الفلسطيني ونحت الغضب

بقلم: 

          لا يستطيع أحد أن يشكك في "نضالية" الشعب الفلسطيني، بل لا يستطيع أحد ان يفك لارتباط بين عدة مكونات مترابطة مكنت الشخصيته الفلسطينية أن تتخذ بُعدها العالمي المتميز، اذ تمكنت هذه الشخصية وعبر كفاح لم يهدأ حتى الآن من نحت ماهية الذات العربية الفلسطينية لتتسم بما لا يُنزع منها، ويُميزها.

          إن نضالية الشعب الفلسطيني تمثل المعلم الأكبر الواضح في صناعة الشخصية التي تكونت في الصخر منذ أكثر من عشرة آلاف عام، عبر صفحات سفر تاريخنا الطويل، وبدأت تبلور هوية الفلسطيني أو شخصيته أو كيانيته المتميزة في محيطها العربي والإسلامي والمسيحي.

 دعنا نبدأ التقليب السريع للسِفر منذ الصفحة الحديثة زمنيا إذ أنه منذ اعتلاء الشريف ظاهر العمر الزيداني في القرن18 سدة الحكم وإقامته أول دولة فلسطينية على مساحة الحزن العربي اليوم... بدأ التبلور يتجلى.

كنعاني وفلسطيني ...عربي والمواجهة

            نضالية الشعب الفلسطيني عميقة في تاريخ الكنعانيين (الكنعانيين العرب من قبيلة كُنانة) والفلسطينيين (الفلستيين هم القبائل العربية الوثنية قبل الاسلام من عبيد الإله فلس) واللخميين (سكان بيت لحم وفلسطين من القبائل اللخمية) وغيرهها.

          وكي لا نغوص عميقا في التاريخ فإننا يمكن أن نرجع هذه النضالية حديثا الى القرن الثامن عشر ما لا يعمله الكثيرون في الإضاءة على تاريخ ظاهر العمر انتقالا لمدارس انضال مع اليقظة القومية في بداية القرن العشرين.

          إن مسلسل الكفاحية والنضالية والجهادية في البناء للشخصية الفلسطينية حديثا قد تم صقله في اطار المواجهة للمشروع الاستعماري-الصهيوني في فلسطين، وفي اطار المقاومة للاحتلالات، وفي إطار مقاومة الظلم ورواسب عهود العتمة في أواخر وجود السلطنة العثمانية وسيطرة لفكر القومي الالغائي للآخر.

1-الغزو الاستعماري

          لا ينكر أحد أن (مضاء) الشخصية النضالية قد تم صقله من خلال (المواجهة) التي شُحذت بشكل واضح مع مقاومة الغزو الاستعماري – الصهيوني منذ أصبح القرار بتهويد فلسطين في القرن التاسع عشر حقيقة استعمارية لتحقيق "دولة يهودية" على حساب أصحاب الأرض الاصليين على النمط الامريكي والاسترالي والجنوب افريقي.

          الحديث في (النحت) الذي حصل، والتشكيل الذي بدأ يظهر في جمعية وتميز ومضاء الشخصية الفلسطينية حفرته ردود الفعل العربية والإسلامية على الهجرة الصهيونية – الاستعمارية والغزو الخارجي كما حفره في الشخصية المتشكلة الاستيطان-الاستعمار الاحتلالي-الاحلالي منذ المستوطنة الأولى التي غيبت الوجود الفلسطيني – العربي وتعاملت معه (كأقلية) وفق ما جاء في ورقة بلفور السوداء، التي اعتمدت لاحقا في صك الانتداب (الاحتلال البريطاني لفلسطين) عام (1922).

          إن ممارسات الصهيونية البشعة في أرض فلسطين من سيطرة بتحالف استعماري وصولا للمشاركة في ادارة البلد، ثم انتهاء بالسيطرة عليه وطرد سكانه وإحلال الأغراب مكانهم جاء كحل لمعضلة العقل الالغائي الاستعماري الغربي– المسيحي مع اليهود الأوروبيين، ومع رغبتهم بالسيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية على المنطقة العربية الى الأبد.

