم ينجم عن ذلك تدخل دولي؛ مستبعدٌ حاليًا في ظل المعطيات الراهنة، وستحرص الأطراف المعنية بوجود السلطة على إعادة تشكيلها من جديد، خصوصًا أن إسرائيل لا تريد أن تتحمل المسؤولية مباشرة عن الفلسطينيين، وتريد الانفصال عنهم، ولا تستطيع طردهم (حتى الآن على الأقل)، ولا تريد ضمهم إلى إسرائيل ومواجهة خطر الدولة الواحدة ثنائية القومية.

في كل الحالات، سواء انهارت السلطة أو حُلت في الضفة الغربية، فإنه من المرجح استمرار السلطة في غزة، كون إسرائيل تحقق فوائد جمة من انفصالها عن قطاع غزة، ومن استمرار الانقسام الفلسطيني الناجم عن ذلك، لأن إعادة احتلال غزة ليس نزهة بعد تراكم أسباب المقاومة وخبرة نتائج العدوانات الإسرائيلية السابقة، التي أثبتت أن أي إعادة احتلال إسرائيلي لقطاع غزة ستكون مكلفة جدًا.

 

البحث عن مسار جديد

المخرج من الواقع الذي انتهينا إليه بعد توقيع "اتفاق أوسلو" اعتماد مسار جديد من خلال بلورة إستراتيجية سياسية ونضالية مختلفة عن الإستراتيجيات المعتمدة حتى الآن، تؤدي إلى إطلاق عملية جديدة تراكمية بطيئة تنطلق من الأمر الواقع السيئ جدًا، وتهدف إلى تغييره إلى ما نريد عبر التخلص من "اتفاق أوسلو" بقيوده الغليظة، السياسية والاقتصادية والأمنية، ومما سميّت "عملية سلام"، من خلال وضع رؤية شاملة وخطة عمل كاملة هدفها النهائي إنجاز الحقوق التاريخية، وحل جذري للقضية الفلسطينية، وهدفها الراهن إنجاز كل ما هو ممكن في كل مرحلة وصولًا إلى الحل التاريخي، وما يقتضيه ذلك من فتح كل الخيارات واعتماد خيار في الوقت المناسب له، والانتقال إلى آخر إذا اقتضى الأمر، والجمع بين عدة خيارات، أي التحلي بالمرونة والاستعداد للانتقال من خيار إلى آخر وفقًا للتطورات والظروف.

عندما حاولت القيادة استئناف المفاوضات وإحياء ما سمي "عملية السلام" في عام 2008 بعد عقد "مؤتمر أنابوليس" في أواخر العام 2007، خلال فترة حكومة أيهود أولمرت، وفي عقد مفاوضات استكشافية في عمان ومفاوضات في واشنطن في العام 2010، وفي الأعوام التالية وصولًا لفشل مهمة وزير الخارجية الأميركي جون كيري في العام 2014؛ وصلت الأمور إلى اللحظة التي لا بد فيها من القرار، فإما الاستمرار في أن يظل بقاء السلطة هو الغاية، أو تبني مقاربة جديدة من خلال إجراء تغيير جوهري وحاسم لقواعد اللعبة التي حكمت العلاقات الفلسطينية – الإسرائيلية منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن.

وهنا، لا ينفع الاكتفاء بالتهديدات اللفظية بحل السلطة، أو بإنجاز المصالحة الفلسطينية، أو اتخاذ خطوات من دون وضع الثقل اللازم لتطبيقها، مثل المقاومة الشعبية والمقاطعة وتفعيل البعد الدولي واستخدام المؤسسات والمحاكم والقرارات الدولية، وأخيرًا اتخاذ قرارات المجلس المركزي وتأكيدها من قبل اللجنة التنفيذية من دون تطبيق بالرغم من مرور عام على تطبيقها، فهذا يعني أن كل ما سبق هو مجرد خطوات للضغط تستهدف استئناف المفاوضات وفق القواعد السابقة، أو تحسينها، أو تغيير بعضها من دون إجراء تغييرات جوهرية.

إذا بقيت القيادة الفلسطينية تراهن على المفاوضات وعلى الولايات المتحدة وعلى المجتمع الدولي من دون ترتيب البيت الفلسطيني، واستنهاض عوامل القوة لدى الشعب الفلسطيني باعتباره مصدر الشرعية والقوة والمناعة للقضية الفلسطينية الذي أبقاها حية، والذي يمكن أن يؤدي إلى انتصارها؛ سيتفاقم الوضع الفلسطيني، وسينتقل من سيئ إلى أسوأ وصولًا إلى الكارثة.

بناء على ما تقدم، لا بد من تبني إستراتيجية سياسية ونضالية تتكامل فيها أدوات النضال والعمل، وتسير جنبًا إلى جنب وبشكل متوازن، من أجل العمل على تغيير موازين القوى من خلال جعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل، حتى تقبل الدخول في مفاوضات تنتهي بتسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.

