مصر "المقترضة" .. تحت هيمنة صندوق النقد الدولي!!
يُقال إن أزمة الاقتصاد المصري وتزايد معدلات الفقر، بدأت منذ اتخذت الحكومات المصرية المتعاقبة وسيلة للاقتراض من البنوك الأجنبية منذ عهد الخديوي إسماعيل، الذي لم يعرف أحد سبباً وجيهاً لاقتراضه المستمر من المصارف الخارجية، ويقال إن مصر المحروسة ذهبت ضحية هذه القروض وأدت إلى هيمنة الاستعمار البريطاني على مصر، إلاّ أن البنوك الأجنبية، وصندوق النقد الدولي تحديداً، رفضت الإقدام على أي خطوة باتجاه دعم الاقتصاد المصري في الظروف الصعبة، ورأينا كيف أن البنك الدولي وضع شروطاً صعبةً على نظام عبد الناصر، لتمويل بناء السد العالي، وهي شروط رفضها الزعيم المصري آنذاك، مع أنها هي ذات الشروط المتداولة التي يصفها البنك لدى كل عملية اقتراض دولية، وكان من بين تلك الشروط وقف صفقة الأسلحة التي عقدتها مصر مع تشيكوسلوفاكيا وعدم فتح مصر أمام "النفوذ السوفياتي"، ولدى رفض البنك الدولي إقراض مصر لتمويل السد العالي، شنت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل العدوان الثلاثي عام 1956، مع ذلك استمر بناء السد العالي منذ بدئ العمل به عام 1960، وافتتح عام 1970 بتكلفة 400 مليون جنيه.
نأتي على هذا الموجز لطبيعة عملية الإقراض الدولية، خاصة من صندوق النقد الدولي، على ضوء المباحثات الجارية الآن بين مصر والصندوق لاقتراض 4.8 مليار دولار، وما نجم عن ذلك من ردود فعل داخلية مصرية، يغلب عليها رفض هذا الاقتراض، خشية العواقب الاقتصادية الداخلية، وكخوف مبرر من هيمنة الولايات المتحدة على إرادة القرار المصري. في شباط الماضي، رسم صندوق النقد الدولي صورة قاتمة للوضع الاقتصادي المصري، معتبراً أن النمو الاقتصادي متوقف وكانت هذه أول إشارة من الصندوق إلى أن إنقاذ هذا الوضع يتطلب الاقتراض من الصندوق في ظل تقارب أميركي ـ مصري واضح بعد ثورة 25 يناير، وكان وصول جماعة الإخوان المسلمين للرئاسة، كفيلاً ببدء المفاوضات الجدية لإنجاز هذا الغرض، بعدما تعثرت جهود الإقراض، خلال حكومة الجنزوري، بسبب تحفظات سياسية وعقائدية وضعتها جماعة الإخوان؛ الأمر الذي أعاق في ذلك الوقت الطلب المصري باقتراض ما يزيد على ثلاثة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي.
الرفض التقليدي للاستدانة من صندوق النقد الدولي، كان يرتكز في مصر إلى التخوف من أن شروط الإقراض تنتقص من السيادة وتضع شروطاً تؤدي بقطاعات اقتصادية واجتماعية إلى الانهيار، وكذلك التخوف من التبعية السياسية لدوائر القرار الأميركية، إذ إن الصندوق بمثابة أداة اقتصادية تستخدمها الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها على مستوى العالم، وكثير من الدول التي اضطرت إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، كان مآلها الإفلاس والتخلف، ومن أسباب الرفض الأخرى أن الاعتماد على الاقتراض الخارجي، يأتي في معظم الأحيان، كحل أسهل من اتخاذ خطوات اقتصادية هيكلية داخلية ومكافحة الفساد، ويكون الاقتراض من البنك الدولي، هو الحل الذي تسعى إليه الولايات المتحدة بالتوافق مع الدولة المقترضة والتي وقعت فريسة سهلة لشروط الصندوق الدولي. إلاّ أن أحد أسباب رفض الاقتراض، في الثقافة المصرية عموماً، يعود إلى ثقافة التيارات الإسلامية التي ترى في هذا الاقتراض خروجاً عن الدين وحراماً، باعتباره عملاً ربوياً، هكذا كان رأي جماعة الإخوان المسلمين في عهد مبارك، وهكذا يتحول هذا الرأي في عهد رئاستها لمصر، إلى ضرورة تبيحها المحظورات كما جاء على لسان بعض أقطاب الجماعة لتبرير الانزلاق وراء الفخ الأميركي والاقتراض من صندوق النقد الدولي.
