عام إدارة الأزمات

نحو 80% من الفلسطينيين يؤيدون الرد على رد نتنياهو على رسالة الرئيس محمود عباس بتصعيد جماهيري ضد الاستيطان، مقابل نحو 15% مع التوجه للأمم المتحدة. هذا الاستطلاع يشير بوضوح إلى الحس الشعبي وقدرته على تحديد أفضل خيار كفاحي للفلسطينيين.

وفي الحقيقة، كان الشعب الفلسطيني ولسبب بسيط، وهو انه وعلى مدار العقود الماضية داخل في أتون الكفاح الوطني، والذي وان كان في مستواه القيادي ـ الإداري يدخل في دهاليز النخب، إلا انه على الأرض وفي معمعان الكفاح، فإن الشعب هو الذي يوجد في الميدان، لذا كان يظهر عبقريته في لحظات الاستعصاء السياسي، وقد كانت لحظات فاصلة وكثيرة، وكان الشعب ينجح في اجتراح المعجزة، ويطلق أفق الحل !

حدث هذا بعد نكسة النظام العربي العام 67 حين أطلق الشعب الفلسطيني ثورته الوطنية لتمسك زمام المبادرة، بعد أن قاد عبد الناصر معركة تحرير فلسطين، ثم مرة أخرى العام 87 بعد أن انكفأت الثورة بعد اجتياح بيروت، وتمت محاصرتها ميدانيا أولا، ومن ثم سياسيا، وها هو الشعب يؤشر إلى طريق الخلاص بعد أن انشغلت نخبه السياسية فيما بينها .

جرب الفلسطينيون في السنوات الأخيرة كل البرامج السياسية، في مقدمتها برنامجا التفاوض والمقاومة منفصلين دون أن ينجح احدهما في فرض الحل السياسي على الإسرائيليين أو تحقيق إنهاء الاحتلال وفرض الاستقلال الوطني، ورغم البطولات العظيمة التي قدمها الفلسطينيون، إن كان عبر قوافل الشهداء أو الأسرى، أو الصمود، إلا أن تقدما مهما لم يحدث خلال عقدين مضيا، والاهم انه في هذه اللحظات بالذات، فإن القيادات الفلسطينية تبدو وكأنها قد أضاعت البوصلة أو أنها غير قادرة تماما على إقناع شعبها بالأساس على قدرتها في متابعة الطريق دون فعل شعبي مباشر يعدل من طبيعة معادلة الصراع المختلة القائمة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي .

لم ينجح حتى اللحظة طرفا القيادة الفلسطينية في تجاوز حالة الانقسام وتوحيد الصفوف، لفرض منطق القوة السياسية والكفاحية على الجانب الإسرائيلي، وبات واضحا أن الخيار العام بالضغط الدولي والدبلوماسي على إسرائيل صار متعثرا تماما، ليس لأن الوقت قد مضى، على قرع أبواب الأمم المتحدة وحسب، بل لأنه أيضا بات واضحا أن الاهتمام الدولي تراجع كثيرا عن متابعة هذا الأمر، كذلك، فان العالم العربي نفسه لم يعد قوة إسناد فاعله بالنظر إلى أكثر من سبب يحول دون أن يبدو خيار التوجه للأمم المتحدة خيارا واقعيا .

دليل إضافي يؤكد هذا التقدير، ونقصد به توجيه القيادة الفلسطينية الرسالة للجانب الإسرائيلي. وبتقديرنا فإن التوجه بالرسالة نفسه يظهر مدى "ضعف" الجانب الفلسطيني وتردده عن متابعة خيار اللجوء للأمم المتحدة، وقد كان الجانب الفلسطيني يظن أنه بعد انقضاء فترة الثلاثة أشهر التي انقضت في كانون الأول الماضي يمكنه أن يذهب للأمم المتحدة بتأييد أوروبي للخطوة، وبذلك فإن ابتداع فكرة الرسالة ظهر وكأنه رضوخ للمطلب الإسرائيلي ـ الأميركي بالعودة لقناة التفاوض الثنائي .

لذا، فان الرد الإسرائيلي يكاد يكون معروفا، وأقله لجوء نتنياهو للمراوغة وكسب الوقت، وتمييع أو تمويت فكرة التفاوض بهدف التوصل لحل .

هذا ما يدركه الشعب جيدا، لذا فهو يفضل التصعيد الميداني الجماهيري ضد الاستيطان أي شكل محدد من المقاومة السلمية والمجابهة الشعبية، في إطار يضمن التعاطف والتأييد الدولي، في لحظة تبدو ميتة بالمعنى السياسي، ونقصد ما تبقى من هذا العام حتى نهايته .

من الواضح أن إدارة البيت الأبيض الأميركي منشغلة ومنذ وقت بانتخابات الرئاسة التي ستجري مع نهاية العام، وواضح هذا الانشغال من خلال تراجع فاعلية السياسة الخارجية الأميركية في معظم ملفات المنطقة , بما في ذلك الملفات التي يتركز عليها " الفوكس " الإعلامي , نقصد الملف السوري , وحتى الملف الإيراني وما إلى ذلك من ملفات داخلية عربية : ملف انتخابات الرئاسة المصرية، والملفان الليبي واليمني .

لذا، فان معظم الدول ذات المكانة الدولية والإقليمية المؤثرة وحتى المقررة , تفضل تأجيل الحسم في هذه الملفات وترحيلها إلى العام القادم والدول التي تدرك هذة الحقيقة تقوم الآن بتحضير نفسها وفق هذا المعطى السياسي، ولعل ذهاب إسرائيل إلى انتخابات مبكرة ربما تجري في أيلول القادم , يمكن تفسيره ارتباطا بهذا الأمر .

نحن نقدر أنه حتى في الملف السوري، حيث يسقط كل يوم عشرات الضحايا، فان متابعة الملف بكل هذه الأناة يرجح هذا التصور، فخلال هذا العام سينضج البديل عن نظام الأسد، كذلك ستتضح الصورة النهائية لأوضاع مصر الداخلية , وإذا ما جرت الانتخابات الإسرائيلية المبكرة , كرد على التحولات في دول الجوار العربي , خاصة مصر وسورية , فان الجميع سيكون على موعد مع سياسة جديدة في العام القادم مع أدارة قوية في البيت الأبيض إن كانت جمهورية أو حتى في حال التمديد، كما هو مرجح لباراك أوباما .

هذا الارتخاء السياسي كان أحد دوافع عدم تنفيذ المصالحة الداخلية الفلسطينية، وما دام الأمر كذلك، فإن قيادتي حماس وفتح مع ذلك يمكنهما إدارة الانقسام، ولكن مع فتح الأفق لكفاح فلسطيني فعال ضد الإسرائيليين، من خلال التوافق على صيغة جبهوية تتبع كفاح الأسرى، والتعامل مع منطق الفدرالية السياسية، حيث ليس من الضروري أن يتم تنصيب الرئيس أبو مازن رئيسا لحكومة انتقالية، حتى يتم بث رسالة الوحدة للشعب الفلسطيني، فالرجل هو رئيس السلطة الوطنية المنتخب، أي أنه عنوان وحدة وتوحيد، لذا يمكن ومن خلال هذه الصفة أن تفتح له حماس الباب ميدانيا، حتى يفعل شيئا في قطاع غزة، مثلا يمكنه أن يجيء إليها مع خالد مشعل، ومعهما لجنة الانتخابات المركزية، لفحص الظروف الميدانية لإنهاء الانقسام وكسر الحصار عن غزة والتحضير للانتخابات العامة، وفحص مراكز الاقتراع وجاهزية لجان الانتخابات وما إلى ذلك .