الوضع الفلسطيني في مأزق شامل في ظل إخفاق الخيارات وتقادم القيادات والبنية، وتهميش منظمة التحرير، والهوة المتزايدة بين الشعب والقيادة والفصائل، بدليل وجود فضاء جديد يتم ملؤه من منتفضين جدد لم يعودوا قادرين على الاستمرار في الانتظار إلى حين مغادرة القيادة الفلسطينية للسياسة الانتظارية التي محورها البقاء من دون عمل شيء بشكل جدي ومواظب ومستمر في أي مجال من المجالات، ما أدى إلى حدوث فراغ يمكن أن يملأه لاعبون غيرها من فلسطينيين وغيرهم.

كان يمكن رفض التوقيع على "اتفاق أوسلو"، وكنا سنكون في وضع أفضل مما هو عليه الآن، وكان يمكن أن يكون هناك أداء فلسطيني بعد توقيع اتفاق أوسلو مختلف يصرّ على تحقيق مبدأ الندية والتبادلية، وكان يمكن التحرر من أوسلو عندما ثبت أن إسرائيل تجاوزته بشكل حاسم وأصبحت غير مستعدة لأي تسوية بصورة لا تقبل الشك، بعد أن أصبح التيار المركزي في إسرائيل هو التيار المؤمن بإحياء خطة إقامة "إسرائيل الكاملة"، لا سيما أن التنافس الدائر فيها هو بين اليمين واليمين الأكثر تطرفًا، بين دعاة ضم "الكتل الاستيطانية" ومناطق (ج) ودعاة الانفصال عبر خطوات أحادية الجانب، إذ لم يبق أي حزب ينادي في برنامجه بإقامة دولة فلسطينية ومستعد للعمل على تطبيق ذلك سوى حزب "ميرتس" الصغير.

الآن، وصلنا إلى وضع مختلف، إذ أصبح من المستحيل فيه أكثر من أي وقت سابق أن يؤدي استمرار الالتزام باتفاق أوسلو إلى التوصل إلى دولة فلسطينية، فالأوضاع تجاوزته، وأصبحت السلطة أكثر اعتمادية على الاحتلال، ونشأت أوضاع سياسية واقتصادية ومصالح فلسطينية أوجدت أفرادًا وشرائح همّها الأساسي بقاء السلطة كما هي، لأن هذه السلطة زادتهم ثروة ونفوذًا بصورة لا تحدث مثلها في بلدان ذات سيادة. فكل ذلك يكرس السلطة القائمة، ويفقدها أركان الحكم الرشيد (المحاسبة والفصل والمشاركة وسيادة القانون وانتشار الفساد ... إلخ)، إذ أصبحت القيادة (السلطة) منفصلة عن الواقع، وهذا يضعف مصداقيتها وما تبقى لها من شرعية.

ما سبق يعني أن إسرائيل أخذت تقريبًا كل ما تريده في بداية المفاوضات الذي كان من المفترض أن تأخذه في نهايتها، الأمر الذي أضعف المفاوض الفلسطيني، وجعل المفاوضات تدور في حلقة مفرغة، بينما استخدمتها إسرائيل للتغطية على تطبيق مخططاتها وسياساتها التي تجعل الحل الإسرائيلي بصيغه المتعددة هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا.

حتى لو كان نص "اتفاق أوسلو" جيدًا ويجسد الحقوق الفلسطينية لكانت إسرائيل ستحاول أثناء التطبيق أن تفرغه من مضمونه، مستغلة الاختلال الفادح في موازين القوى لصالحها، واستفرادها بالفلسطينيين بعيدًا عن عمقها العربي والإسلامي والإنساني الدولي وعن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تجسد الحد الأدنى من حقوقهم.

 

 

عواقب وقف التنسيق الأمني

الإجابة عن سؤال الورقة (هل يمكن وقف التنسيق الأمني) من الناحية العملية : لا: لأنه من المستبعد الإقدام على تعليق أو وقف التنسيق الأمني وتنفيذ بقية القرارات الفلسطينية، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة، أهمها:

أولًا. اتُخذ قرار وقف التنسيق الأمني في سياق الاستجابة لضغوط سياسية وشعبية، ابتدأت منذ فترة طويلة وتصاعدت عندما توقفت تمامًا الجهود الرامية لإحياء المسيرة السياسية، فبعد فشل مبادرة جون كيري في أوائل العام 2014 لم نشهد جولات تفاوضية، لدرجة إعلان إدارة أوباما أنها لن تستأنف جهودها حتى رحيلها بعد عام، وأن كل ما يمكن أن تقوم به هو تشجيع الأطراف على التهدئة، والحد من التوتر، وعدم دفع الأمور إلى المواجهة الشاملة، واتخاذ خطوات لتحسين شروط الحياة وبناء الثقة ومنع انهيار السلطة.

