المسموح والمحظور في مسألة التمثيل

مجرد جولة من الصراع على التمثيل الفلسطيني، انتهت، بتراجع إيران عن دعوتها لرئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنية، لحضور مؤتمر عدم الانحياز الذي ينعقد في طهران، لكنها ليست نهاية هذا الصراع، وإنما هي واحدة من المؤشرات الحقيقية، على مدى عمق وخطورة الانقسام الفلسطيني. حينما بادر الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لتوجيه الدعوة لرئيس الحكومة المقالة في غزة، كان يعرف ماذا يفعل، ويعرف التداعيات المتوقعة لمثل هذا التوجه، وعرف أيضاً أن مثل هذا السلوك، يحتسب على موقف إيراني منحاز لصالح حركة حماس في الصراع الداخلي الفلسطيني. لم تجرؤ دولة عربية مهما بدا موقفها منحازاً أو محابياً للحكومة في غزة، على أن تفعل ما فعله الرئيس الإيراني، حتى عندما دعت قطر لقمة عربية طارئة في الدوحة، إبان الحرب الإسرائيلية على غزة مطلع العام 2009، فإنها وجهت الدعوة لحركة حماس في إطار دعوة أوسع شملت الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية القيادة العامة، بالإضافة إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الذي قاطع القمة، كما قاطعتها عدد من الدول العربية، ما أفقد "القمة" صفتها، وطبيعتها، وحولها إلى مجرد اجتماع تحضره عدد من الدول العربية، لا يرقى إلى مستوى القمم العربية حتى الضعيفة منها. الفارق كبير وجوهري بين دعوة فصائل، أو قيادات سياسية، وبين دعوة مؤسسات، خاصةً حين يجري الحديث عن مؤتمرات ذات طبيعة دولية موسعة كعدم الانحياز التي تتجاوز عضويتها السبعين دولة.

الكثير من هذه الدول لا تبدي اهتماماً متساوياً للقضية الفلسطينية، وطبيعة الصراعات الفلسطينية الداخلية، كما هو الحال الدول العربية، والإقليمية التي لديها أجندات ومصالح تتصل بشكل مباشر أو غير مباشر بالوضع الفلسطيني. في زمن سابق على مرحلة أوسلو، كانت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، تقيم علاقات مباشرة مع الدول، وبعضها تفتتح لها مكاتب رسمية، وتعين مسؤولين يقومون بنشاطات سياسية وحتى دبلوماسية، لكن لم يكن لذلك أي أثر على التمثيل الرسمي الفلسطيني الذي ظل حصرياً بمكاتب وممثليات وممثلي منظمة التحرير الفلسطينية.

وفي كثير من الحالات كانت الفصائل تتلقى دعوات رسمية لحضور بعض المؤتمرات والمحافل الإقليمية والدولية، لكن تلك الفصائل لم تكن مؤسسات متنازعة، ولم تكن لتتجاوز التمثيل الفلسطيني الرسمي الموحد، لأن كل الفصائل كانت جزءا من منظمة التحرير ومن النظام السياسي الفلسطيني، وهي كانت تخوض صراعاتها السياسية وغير السياسية من داخل المؤسسة الموحدة، وعلى القرار فيها. ولم تطرح يوماً إطاراً بديلاً حتى في أوقات اشتداد الصراع، مثلما حصل عام 1974، حين تشكلت جبهة الرفض الفلسطينية على إثر إقرار المجلس الوطني للبرنامج المرحلي الذي كان محل خلاف شديد. الأمر الآن مختلف تماماً عما قبل، فالنظام السياسي الفلسطيني يتعرض منذ أواسط العام 2007 لانقسام عامودي وأفقي، يعزز فيما هو معروف عملياً، نظامين سياسيين واحد في الضفة، والآخر في غزة، وكل له رؤيته وبرنامجه وتطلعاته ومؤسساته التي تتنازع الشرعية. حركة حماس ومعها حركات أخرى ليست جزءا من منظمة التحرير الفلسطينية، وهي منذ بداياتها الأولى، نشأت كبديل عن المنظمة، وتواصل العمل على هذا الأساس، رغم كل الحوارات التي جرت لضم هذه الحركات للمنظمة، بما في ذلك الاتفاق الأخير الذي تم بموجبه حضور ممثلين عن حماس والجهاد الإسلامي لاجتماعات الإطار القيادي المؤقت للمنظمة وذلك في إطار المصالحة الفلسطينية. كان مفهوماً لدى الكثيرين، أن قبول حماس بالانضمام للإطار القيادي المؤقت للمنظمة، هو جزء من صفقة المصالحة، وربما كان ذلك يعني أن الحركة بدأت تقتنع بضرورة خوض الصراع على القرار والمؤسسة والتمثيل من داخل منظمة التحرير، غير أن كل هذه الاعتقادات، والمراهنات والاحتمالات لم تعد قائمة طالما أن رياح التغيير العربي قد أطاحت بها، حتى لم يعد بالإمكان التفاؤل بشأن إمكانية تحقيق المصالحة.