إن من شأن إتمام المحادثات حول هذا القرض وفقاً لشروط صندوق النقد الدولي، أن يؤدي إلى احتجاجات شعبية واسعة، بدأت منذ اللحظة الأولى عندما تجمعت تظاهرة حاشدة أمام أبواب قصر الاجتماع الذي جمع بين الرئيس المصري ورئيس صندوق النقد الدولي، احتجاجاً على القرض، في وقت ظلت زعامات جماعة الإخوان تشير إلى أنه ليست هناك شروط من صندوق النقد الدولي لإتمام القرض، وهي إشارات سطحية تثير السخرية، فوسائل الإعلام الأميركية، أشارت إلى أن الصندوق طلب من مصر الالتزام ببرنامج تقشف صارم يتمثل في خفض عجز الموازنة العامة بالعمل على زيادة العائدات وتحجيم الإنفاق العام، وذلك من خلال رفع الدعم عن عدة مواد ضرورية للمواطن المصري، كالوقود والطعام، هذا الدعم الذي تستفيد منه شرائح اجتماعية مصرية واسعة. وقبل مغادرة الرئيس مرسي إلى طهران للمشاركة في أعمال قمة دول عدم الانحياز، تداولت وسائل الإعلام المصرية المختلفة، أن هذه الزيارة الرئاسية، ستؤدي إلى إعادة العلاقات المقطوعة بين القاهرة وطهران، إلاّ أن هذه الوسائل، عادت من جديد، كي تنفي ذلك بعد تصريحات رئاسية بهذا الصدد، في حين ان بعض الأوساط أشارت إلى أن "العودة" عن إعادة العلاقات، كانت جراء تدخل أميركي سافر بضرورة عدم الإقدام على مثل هذه الخطوة، ما يذكرنا بما سبق أن أشرنا إليه من شروط وضعها صندوق النقد الدولي لتمويل السد العالي في عهد جمال عبد الناصر، بضرورة إلغاء صفقة السلاح التشيكوسلوفاكية، وإذا صحت ما ذهبت إليه هذه الأوساط، فإن ذلك يعتبر إشارة مبكرة إلى القيود التي تضعها الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي على القرار المصري المستقل!!.
والمعروف أن قرارات بمثل هذه الخطورة، الاقتراض من صندوق النقد الدولي بحوالي خمسة مليارات دولار، يتطلب موافقة تشريعية، من قبل مجلس الشعب، الذي باتت صلاحياته مناطة بالرئيس، رئيس السلطة التنفيذية، وفي حال إجراء انتخابات تشريعية قادمة، كما وعد مرسي، فهناك احتمالات متزايدة إلى أن لا يكون للجماعة الأغلبية الكافية لإقرار هذا القرض، إلاّ إذا كانت هناك ضمانات أميركية بأغلبية إخوانية كمحصلة للانتخابات القادمة لمجلس الشعب، إذ إن عدم توافر مثل هذه الأغلبية من شأنه أن يلغي كل ما تم الاتفاق عليه، والمرجح أن صندوق النقد الدولي، الأداة الاقتصادية الأميركية على الصعيد الدولي، لن يقدم على مثل هذه المغامرة من دون ضمانات محسوبة جيداً.