كما أنّ التهديد بالقرارات يستخدم من أجل الضغط لتحسين شروط المفاوضات ثم في سياق تحسن شروط بقاء وعمل السلطة، ولم تُطرح نتيجة قناعة بضرورة إغلاق باب عملية التسوية نهائيًا، بدليل أن الرئيس يكرر مرارًا مطالبه باستئناف المفاوضات، فقد أيد المبادرة الفرنسية، وساهم في طرح مشروع قرار عربي يهدف إلى إحياء ما سميت "عملية سلام"، إضافة إلى وجود مبادرات عربية لطرح مشاريع قرارات أخرى على مجلس الأمن، وإن اختلفت قليلًا عن بعض الأسس التي حكمت المبادرات السابقة إلا أنها لم تخرج كليًا وجوهريًا عنها، مع أن التهديد اللفظي المتكرر باتخاذ إجراءات إذا لم يحصل كذا وكذا، وعدم تنفيذها رغم عدم حصوله يأتي بنتائج أسوأ من عدم التهديد على الإطلاق.

إنّ ما يميز سياسة السلطة في هذه المرحلة أكثر من أي شيء آخر أولوية البقاء، وهذا يتناقض مع الإقدام على أي شيء يهدد السلطة، مثل تغيير العلاقة جوهريًا مع الاحتلال، فالهدف الأبرز من كل ذلك هو تمكين السلطة من البقاء، ودليل ذلك المعارك التي تخاض ضد الخصوم السياسيين من داخل "فتح" وخارجها، والمساعي الرامية لترتيب البيت الداخلي في فتح والسلطة والمنظمة، وعدم النجاح فيها حتى الآن جرّاء الخلافات، والاستعداد لمعركة الخلافة التي بدأت ويمكن أن تشتد في أي وقت نظرًا لتقدم الرئيس في السن وإحباطه وعدم قدرته على تأجيل مؤتمر "فتح" وعقد المجلس الوطني إلى الأبد.

حتى لو نفّذت السلطة قراراتها، فهذا ستكون له نتائج وخيمة، لا سيما إن البديل غير جاهز، والانقسام مستمر، والثقة بين الشعب والقيادة مفقودة، بينما المنظمة في أسوأ أحوالها.

ثانيًا. إن مسيرة أوسلو المستمرة منذ أكثر من 22 عامًا أدت وترتّب عليها واقع جديد، سياسي اقتصادي اجتماعي ثقافي مؤسساتي حياتي، وأوجدت أفرادًا وشرائح واسعة نسبيًا مستفيدة منها ومستعدة للدفاع عنها، وهذه الفئات ليست موجودة في داخل مؤسسات السلطة فقط، وإنما منتشرة داخل السلطة وخارجها، بما في ذلك القطاع الخاص وما يسمى المجتمع المدني.

ثالثًا. إن عدم بناء البديل وعدم الاستعداد الجدي له بالرغم من وضوح فشل المسار السياسي منذ سنوات طويلة يخدم استمرار الأمر الواقع مع بؤسه. فالخوف من المجهول الآتي في ظل ما يجري في المنطقة العربية ومن الانزلاق إلى حالة من الفوضى والفلتان الأمني، ومن قيام قوى ظلامية أو غيرها بملء الفراغ الناجم عن فشل العملية السياسية من دون حلول مسار سياسي بديل منها، ومن تعددية السلطات والإستراتيجيات ومراكز القرار والتداخل الإسرائيلي والعربي والإقليمي والدولي؛ كله يساعد على استمرار الواقع الحالي إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وهذا سيؤدي إلى انتشار أفكار من نوع تحسين الأمر الواقع، وتقليل أضراره وخسائره دون ربطه بأفق أوسع وهدف أكبر ما دام البديل منه غير واضح ولا ناضج، وقد يكون مخيفًا.

يعزز مما سبق أن أحوال المنظمة التي يمكن أن تحل محل السلطة إذا انهارت أو حُلت سيئة جدًا ولا تختلف عن السلطة إن لم تكن أسوأ، فقد تآكلت شرعيتها، وغابت مؤسساتها، وتلاشى دورها، ولم تنجح المحاولة لعقد المجلس الوطني، ولم تنجح حتى الآن المساعي لعقده، مع أن عقده لا يعني بالضرورة إحياء المنظمة، بل قد يعني إذا لم يعقد بعد التحضيرات الضرورية دق المسمار الأخير في نعشها.

المطلوب عقد المجلس الوطني في سياق الإجابة عن سؤال: لماذا نريد عقده ولتحقيق أية أهداف، وإلا سيصبح عقده هندسة لمؤسسات المنظمة على مقاس شخص أو فيصل، بينما الضروري إعادة بنائها على أساس القواسم المشتركة، أي على مقاس الشعب الفلسطيني ومصالحه وحقوقه الوطنية.

