ولا شعراء يصفون ما جرى
ليس ثمة شعراء، يصفون ما جرى في داريّا، إحدى أيقونات ريف دمشق، الماكثة في الخاصرة الجنوبية الغربية، للمدينة العتيقة، أقدم عواصم التاريخ. تكاد داريّا تلامس حي المزة. لها مع النكبات حكايات، لأن الغزاة والمستبدين وعُتاة الكراهية؛ يستفزهم دائماً الأجمل المحبّب وذو الكبرياء.
جاءها الشاعر البحتري وفيها تدفقت عاطفته ولغته. كان يغمس عينيه في أرجاء المكان، فينسج صوراً شعرية، تنطق بالحياة والنَغَم، ويرسم التفاصيل، بمفردات حسيّة، مشبعة بانفعالات مضطرمة. قبل البحتري، كان فيها حسان بن ثابت، شاعر الرسول عليه السلام، وقد تغنى بها شعراً. وعلى الرغم من كل ما مرّ عليها، لم تعرف داريّا مثل ما جرى لها في يوم الجمعة، على أيدي الأسديين الأشرار، الذين يؤلهون أنفسهم، وهم ليسوا إلا أدعياء نضال وقومية، لم يَصْدقوا ولم يفلحوا في شيء.
هؤلاء الذين يزعمون، أنهم سيواجهون المستعمر "في الوقت والمكان المناسبيْن" ويتجاهلون أن خلق الله في العالمين، باتوا على قناعة، أن سوريا لو وقعت في أيدي كل المستعمرين القدامى والجدد في وقت واحد، لما اقترف المستعمرون الأغراب، جريمة واحدة بحجم جرائمهم في يوم واحد! في داريّا، تجمعت وتكثّفت عناصر الإنسان، القادم من الجزيرة العربية واليمن وسائر بلاد المغرب والمشرق. حافظ اللاحقون فيها، على تراث الأقدمين، ومن بين شواهدها، قبر حزقئيل، أحد أنبياء بني إسرائيل، الذي حمل رسالة الوعيد لبني قومه، والتحذير من العربدة لأن "الله قد وعد بمعاقبة ذوي الخطيئة".
وفي داريّا، كان مجسّم إله الحب عند الرومان. في عهد هارون الرشيد، أحرق المدينة ذوو الفتن، وعلى رأسهم أبو هيذام، الذي فيه بعض سمات حافظ الأسد وابنه وليس كلها. غزاها الصليبيون في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، ثم عاود التتار إحراقها في نهاية القرن الرابع عشر، وعاثوا فيها فساداً. أما الفرنسيون، فقد قصدوها في العام 1926م للإجهاز على أحرار سوريا، ووقعت "معركة داريا" التي أبلى فيها الأحرار بلاءً حسناً. لكن الفرنسيين، لم يجمعوا أهل داريّا في وسط البلدة، لكي ينفذوا فيهم حكماً بالإعدام الجماعي، مثلما فعل القتلة من سلالة التتار، الجاثمون الآن على قلب سوريا. إن ما وقع في داريّا يوم الجمعة، وفي أرجاء سوريا كلها في ذات اليوم، لا يجد من يصفونه من الشعراء الأفذاذ الأقدمين أو المحدثين. الجريمة يمكنها تخليق مطولات أخرى، للشاعر الفيلسوف المتنبي، ومعه أبو تمام، وثالثهما البحتري.
الأولان حكيمان، والثالث شاعر، مثلما قال أبو العلاء المعري. يرسم الأولان خلفيات المشهد، ويستكمل الثالث بالوصف الشامل. داريّا، إحدى أيقونات ريف دمشق، التي تزنّر المدينة العتيقة، بطوق من زهور. الريف كله، يتوافر على عبقرية جمالية بديعة، بحجم ثلثي مساحة فلسطين الكاملة.
لكن داريّا، دون سواها، كانت لصيقة دمشق، مسيراً ومصيراً، على مر الأزمان. يبدو أن الهجوم على المزّة، انطلق منها لإسقاط أحد معاقل التتار الجدد. الأخيرون، اقترفوا المجزرة، ولا شعراء يصفون، لكن الله هو صاحب الوعد بمعاقبة ذوي كل خطيئة، وله من أبناء سوريا الأحرار وسيلته الأمضى!