موضوعياً، من حق حركة حماس، وأي فصيل أو حركة فلسطينية أن تقاتل من أجل سيادة برنامجها، وأن تعمل من أجل تعزيز موقعها في مؤسسة وعلى سلطة القرار الفلسطيني بما في ذلك التمثيل الرسمي، لكن الأهم هو من أي موقع وبأي الوسائل يمكن ممارسة هذا الحق على نحو يحمي القضية، ويحافظ على وحدة الشعب، ووحدة نضاله وأهدافه؟ خلال مرحلة الانقسام حاولت حركة حماس، الحصول على شرعية عربية تؤدي إلى الاعتراف بحكومتها في غزة، والاعتراف بالأمر الواقع الفلسطيني القائم على الانقسام، وهي تدرك مدى أهمية وصعوبة هذا الأمر، لكنها كانت تقبل اعترافاً موازياً للاعتراف القائم بمنظمة التحرير، والسلطة، إذ لم يكن ممكناً أن تبادر أي دولة إلى الاعتراف بحكومة حماس في غزة أو بحركة حماس ممثلاً للفلسطينيين، وأن تسحب اعترافها بالمنظمة والسلطة، التي تحظى باعتراف دولي واسع، ولها مواقع رسمية في معظم المؤسسات الدولية والإقليمية والعربية. إن مسألة الاعتراف بالتمثيل الفلسطيني مسألة دولية معقدة، وطالما أن المجتمع الدولي بمؤسساته الجامعة والفرعية، ما تزال تعترف بمنظمة التحرير، فإن تغيير هذه الوضعية بالاستغناء عنها أو باستبدالها تقتضي تغيراً في السياسات والمواقف الدولية.

وعلى سبيل المثال، فإن إيران ما كانت قادرة على مواصلة التمسك بالقرار الذي اتخذه رئيسها نجاد، بدعوة رئيس الحكومة المقالة، لأن من شأن غياب الرئيس الفلسطيني أن يؤثر على مواقف دول أخرى، قد ترفض حضور المؤتمر، الأمر الذي سيؤثر على وحدة حركة عدم الانحياز وأيضاً على إمكانية نجاح المؤتمر، الذي تحرص إيران على نجاحه، خصوصاً فيما هي تخوض صراعاً مريراً مع الدول الغربية وإسرائيل، بشأن ملفها النووي ودورها الإقليمي. حتى إسرائيل لم تجرؤ على اتخاذ قرار بسحب اعترافها بمنظمة التحرير ممثلاً للفلسطينيين، إذ أنها الطرف الذي وقع معها ويلتزم باتفاقيات أوسلو، قد تسعى إسرائيل لإضعاف السلطة والمنظمة وقد يطالب بعض المسؤولين السياسيين في إسرائيل بعزل الرئيس عباس، أو عدم الاعتراف به كشريك، كما حصل سابقاً مع الرئيس الراحل ياسر عرفات ويحصل اليوم من قبل أفيغدور ليبرمان، لكن الأمر لا علاقة له بالمؤسسات التي تعترف بها وتتعامل معها اسرائيل مضطرة.

إن شئنا الحقيقة فإن جوهر الحصار المفروض على قطاع غزة، وأساسه، هو جوهر سياسي، ويتصل بطبيعة القوى المسيطرة على قطاع غزة والموقف منها، ولذلك كان من المهم النظر للزيارات الخارجية التي قام بها الأخ إسماعيل هنية رئيس الحكومة المقالة إلى عدد من الدول العربية والإقليمية، على أنها الأهم في مجال النضال من أجل خرق أو رفع الحصار. لقد حققت الحكومة المقالة ما يرقى إلى مستوى الاعتراف الرسمي، حين زار رئيسها إيران ومصر، وقطر وتونس وتركيا، وجرى استقباله بمراسيم رسمية أو شبه رسمية، من قبل جهات مسؤولة موازية في تلك الدول، الأمر الذي يحتسب على لائحة المكاسب السياسية لحركة حماس، وتحققت بفضل تغييرات الربيع العربي التي حملت إلى الحكم أنظمة إسلامية، أو إلى طبيعة سياسات واستراتيجيات بعض تلك الدول مثل إيران وقطر. هنا يصبح الوضع الفلسطيني أمام واحدة، من أهم وأخطر تداعيات الانقسام الفلسطيني في حال استمراره، وهو الانتقال بالصراع الداخلي من حيز التنازع حول الشرعية، والمؤسسة الوطنية، إلى التنازع حول التمثيل الوطني والمشروع الفلسطيني.

والحال أنه لا يمكن ترك المسألة للمستقبل، إذ أن الأمر يحتاج إلى معالجة وطنية فلسطينية تضمن وحدة المؤسسة والتمثيل، لأن غياب هذه الوحدة، من شأنه أن يؤدي إلى تغييب القضية الفلسطينية، أقلها لسنوات كثيرة، وبالتالي فإن الموقف من هذه القضية يرقى إلى مستوى معايير الوطنية الفلسطينية. في هذا الإطار فإن الرئيس عباس كان محقاً حين اتخذ موقفه الحازم من مسألة حضور قمة عدم الانحياز، والأمر سيختلف لو أن الفلسطينيين اتفقوا على مشاركة الجميع في الوفد الذي يرئسه الرئيس عباس، أو من ينتدبه، وفي مثل هذه الأمور لا تنفع المناشدات، ودغدغة العواطف ومخاطبة الضمير الذاتي، الذي لا ينفع بدوره في تغيير أصول العمل السياسي، وأجندات القيادات السياسية المنظمة والملتزمة.