رابعًا. إنّ استمرار الانقسام السياسي والجغرافي وتعمقه أفقيًا وعموديًا، وفشل كل الجهود و"اتفاق القاهرة" والملاحق المنبثقة عنه؛ يلعب دورًا في منع تطبيق قرارات القيادة المتعلقة بتغيير العلاقة مع الاحتلال، لأن الرئيس و"فتح" يخشون من أن تستفيد "حماس" الطامحة للحلول محل "فتح" في قيادة السلطة والمنظمة من تطبيق هذه القرارات، لأن تطبيقها اعتراف صارخ بفشل المسار المعتمد من دون وضوح مماثل بخصوص اعتماد مسار جديد مختلف كليًا، ما يؤدي إلى المزيد من ضعف قيادة عباس و"فتح"، وإلى نشوء فراغ يمكن أن تملأه "حماس" وغيرها من الفصائل "الإسلامية"، بما فيها "داعش" أو نسخة عنها.

خامسًا. إنّ الأطراف والدول التي أوجدت أو دعمت السلطة ومكنتها من الاستمرار طوال هذه السنوات لا تزال ملتزمة باستمرارها ودعمها، لأن انهيار السلطة قد يؤدي إلى إحياء القضية الفلسطينية وتقدمها على حساب القضايا المتصدرة حاليًا، وسيؤدي إلى تقديم خيارات وبدائل أخرى غير مرغوبة، وهذا يضر بأطراف عربية وإقليمية ودولية، لذلك حتى لو انهارت السلطة يمكن – على الأرجح – أن يجري العمل على بنائها مجددًا، أو بناء سلطة جديدة تكون مطواعة أكثر وعلى مقاس الحكم الذاتي المحدود الذي يجسد السقف الأعلى لما تريده إسرائيل.

 

بقاء السلطة جيد بالنسبة لإسرائيل

إسرائيل حتى الآن، وكما جاء في النقاشات الدائرة في اجتماعات حكومتها الأخيرة، لا تزال ترى أن بقاء السلطة جيد، أو أقل سوءًا، لإسرائيل من انهيارها. وأعتقد أن هذا التقدير سيستمر ما دامت السلطة لم تلق بثقلها في مواجهة إسرائيل، من خلال دعم وتطوير الانتفاضة، وزج الأجهزة الأمنية بفعالياتها أو بعضها، مثل الدفاع عن المواطنين عندما يتعرضون لاعتداءات المستوطنيين المستعمرين المسلحين، وتبني المقاطعة لإسرائيل وليس للمستوطنات فقط، لأن إسرائيل هي المحتلة، وهي التي تبني المستوطنات، وعدم الاقتصار على تأييدها لفظيًا، أو الأصح، تأييد بعض مجالات عملها، مثل مقاطعة منتجات المستوطنات دون بذل المطلوب حتى في هذا الميدان، وتقديم دعاوى وليس فقط شكاوى إلى محكمة الجنايات، والتعامل مع هذا الملف وكل ما يتعلق بملاحقة إسرائيل قانونيًا وسياسيًا بصورة مختلفة، لأن التعامل معها بشكل تكتيكي وكتهديد وتلويح من أجل استئناف المفاوضات شيء، والتعامل معها كأدوات في إستراتيجية جديدة شيء مختلف جدًا.

يدل ما سبق على أن العوامل التي تدفع لبقاء السلطة قوية، بما فيها استمرار التنسيق الأمني، أقوى حتى الآن من عوامل انهيارها أو حلها، ولكن فقدان الأمل بالمسار السياسي وباستئنافه أو بإطلاق مسار سياسي جديد، واتجاه إسرائيل إلى المزيد من التعنت والتطرف، وتكثيف تطبيق مخططاتها العدوانية والاستيطانية والعنصرية، وزيادة احتمالية اتخاذها لإجراءات كبيرة، مثل ضم "كتل استيطانية" أو مناطق (ج)، وتغيير جوهري للأمر الواقع في القدس، وخاصة المسجد الأقصى، أو تنفيذ مجازر ضد الفلسطينيين، إضافة إلى احتمالية استمرار وتصاعد الموجة الانتفاضية والضغط السياسي والشعبي وانخراط متزايد لأفراد من الأجهزة الأمنية في عمليات المقاومة، وتنفيذ عملية أو عمليات استشهادية توقع خسائر إسرائيلية كبيرة؛ كل ذلك سيجعل من الصعب على السلطة وإسرائيل احتواء الوضع، وقد يدفع الطرفين إلى مواجهة ليس بالضرورة من اختيارهما، ما يؤدي إلى تعليق التنسيق الأمني أو تخفيفه إلى حد كبير، الأمر الذي سيفتح الباب لتصاعد المواجهة الفلسطينية – الإسرائيلية أكثر، وسيزيد من احتمالات انهيار السلطة أو حلها.

