انتخابات مصر تقود العرب إلى المستقبل
اكثر الجوانب التي تشير الى عمق التغيير في مصر يتمثل في عدم قدرة اي من المتابعين للحدث المصري توقع نتيجة الانتخابات الرئاسية ومن سيفوز بها. ينطبق هذا على جمهور الناخبين انطباقه على السياسيين وحتى على من هم من بواقي "المؤسسة" التقليدية للحكم، مثل المجلس العسكري ومن يحيط به. يعنى ذلك اننا امام تنافس حقيقي وديموقراطي على القيادة وامام تجربة عظيمة تقطع مع الماضي القريب والبعيد الذي امتاز بحكم الفرد الواحد, فرضا وقسرا لا انتخابا واختيارا. منذ عهد الفراعنة الاوائل ومرورا بالعهود البيزنطية والاسلامية وغيرها لم يشهد تاريخ مصر, وربما تاريخ العرب ايضا, مثيلا لهذا الحدث الكبير والعظيم وهو تتجسد ارادة عشرات الملايين من الشعب والناس العاديين في اختيار من يقودهم.
لأول مرة في تاريخ مصر الحديث, وتاريخ العرب الحديث, تجري انتخابات رئاسية من دون ان يكون الجميع على معرفة تامة ويقينية بالنتيجة سلفا ومسبقا، حيث يفوز الرئيس الأوحد والزعيم الأعظم والمتفرد, بالتخويف او التزييف او كلاهما. الانتخابات الرئاسية العربية في دولة ما بعد الاستقلال, وبنتائجها الفضائحية المعروفة دوما حيث فوز الرئيس الدائم والمرشح الوحيد بنسبة 99%, صارت تنتمي الى مجال السخرية والكوميديا السوداء ولم يعد لها علاقة بالسياسة الجدية. نمط الانتخابات الصورية ذاك معطوفاً على ترسخ الاستبداد وانماط الحكم القبلي والوراثي ابقت العرب خارج التاريخ الحديث.
تقدمت الامم وتبدلت انماط الحكم والسياسة في معظم اجزاء العالم في الوقت الذي تجمد فيه العرب, واستبد بهم استبدادهم فتكلست سياستهم واجتماعهم وثقافتهم وديناميتهم. الآن تغلق الانتخابات الرئاسية المصرية كثيرا من تلك المراحل, وتفتح مرحلة جديدة, وتنقل مصر والعرب معها الى غد افضل قوامه الحرية وارادة الناس والصراع السلمي على السلطة والتنافس البرامجي لخدمة الشعب الذي تؤول لإرادته الكلمة الفصل في تقديم من يتولى زمام القيادة. على رغم كل الشوائب وكل النواقص وكل التخوفات والانتقادات المحقة, تأتي الانتخابات الرئاسية المصرية بحمولة رمزية هائلة وتفتح افقا تفاؤليا كبيرا, وتنتزع صفتها التي سوف تلازمها ابدا وهي كونها حدث تاريخي بكل ما في الكلمة من معنى, يرسم خطا بين حقبة واخرى, بين ماض ومستقبل.
سيقول كثيرون ان التوصيف السابق يغرق في رومانسية وانشائية تدحضهما الوقائع والتخوفات والفوضى على الارض. ذلك انه على بعد خطوة واحدة من العرس الانتخابي الديموقراطي تتراكم مشكلات مصر التي تبدأ ولا تنتهي: اقتصاد منهك ومتدهور, بطالة كبيرة, فقر منتشر, فساد ومحسوبيات, نظام سياسي حديث العهد وهش امام وطأة السياسة وجبروتها, اصولية واصوليون يسيطرون على سياسة لا يعقلونها اصلا, نظام اقليمي متوتر فيه تغول اسرائيلي وتغول ايراني يتطلب قيادة مصرية غائبة, تربص اميركي ورقابة لصيقة بكل ما يحدث في مصر وحولها, جوار متفتت وتهديدات لا تني تتناسل, من انفصال جنوب السودان, الى الصومال, الى معضلات تقاسم مياه النيل. كل ذلك ربما يتقزم امام توقعات عشرات ملايين المصريين وفقرائهم من النظام الجديد, وهي توقعات لا يمكن حتى لحكومات اسكندنافيا مجتمعة ان تحققها في الامد القصير. هذا كله صحيح ودقيق ولأنه كذلك واستمر على ما هو عليه لعقود طويلة فإنه احتاج الى ثورة شاملة كي تغير النظام الفاشل والفاسد الذي ابقى على كل تلك الاختلالات. معضلات مصر او اي دولة اخرى خارجة من عقود عفن الفساد السياسي والاستبداد الطويل لا يمكن ان تُحل عبر اسقاط النظام وحسب. ولن تُحل مباشرة عقب اجراء انتخابات برلمانية او رئاسية. والذين انتظروا من ثورات الربيع العربي ان تحقق المعجزات فقد ظلموها بتوقعاتهم المُتسرعة, وتناسوا في غمرة رفع سقف تلك التوقعات وطأة الإرث المتراكم الذي خلفته انظمة الاستبداد في بلدانها. الاكثر معقولية وواقعية هو ضرورة الانفلات من أسر الزمن المباشر لما بعد سقوط النظام, وإنكشاف الدمار والخراب الذي خلفه وراءه. إنه عفن عقود طويلة ويحتاج سنوات طويلة لكنسه.