            الممارسات الاستعمارية كان لها (الفضل) –إن جاز أن يكون لها فضل-في رسم التطلعات القومية العربية– الفلسطينية ، كما كان لها الدور في نحت شخصية المناضل الفلسطيني الذي اختار سُبل عدة ليعبر فيها عن الغضب والرفض والثورة عليها، هذه السُبُل التي كان منها الاعلامية والسياسية والحزبية  والثورية  منذ القرن التاسع عشر والقرن العشرين وصولا للانطلاقة في العام 1965.

2-سُبُل الكفاح...والنكبة

          كان الغزو الاستعماري الغربي منذ القرن التاسع عشر بمثابة العامل الأول في بناء هذه الشخصية النضالية الحديثة، وكان لمجمل أساليب أو سبل الكفاح التي خاضها الفلسطينيون قبل النكبة ان شكلت عاملا ثانيا لتأتي النكبة عام 1948 لتشكل علامة فارقة لا تزول في بناء أبعاد هذه الشخصية التي شابها اثر التهجير واللجوء والحروب القلق والتوتر والغضب وأحيان فقدان الصبر بل واليأس والإحباط في مراحل معينة إلا أنها استطاعت أن تتخذ من مأساة اللجوء والنكبة معولا للبناء لا للهدم فنمت (أكثر من غيرها) معالم الشخصية الفلسطينية الحديثة بأبعادها الثلاثة الرئيسة: المتعلمة والعاملة والمناضلة.

3-مرتكز الانطلاقة والحجر

          إن العامل الرابع في بناء شخصية العربي الفلسطيني (ونؤكد على العربي الفلسطيني لأن قاطرة الثورة الفلسطينية لا يسير  إلا بالقطار العربي وأحرار العالم) كانت الانطلاقة للثورة الفلسطينية عام 1965.

          أن الانطلاقة على تواضع بداياتها لم تكن إلا كالحجر الذي ألقي في مستنقع الضعف والخنوع بل والاستسلام العربي فطالت دوائره وارتداداته كل المحيط فحولت ظلام الليل الى نهار مشرق اذ رفعت الثورة من ابعاد الشخصية التي بدأت تتشكل اثر اللجوء ومسحت عنها آخر رواسب السلبية والخنوع والانتظار ليصبح الفعل محرك الارادة والأمل وقود بالفعل الهدف عين الخطة والإنسان مساحة اتغيير. وتكاملت أبعاد الشخصية هذه بفعل الحجر المتولد عن سنوات البناء والصراع والفعل الفدائي لتسبح الانتفاضات والحجر والمقاومة الشعبية معلما بارزا في شخصية لا تهدا كوامنها أبدان ولا تمل ابتداع الوسائل وعينها على الهدف.

 

شخصية متعلمة وعاملة ومناضلة...صلبة

          تشكلت الشخصية الفلسطينية المتعلمة والعاملة والمناضلة نتيجة عامل خامس آخر قد لا ينظر له الكثيرون بموضوعية وهو الاحتكاك والتواصل وقدرة التفاعل مع المتغيرات ، والاحتكاك والتفاعل مع رواسب فكرية قديمة هذا الاحتكاك وهذا التفاعل ولّد قناعات جديدة وولّد أفكارا جديدة، وأبرز تصميما هو من صلب مكونات الشخصية النضالية الفلسطينية الحديثة (المتعلمة والعاملة والنضالية، ولنضف والصلبة).

          إن الاحتكاك والتواصل والتفاعل مع التنوع الفكري في المحيط العربي، وفي المحيط الحضاري العربي الاسلامي ، وأيضا في المحيط الاسرائيلي قد انتج فكرا متمردا وفكرا صلبا وفكرا منفتحا يقبل ويرد يتفاعل ويعطي ويأخذ ، فلم تعد القيم والأفكار القديمة والنظرات المقلوبة تمثل نمط  العربي-الفلسطيني أبدا وإنما أصبح بحق يمثل وجها منيرا متفتحا مشرقا في ظلمة التطرف اليهودي لليمين الحكم وفي ظلمة التطرف الاسلاموي الذي يحدق بنا.

          لقد اختار الفلسطينيون بعمومهم التركيز على نضاليتهم وعلمهم وعملهم وصلابة تجذرهم بأرضهم فلسطين أكثر وأكثر دون أن يهملوا التنبه للمبادئ الانسانية ومبادئ الحرية والانفتاح التي ولّدت ما لا يتوقع الآخرون ولادته في مثل جو الاحتلال والإرهاب والقتل اليومي.