إذا أقدمت القيادة الفلسطينيية على تطبيق القرارات التي أصدرها المجلس المركزي في شهر آذار الماضي وأكدت عليها اللجنة التنفيذية في الرابع من شهر تشرين الثاني، وأعلن صائب عريقات أن العمل جاري لتنفيذها، فماذا سيكون الرد الإسرائيلي؟

قبل أن نتعرض للرد الإسرائيل، لا بد أن ننعش الذاكرة باستعراض هذه القرارات:

·   "تحميل سلطة الاحتلال (إسرائيل) مسؤولياتها كافة تجاه الشعب الفلسطيني في دولة فلسطين المحتلة كسلطة احتلال وفقاً للقانون الدولي.

·   وقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي في ضوء عدم التزامها بالاتفاقيات الموقعة بين الجانبين.

·   التأكيد على أن أي قرار جديد في مجلس الأمن يجب أن يضمن تجديد الالتزام بقرارات الشرعية الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبما يضمن تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال.

·   رفض فكرة الدولة اليهودية والدولة ذات الحدود المؤقتة، وأي صيغ من شأنها إبقاء أي وجود عسكري أو استيطاني إسرائيلي على أي جزء من أراضي دولة فلسطين.

·   تقوم اللجنة التنفيذية بمتابعة عمل اللجنة الوطنية العليا للمتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية من أجل ملاحقة جرائم الحرب الإسرائيلية ومحاسبة المسؤولين عنها، وخاصة فيما يتعلق بجريمة الاستيطان، وجرائم الحرب المرتكبة خلال العدوان على قطاع غزة.

·        الاستمرار في حملة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية كشكل من أشكال المقاومة الشعبية".

ما سبق يعني أن القيادة الفلسطينية إذا نفذت ما قررته ستتغيّر القواعد التي حكمت العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية، وإذا لم يؤد ذلك إلى تحرك دولي عاجل بفرض الوصاية أو الحماية الدولية على الأراضي المحتلة، وهذا أمر مستبعد ضمن المعطيات الراهنة إلى حد بعيد، فإن إسرائيل ستقوم بحل السلطة إذا لم تحل نفسها بنفسها كما هدد الرئيس سابقًا أكثر من مرة، ولكن هذا لا يعني نهاية المطاف، فإسرائيل تريد سلطة مسؤولة عن الفلسطينيين، ما يعني أنها ستفكر في إعادة تشكيل السلطة أو بناء سلطة أو سلطات جديدة تتنافس فيما بينها وتسعى كل منها لكسب ود إسرائيل.

 

 

 

السيناريوهات المُحتملة

في حال إقدام القيادة على تنفيذ قرارات المجلس المركزي، ومن ضمنها وقف التنسيق الأمني

السيناريو الأول: فك السلطة وإعادة تركيبها

تسعى إسرائيل ضمن هذا السيناريو إلى فك السلطة وتركيبها، بحيث تتبوأ القيادة فيها عناصر أكثر استعدادًا للتعايش مع الواقع الذي تفرضه إسرائيل، والذي عنوانه الأبرز إدارة الصراع وليس حله، وأن أقصى ما يمكن أن يحصل عليه الفلسطينون هو حكم ذاتي محدود، وأن هذا هو الحل النهائي، فضلًا عن أن مسألة تسمية الكيان الذي سينجم عن هذا الحل ليست محسومة، ولكن يمكن في النهاية أن توافق إسرائيل على تسميته بـ "الدولة الفلسطينية"، ولكنه سيقام على جزء من الضفة الغربية وجزء من القدس الشرقية، وستكون السيادة في يد إسرائيل كما يظهر من تصريحات نتنياهو المتكررة بأن القوات الإسرائيلية من حقها أن تبقي على تواجدها في مناطق حيوية داخل الدولة الفلسطينية، وتحتفظ بحق التدخل فيها إذا شعرت أو قدّرت بأن هناك ما يشكل خطرًا عليها. وإذا حصل هذا فإن هذه الدولة لن تحمل من مقومات الدول سوى الاسم، لأن السيادة هي العنصر الحاسم التي يعطي المعنى للعناصر الأخرى التي تشكل الدول.

ما يجعل إسرائيل مضطرة للموافقة على تسمية الكيان بالدولة أن عدم حصول ذلك لن يجعل أي عناصر فلسطينية تتمتع بأي دعم حقيقي تقبل أن تقود الحكم الذاتي مثلما تريده إسرائيل، إضافة إلى خشية إسرائيل من أن بقاءها الدولة الوحيدة دون أي حل يسمح بإقامة دولة سيجعل الدولة ثنائية القومية، إلا إذا وجدت طريقة لطرد أعداد كبيرة من الفلسطينيين، أو سيطر عليها أناس يأخذون بوجهة النظر التي يطرحها بعض العناصر اليمينية والتي تطالب بحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن، وبضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، وعناصر أخرى تطالب بعدم إعطاء الفلسطينيين حقوقًا متساوية مع اليهود بعد ضم الضفة، وهذا يعني إقامة دولة تمييز عنصري سيسهل على الفلسطينيين الكفاح ضدها.