لهذا ثمة ضرورة بالغة في إبقاء المنظور التاريخي العريض مرافقا للتحليل والتأمل, وهو يفيدنا لجهة موضعة التغير الذي جلبه الربيع العربي في إطار التحولات الكبرى التي رغم جذرية ما تأتي به من قلب الوضع القائم, إلا انها تستلزم زمنا مريحا لتأتي ببديله. الأهمية الكبرى للانتخابات المصرية تتعدى بطبيعة الحال الرمزية التاريخية, ذلك انها خطوة تأسيسية كبرى في سياق بناء النظام السياسي والدستوري الجديد في مصر, النظام الذي يتحرر الآن من ممارسة استبدادية طويلة الامد حامت على مدار قرون حول حكم الفرد الواحد. هناك معيقات كبيرة وهناك تخوفات وهناك شكوك في استقواء "الفلول" وعلامات استفهام حول مواقف المجلس العسكري, وحنق متبادل بين الاطراف السياسية واتهامات بالجملة. وهذه هي سمات الديموقراطية والصراع السلمي على السلطة.
البديل عن ذلك كله هو الحكم الدكتاتوري, او الصراع على السلطة عبر استخدام القوة وإسالة الدماء حيث يؤول الحكم للأقوى والاقدر على فرض بطش اكبر. عبر عملية الصراع المريرة (لكن السلمية) على السلطة فإن الرأي العام, مجاميع وافرادا, يندرجون في عملية فهم وممارسة الديموقراطية على الارض وفي الواقع وليس تنظيرا وتغزلا فيها عن بعد. العملية الديموقراطية ممارسة مليئة بالصعوبات والعقبات والاحباطات, وفيها تتجلى بشاعة السياسة حيث تبادل الاتهامات, والنكوص عن الوعود, وتجميل الكذب, وتغيير التحالفات, ومحاولة شراء الولاءات, وسوى ذلك كثير مما نراه حتى في اكثر الديموقراطيات رسوخا في العالم – وهو ما رأيناه ايضا في الانتخابات المصرية, البرلمانية والرئاسية. لكن ذلك كله لا يعيب الديموقراطية بل يؤكد على شرعيتها واهميتها وانها الآلية السياسية الوحيدة لإدارة الصراع داخل الوطن الواحد من دون عنف.
والديموقراطية ليست مشروعا ناجزا في اي مكان في العالم فهي اقرب الى السيرورة الدائمة التي تحتاج الى تطوير وتحسين وتصويب بشكل دائم, وليس هناك اي زعم حتى عند اكثر انصارها حماسة بكمالها وانتفاء النواقص عنها. الديموقراطية فيها إشكالات وعيوب عديدة, لكنها بالمقارنة مع كل النظم السياسية الاخرى التي انتجها البشر وعرفها التاريخ تظل افضل نظام للحكم وصل اليه الإنسان. فهي على الاقل تضمن امرين في غاية الأهمية والمركزية لضمان حياة صحية وآمنة وناجحة للمجتمعات: عدم اللجوء للعنف والدم, الذي اشير إليه اعلاه, واطلاق الحريات وحمايتها. فالحريات بأنواعها جميعا هي الرأسمال الحقيقي للشعوب والمجتمعات, لأنها تطلق طاقات الافراد وابداعاتهم في كل المجالات, ولأنها توفر آلية النقد الدائم, عبر الاعلام الحر وعبر آليات التعبير الشعبي كما في منظمات المجتمع المدني راهنا. وتمؤسس النقد والمحاسبة والشفافية سواء عن طريق النظام السياسي نفسه, او عن طريق ديناميات المجتمع المفتوح نفسه هي التي تضع القيود والاجراءات الوقائية ضد اية نزعات استبدادية, سياسية كانت ام غيرها.