الثقافة كوسيلة لخنق النفس

تقع الثقافة بين نظرتين، وسيلة اتصال توظف في الكثير من الأحيان مع آخرين تضيق دائرتهم وتعتمد على هوية جزئية، وانفصال عن آخرين لا ينتمون إلى هذه الدائرة. ونظرة توسع من شبكة العلاقات وتشدها إلى أفق مفتوح. بما يجعل الثقافة تقع بين نظرتين، الأولى تنظر إلى الثقافة كأداة انعزال في مواجهة الآخرين والتعامل معها كسجن، والثانية ترى الثقافة كأفق إنساني واسع وجامع مع اعتبار الهويات دليل غنى، لا دليل تقوقع.

يمكن إحالة معظم الصعوبات التي يواجهها البشر في التعامل مع بعضهم البعض إلى الانحرافات في التواصل، أو فقدان هذا التواصل من خلال الاعتماد على ثقافة تُعلي من الجزئي على حساب الكلي. في حياتنا اليومية هناك الكثير من السلوكيات، التي نجد البشر عالقين فيها وتتحول إلى سلوك نمطي دون أن يدركوا ذلك. لكن هذه الممارسة الحياتية تأتي من خلفية ثقافية ذات طبيعة مغلقة، وهي ما يمكن تسميته «ثقافة السجن» إنها في الحقيقة سجن حقيقي، لأن من يعيش داخلها، لا يعرف أنه يوجد مفتاح لفتح قفل سجنه. إذا كان من الصحيح أن الثقافة تقيّد البشر بعدة طرق، فإن التقييد الذي تمارسه الثقافة يمكن أن يذهب في اتجاهات متناقضة. فالبشر يستطيعون تطوير الثقافة كوسيلة لخنق أنفسهم، أو يمكنهم تطويرها كوسيلة للعيش المشترك ولفتح أفق إنساني لبناء الصلات مع الآخرين، لا لقطعها.

إن فهماً حقيقياً للثقافة يجب أن يعيد إنتاج الحياة بوصفها وسيلة للتواصل بين البشر، وأن يساعدهم على اكتشاف أنفسهم وتنمية صلات غنية بينهم، يرون الجامع والمشترك، ويمتنعون عن النظر إلى الآخرين الشركاء في العالم أو في الوطن أو في المدينة أو في المجتمع بوصفهم متآمرين عليهم يريدون التخلص منهم، بل النظر إليهم بوصفهم شركاء في الكثير من المعايير والقيم والحقوق والواجبات، رغم التمايزات الخاصة لكل فرد من انتماءات وهويات جزئية، ليس بالضرورة بناءها في الضد من هذا المشترك. وهو الفرق بين أن تكون الهويات الجزئية مظهراً من مظاهر التنوع، وبين أن يتم توظيفها لإنتاج العنف والتعصب، على اعتبار أنها هويات نهائية ومتاريس لا بد منها من أجل مواجهة الآخرين الذين يترصدون بنا بالسلاح.

يمكن القول أن الثقافة هي الإنسان بمعناه الواسع، فهي تشكل الصلة بين البشر والوسيلة التي يجب أن يتفاعلوا بها مع بعضهم البعض. إن القيمة الثمينة ذات المعنى لحياة الإنسان هي نتيجة للملايين من التمازجات الممكنة المتضمنة في ثقافة متعددة. لكن هذه المقاربة ليست المقاربة الوحيدة للثقافة. هناك المقاربة «الانعزالية» التي من الممكن أن تكون طريقة لإساءة فهم كل شخص في العالم. إننا في حياتنا العادية نرى أنفسنا أعضاء لعدد متنوع من الجماعات، ونحن ننتمي إلى كل هذه الجماعات في آن، كأن يكون واحدنا، من بلد معين، ومن دين معين، وينتمي إلى حزب معين، ويمارس مهنة معينة، ويشجع نادي رياضي معين، وهو شخص ليبرالي مناصر لقضايا حقوق الإنسان. ويمكن اختزال هذا الغنى وتعريض إنسانيتنا المشتركة لتحديات وحشية، عندما نحشر بعضنا البعض في قوالب تصنيف مزعومة ووهمية تعتمد على هوية جزئية. إن الكثير من الصراعات الدموية تتغذى على وهم هوية متفردة نقيّة لا يتشارك الآخرون معنا فيها. و«فن بناء الكراهية» كما يقول الهندي أمارتيا صن، يأخذ شكل إثارة القوى السحرية لهوية مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى. تعطي هذه الهوية شكلاً ملائماً ميالاً للقتال، حيث يهزم أي تعاطف إنساني أو مشاعر شفقة فطرية قد تكون موجودة في نفوسنا بشكل طبيعي. ومن الصحيح أيضاً كما يقول صن نفسه أن العنف ينتج عن «الآثار المروعة لتصغير الناس» أو بالأصح لتصغير الآخر المختلف والشريك في العالم والوطن والمدينة وحتى الحي. والقواعد التي يقوم عليها الحط من قدر الآخرين لا تتضمن فقط المزاعم المغلوطة، ولكن أيضاً الوهم بأن هوية مفردة يجب أن يربطها الآخرين بالشخص لكي يحطوا من قدره. لذلك يمكن للهوية أن تقتل وبلا رحمة. ففي حالات كثيرة يمكن لشعور قوي بانتماء يقتصر على جماعة واحدة، أن يحمل معه إدراكاً لمسافة البعد والاختلاف عن الجماعات الأخرى، فالتضامن الداخلي لجماعة ما يمكن أن يغذي التنافر بينها وبين الجماعات الأخرى، ويتم تصعيده إلى مستوى القتل. ولا شك بأن الصلات بين الثقافة والحقل السياسي وثيقة جداً، كذلك الصلة بين التعصب الثقافي الأعمى والطغيان السياسي وثيقة جداً أيضاً، خاصة في المجتمعات التي تعاني من سلطات شمولية وتنعدم فيها الحرية. يعتمد الطغيان على التعصب الأعمى على أساس هويات جزئية، ويتمترس وراءه كخندق دفاع عن المصالح، والسلطات تستثمر هذا التحيز الأعمى وتتخذه ذريعة لتبرير فشل أجهزة حكمها في انجاز مهماتها على الوجه الطبيعي. في ظل هذه الشروط فإن كل شيء يدفع باتجاه العنف الذي يختزل البشر إلى بعد أحادي ويحجب أبعادهم الأخرى التي تجمعه معهم. إن هذه الرؤية الأحادية للآخر هي رؤية متخلفة وعدوانية والغائية تضع الجماعات البشرية على طريق صراع دموي واضح المعالم.

إذا كانت «الثقافة ليست ما نحيا به وحسب. فهي أيضاً ما نحيا لأجله»، وإذا كان «من الممكن للثقافة أيضاً أن تكون مخيفة ومرعبة» كما يقول أيغلتون. فإننا نقول معه أيضاً أن الثقافة التي اكتسبت أهمية سياسية جديدة، أنها غدت في الوقت ذاته أبعد عن التواضع وأقرب إلى الغطرسة. ولقد حان الوقت، أن نعيدها إلى مكانها المناسب، كوسيلة للتواصل الايجابي بين البشر، ليس على المستوى العالمي فحسب، بل وفي الحيز المحلي أيضاً.