هناك عناصر أوسع نفوذًا تطالب بضم الكتل الاستيطانية الكبيرة في المرحلة الأولى، وضم المنطقة المصنفة (ج) في مرحلة ثانية، وتشجيع إقامة دولة فلسطينية مركزها غزة يرتبط مع المعازل المنفصلة عن بعضها البعض في الضفة.

إن مثل هذا الحل فكر بتنفيذه أرئيل شارون الذي كانت خطوته بفك الارتباط عن قطاع غزة سيتبعها خطوة تطبيق خطة الانطواء في الضفة، ولكن المرض قطع الطريق عليها، فهو كان صاحب نظرة إستراتيجية لإدراكه أنه من دون حل ما تطبقه إسرائيل، ولو من جانب واحد، سيُفرض عليها حل لا يناسبها، بتدخل دولي أو من دون تدخل، يتمثل بالدولة ثنائية القومية التي تقود إلى دولة تمييز عنصري، وهي ليست حلًا، بل كابوس بنظر الإستراتيجيين الإسرائيليين.

إن رفض إسرائيل لإقامة دولة فلسطينية يعود في أحد أسبابه إلى اقتناع اتجاهات مركزية في إسرائيل بأن هناك فرصة لإقامة دولة إسرائيل على كل فلسطين، أو على معظم مساحة فلسطين تطبيقًا للشعار القديم الجديد الذي رفعته الحركة الصهيونية منذ بدء تطبيق مشروعها الاستعماري "أكبر مساحة ممكنة من الأرض وأقل عدد ممكن من السكان".

من هنا، على الداعين إلى إقامة دولة واحدة التروي قليلًا، لأن تراجع إمكانية إقامة دولة فلسطينية إلى حد التلاشي لا يفتح الطريق لإقامة الدولة الواحدة، وإنما لإقامة "إسرائيل الكبرى" التي ستؤدي إلى طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين أصحاب البلاد الأصليين.

وضمن هذا السيناريو قد تفضل إسرائيل أن يحل محل السلطة سلطات محلية تتحكم فيها جميعًا سلطة الاحتلال، وتغذي تنافسها وصراعها مع بعضها البعض.

إن مثل هذا السيناريو محتمل، ولا أقول مرجحًا، لأنه يمثل استمرارًا واستجابة لما أوجدته السياسات والمخططات الإسرائيلية من حقائق على الأرض. وتتعزز احتماليته من تذكّر أن إسرائيل لن تُقدِم على حل السلطة أو أن تقوم السلطة بحل نفسها بنفسها أو انهيارها حتى عندما حدثت هزّات وزلازل شهدنا فيها مواجهة مسلحة في الانتفاضة الثانية، حيث تم فيها تدمير مؤسسات السلطة والأجهزة الأمنية وقتل المئات من أفرادها واعتقال الآلاف، ولكن إسرائيل أبقت على السلطة على أمل تحويلها إلى سلطة أخرى، ولقد كان لها ما أرادت إلى حد معقول.

فالسلطة التي قامت بعد رحيل ياسر عرفات مختلفة عن السلطة التي كانت في عهده، وأبرز ما يميز بين السلطتين أن عدم إقدام إسرائيل على الوفاء بالتزاماتها أدى إلى تجاوز السلطة لبعض التزاماتها، حيث تراجع التنسيق الأمني إلى أضعف مستوى، ودعم ياسر عرفات استخدام المقاومة ضد الاحتلال لتحسين شروط المفاوضات، فكان التنسيق الأمني في عهد ياسر عرفات جزءًا من عملية سياسية وإن كانت مختلّة ومرفوضة، أما التنسيق الأمني في عهد محمود عباس فكان عربون صداقة يقدم مسبقًا على أمل أن يساهم في إطلاق العملية السياسية وإنجاز الدولة الفلسطينية، وانتهى إلى أن يكون سقفه بقاء السلطة.

ضمن هذا السيناريو يمكن أن تتفرع عدة سيناريوهات، مثل:

أ‌.       إقامة دولة ذات حدود مؤقتة تكرس الوضع القائم أو أكثر قليلًا.

ب‌. إقامة دولة في غزة، سواء بأن تكون غزة مركز الدولة الفلسطينية وتتبع إليها المعازل الآهلة بالسكان في الضفة الغربية، أو دولة فلسطينية أو كيان سياسي في غزة من دون رابط مع الضفة. ويكبر هذا الاحتمال إذا استمر الانقسام وتعمق، وإذا نجحت المفاوضات غير المباشرة التي جرت ومن الممكن أن تجري بين السلطة القائمة في غزة وإسرائيل، ضمن معادلة "هدوء مقابل هدوء.

ت‌. التوصل إلى حل بمشاركة إقليمية، وبالذات عربية، مما قد يعيد الخيار الأردني، أو شكل من أشكال العلاقة الفلسطينية الأردنية (فدرالية، أو كنفدرالية).

