نكبة، نكسة، وكسة

نحى الرئيس محمود عباس رسالة بنيامين نتنياهو جانبا، وخاطب إسحق مولخو موفد رئيس الحكومة الإسرائيلية إليه قائلا: الآن هناك ما هو أهم بالنسبة لنا: موضوع الأسرى، وهكذا مر أمر الرسالة/الرد، دون أن تأخذ حقها من الاهتمام السياسي أو الإعلامي، ذلك أن ما يشغل بال القيادة الفلسطينية وما ينشغل فيه معظم الفلسطينيين الآن: فصائل ومواطنين، هو موضوع الأسرى المضربين عن الطعام منذ أسابيع، والذين يواجهون السجان الإسرائيلي، بسلاحهم الأخير: الإضراب عن الطعام حتى الموت، مقابل تلبية طلباتهم الإنسانية بمعاملتهم كبشر!
الفلسطينيون يبدو أنهم لن ينشغلوا فقط عن الاهتمام برسالة/الرد الإسرائيلية وحسب، ولكن بعدد من المناسبات التي اعتادوا على أن يجعلوا منها أياما صاخبة، تكون حافزا لهم للاستمرار بالمطالبة بحقوقهم والسعي لنيلها بالكفاح المستمر، وفي مقدمة هذه المناسبات، يوم النكبة الذي يصادف اليوم، والذي جعل منه الفلسطينيون العام الماضي على سبيل المثال يوما قوميا وحافلا، حين جاؤوا من مشارق الأرض ومغاربها في حراك شعبي، ظهر على صورة الحراك العربي، الذي دب رعبا في أوصال إسرائيل السياسية.
وفي يوم النكبة، الخامس عشر من أيار العام 48، أي قبل أربعة وستين عاما، لم يتعرض الفلسطينيون لصدمة إقامة الكيان الإسرائيلي الغاصب وحسب، ولكن لصدمة الاعتراف الدولي به، دون أن يقترن بإقامة الدولة الفلسطينية، على الأقل، وعلى اقل الأقل على ما لم يسقط بيد العصابات اليهودية في ذلك الوقت من أراض فلسطينية وضعت يدها عليها ثلاث دول عربية : الأردن على ما بات يسمى لاحقا الضفة الغربية، ومصر على قطاع غزة، أو ما تبقى منه، وسورية على مثلث الحمة الفلسطينية !
كذلك دون تنفيذ حق عودة اللاجئين الفلسطينيين بعد أن وضعت الحرب أوزارها، كما نصت قرارات الأمم المتحدة، على الأقل، وعلى ذلك فإن استمرار إحياء هذه الذكرى أمر ضروري للغاية ليس لتذكير العالم فقط بما وقع على الفلسطينيين من غبن وحيف وظلم فقط، ولكن أيضا لاستمرار المطالبة بالحق الفلسطيني في الوطن المحتل، وعدم إغلاق ملف الاغتصاب نفسه مهما طال الزمان.
بعد ثلاثة أسابيع ستمر ذكرى النكسة، في الخامس من حزيران، وإحياؤها أمر ضروري أيضا، للتذكير بأن احتلالا إسرائيليا، لم يعترف به أحد في العالم، ما زال مستمرا منذ خمسة وأربعين عاما، وهو _ أي الاحتلال _ ما زال يحول دون التوصل إلى حل في المنطقة، بعد أن قبل الفلسطينيون بحل وسط على أساس إنهائه، ولم يقبل الإسرائيليون بذلك، وما زال عدم قبولهم هذا يمنع إطلاق العملية السياسية، وهو الذي أوصل الجانبين إلى الطريق المسدود وكان يجب أن يشكل فحوى رسالة / الرد الإسرائيلية كما كان حال رسالة / الأصل الفلسطينية !