 

السيناريو الثاني: انهيار السلطة

يقوم هذا السيناريو على أن وقف التنسيق الأمني وغيره من قرارات السلطة أو حتى استمرار الوضع على ما هو عليه، حيث نشهد تآكل في الأرض والحقوق والمؤسسات والشرعية، وقد يؤدي إلى انهيار السلطة وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل تأسيس السلطة، وهذا قد يؤدي إلى الفوضى والفلتان الأمني وتعددية السلطات ومصادر القرار الفلسطيني أكثر مما هو قائم الآن.

وهذا السيناريو مستبعد لأنه يعني فتح أبواب المواجهة على مصاريعها، ولأن إسرائيل تفضل استمرار السلطة، لأن أي بديل عنها سيكون على الأرجح سيئًا لإسرائيل. كما أنها لا تريد أن تتحمل المسؤولية الكاملة عن احتلالها، وذلك لأن المجتمع الدولي والدول المانحة ستوقف تمويل الاحتلال عن طريق تمويل السلطة، ما سيلقي بكل الأعباء، خصوصًا المالية على الاحتلال، وعندها ستكون إسرائيل أمام اتخاذ قرار مصيري: إما ضم الضفة أو معظمها أو أقسام واسعة منها، وإما إحياء ما سميت "عملية السلام".

 

السيناريو الثالث: حل السلطة

يتجسد هذا السيناريو إذا وجدت القيادة الفلسطينية أن أفضل طريقة لتجسيد القرار الدولي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية حل السلطة التي يجعل بقاءها ضمن التزاماتها ذريعة لإسرائيل والمجتمع الدولي بأنها يمكن أن تتحول إلى دولة عن طريق المفاوضات المباشرة مع إسرائيل. وإذا وجدت أن من مصلحتها ومن مصلحة إحياء الجهود لإقامة الدولة الفلسطينية تحويل التهديد اللفظي بحل السلطة إلى خيار يمكن الأخذ به.

يختلف حل السلطة عن انهيار السلطة، لأن الانهيار لا يمكن أن يستخدم سياسيًا، لأن يحدث بصورة تلقائية رغمًا عن القيادة، أما الحل فيمكن أن يؤدي قبل تنفيذه أو بعد ذلك إلى مفاوضات تنتهي بتسوية، خصوصًا إذا ترافق أيضًا مع التلويخ بخيار الدولة الواحدة، ما يثير حساسية إسرائيل التي تخشى من خطر القنبلة الديمغرافية الناجم عن فقدانها لطابعها كدولة "يهودية"، إذ سيتحول الفلسطينيون في الدولة الواحدة إلى أغلبية خلال سنوات قليلة.

 

السيناريو الرابع: الدولة الفلسطينية

يتجسد هذا السيناريو من خلال تغيير المقاربة الفلسطينية، بحيث يمكن الخروج من المأزق الوةطني الشامل الذي يظهر من خلال إخفاق الخيارات المعتمدة، وتقادم البنى والقيادة والمؤسسة، وانعدام إمكانية التغيير السياسي إذا استمر الوضع على ما هو عليه.

يتمثل شرط النجاح لهذا السيناريو في طرح أفق جديد على أساس تغيير العلاقة ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين من علاقة بين شركاء سلام إلى علاقة بين أعداء (احتلال وشعب واقع تحته)، وأن المرحلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني هي مرحلة تحرر وطني، وليست مرحلة إقامة دولة، على أساس أن الدولة الفلسطينية لا يمكن أن تقوم من دون دحر الاحتلال، ومن أجل دحره لا بد من إعادة النظر في دور السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها، وتحويلها إلى سلطة خدمية، ونقل مهماتها وصلاحيتها السياسية للمنظمة، على أساس العمل من أجل إعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل ومؤسسات منظمة التحرير، بحيث تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي باعتبارها الجبهة الوطنية العريضة التي تناضل من أجل الاستقلال والسيادة وبقية الحقوق الوطنية الفلسطينية.

إن تحقيق ما سبق يتطلب إعادة الاعتبار للرواية وللحقوق التاريخية، وإعادة القضية بوصفها قضية تحرر وطني واستعادة حقوق، وليس خلافًا أو نزاعًا على الأرض، أو حول طبيعة السلام، أو بين الاعتدال والتطرف، وعدم إضاعة ما تحقق أو يمكن تحقيقه، أو التعامل مع الممكن باعتباره نهاية المطاف.

 

 

 

 

التوصيات

أولًا. ضرورة تغيير قواعد اللعبة السياسية المعتمدة منذ "اتفاق أوسلو" تغييرًا جوهريًا، على أساس بلورة رؤية جديدة تحدد أين نقف الآن، وإلى أين نريد الوصول، وكيف نحقق ما نريد، وتستند إلى أن العلاقة مع إسرائيل علاقة مع عدو وليس مع شريك سلام، وإلى الرواية والحقوق التاريخية، ولا تتخلى عن النضال لإنجاز حل تاريخي من دون إسقاط الحلول المرحلية، على أساس تحقيق ما يمكن تحقيقة في كل مرحلة، بما في ذلك التمسك بهدف إقامة الدولة الفلسطينية، ووضع إستراتيجية سياسية ونضالية متعددة تستخدم الأدوات المتنوعة اللازمة. كما تركز الرؤية الجيدة على تغيير موازين القوى من خلال جعل الاحتلال مكلفًا لإسرائيل.

ثانيًا. وضع خطة تستهدف إنهاء "اتفاق أوسلو" والإفرازات الضارة له ضمن عملية تدريجية تتناسب مع بناء خيارات بديلة، وتبدأ بالتمسك بمبدأ التبادلية والندية التي يمكن تحقيقها من خلال الخطوات الآتية:

·   البدء بتخفيف التعاون الأمني، خصوصًا في مجال تبادل المعلومات، وصولًا إلى تعليقه ووقفه كليًا ردًا على تحرر إسرائيل من التزاماتها. ويمكن تطبيق ذلك من خلال ربط تنفيذ الالتزامات الفلسطينية بتنفيذ الالتزامات الإسرائيلية، فإذا تجاوزت إسرائيل التزاماتها كما تفعل يتجاوز الفلسطينيون التزاماتهم.

·   حصر العلاقات الأمنية في المستوى السياسي وإخراجها من أيدي الأجهزة الأمنية، وكفّ تدخل هذه الأجهزة بالعمل السياسي، فهي أجهزة يجب أن تكون خاضعة كليًا للقيادة السياسية.

·        إعادة النظر في موازنة السلطة السنوية، والعمل على تقليل موازنة الأمن، وتحويل الموارد المقلّصة إلى بنود أخرى، مثل الصحية والتعليم، ودعم الصناعات الوطنية، ودعم صمود المواطنين والمناطق المعرضة للاعتداءات الإسرائيلية.

·        حل جهاز أمني أو أكثر، ودمج الأجهزة المتبقية وإعادة بنائها على أسس مهنية وطنية بعيدًا عن الحزبية.

·   الفصل ما بين الالتزامات الأمنية والمدنية على أساس أن تلبية الاحتياجات الإنسانية يجب أن تستمر، وأن التعاون في مجال مكافحة مختلف أنواع الجرائم والأوبئة والأمراض والكوارث أمر لا غنى عنه.

·        إعطاء تعليمات لأجهزة الأمن بالتصدي لأي اقتحامات لقوات الاحتلال لمناطق السلطة المصنفة (أ).

·   تشجيع ودعم أهالي القرى والمناطق التي تتعرض لاعتداءات المستوطنين عبر تشكيل "لجان حراسة" مهمتها الدفاع عن الأهالي وممتلكاتهم ومزروعاتهم.

·   الاستعداد لجميع الاحتمالات وردة فعل سلطات الاحتلال، بما في ذلك توفير أسباب الحياة وفرص عمل للعمال الذين يعملون في إسرائيل والمستوطنات، مع أن إسرائيل بحاجة إليهم ويهمها استمرار السلطة، لأن أسوأ ما يمكن أن يحدث لها أن تعود للسيطرة المباشرة، لأنها ستدفع ثمن الاحتلال، وستكف عن جني الأرباح منه جرّاء تحمّل الدول المانحة أعباءه بدلًا من إسرائيل.

·   التركيز على إدانة وعزل الاستعمار الاستيطاني سياسيا وقانونيا، بما في ذلك السعي لإصدار قرار من مجلس الأمن يؤكد على عدم قانونية وشرعية كل الإجراءات الاستيطانية،
إضافة إلى المطالبة بتطبيق اتفاقية "جنيف الرابعة" على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ثالثًا. تغيير طبيعة السلطة وشكلها ووظائفها والتزاماتها، لتكون - على الأقل - سلطة مجاورة للمقاومة والمقاطعة، ومقاومة للتطبيع، وتخدم البرنامج الوطني، وتكون أداة من أدوات المنظمة، وما يقتضيه ذلك من نقل مهمات السلطة وصلاحياتها السياسية للمنظمة.

رابعًا. نقل معظم مقرّات ودوائر وقيادات المنظمة لخارج الضفة الغربية، خصوصًا طاقم المفاوضات، وبعد إتمام المصالحة وإنهاء الانقسام يمكن أن تكون بعض المقرات والدوائر في قطاع غزة.

خامسًا. فتح جميع الخيارات والجمع ما بينها، والاستعداد للانتقال من خيار إلى آخر، بما في ذلك الاستعداد لخيار حل السلطة إذا لم يحقق خيار تغيير وظائف السلطة الأهداف المرجوة منه.

سادسًا. إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على أساس أن الوحدة ضرورة وطنية لا غنى عنها.

سابعًا. إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير على أسس وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية، على أساس القواسم المشتركة، لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وتكون قولًا وفعلًا الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.

 

معد الدراسة: 
هاني المصري