لن تتوقف سلسلة المآسي الفلسطينية عند هذا الحد، فبعد يومين أو ثلاثة من يوم النكسة، تحل الذكرى الخامسة "للوكسة" الذاتية، متمثلة بما حدث بين الفلسطينيين من صراع دموي على السلطة، انتهى بالاقتتال الداخلي، الذي أحدث الانقسام، وبرأينا ربما كان هذا الحدث "مكملا" لنكبة ونكسة سابقتين، وهو لا يقل خطورة عنهما، لأنه أذا أراد الفلسطينيون أن يعيدوا التاريخ إلى الوراء، بشطب نتائج النكسة أولا ثم بإزالة آثار النكبة ثانيا، فلا بد لهم أن يتوحدوا، ومن أجل ذلك لا بد لهم من أن ينهوا الانقسام وان يغلقوا ملفه، وان يشطبوا ذلك اليوم الأسود من تاريخهم.
هل يعني ذلك أن تفويت الحراك الصاخب في يوم النكبة، يمكن احتماله إذا ما تم تعويضه بحراك مهم يوم النكسة، أو بتحرك حاسم يوم "الوكسة" ؟ ربما يكون الأمر كذلك، لكن وبغض النظر عن أيها أولا، التحرك اليوم أو بعد ثلاثة أسابيع أو بعد أربعة، فان الأهم هو إدراك ترابط السلسلة، بدء التحول في الوعي السياسي الفلسطيني بترابط ما هو ذاتي وداخلي بما هو خارجي.
حين انطلقت الثورة المعاصرة عام 65- 67 أدرك الفدائيون مبكرا، أهمية الربط بين البندقية والبرنامج السياسي، وجرى الحديث عن البندقية المسيسة حتى لا تكون بندقية قاطع طريق، كما كتب غسان كنفاني، والآن لابد من الربط بين محتوى الذات الوطنية وكيفية ترتيبها على أساس جمعي/ ديمقراطي وبين مواجهة حاسمة مع العدو الإسرائيلي. 
أي لا يمكن غض النظر عن الكفاح الديمقراطي ضد سلطتي الحكم، وضد فصائل مسلحة، غير ديمقراطية، مع كل الاحترام لما تقوم به من بطولات وتضحيات، وما قدمته وتقدمه من شهداء وأسرى، هم على أي حال فلسطينيون يضحون من اجل الوطن وليس من أجل أن تتحكم حماس أو فتح في الشعب الفلسطيني.
على مدار سنوات خمس من الانقسام، "انحدرت" التطلعات الفلسطينية، فصارت تتمحور في غزة حول شعار فك حصارها، وتوفير مستلزمات الحياة، من كيس الطحين إلى ليتر الوقود، أو توفير الطاقة الكهربائية، وفي الضفة، حول مواجهة البطالة، مواجهة الاستيطان والحواجز، ومكافحة الجدار، والآن يتحول كل الاهتمام إلى محاولة الكل الوطني والشعبي الحفاظ على حياة الأسرى، مع أن هذه القضية هي قضية سياسية بامتياز، كان يجب أن تغلق كهدف أول وقريب من أهداف المقاومة والمفاوضات معا.
لاشك أن نتنياهو سيكون مسرورا جدا حين يصله رد الرد عبر موفده للرئيس الفلسطيني، فأخيرا نجح في جر الفلسطينيين إلى إرجاء المطالبة السياسية بوقف الاستيطان والذهاب للأمم المتحدة، وإرجاء الاهتمام بكل الملفات الأخرى، أي انه نجح في جعل كل الفلسطينيين أسرى سجنه السياسي، حتى يجد الوقت والجهد للاعداد جيدا لعام قادم من الحسم على أكثر من جبهة، في مقدمتها بالطبع: جبهة الصراع المحوري والمركزي والأزلي مع الفلسطينيين على كل هذه الأرض، الذي يعيد الصراع نفسه إلى بدايته الأولى، وما هو إلا أقل من عام قادم حتى يجد الجميع أنفسهم _ وجها لوجه _ مع أصل المعضلة، المتمثل بتلك المفارقة: يوم محدد ومناسبة واحدة، يحتفل بها الإسرائيليون كيوم للاستقلال ويحتفي بها الفلسطينيون كذكرى للكارثة: النكبة.