خلاف داخل البيت ومؤقت

بقوة تقتحم إسرائيل مربع "الزمن الحرج" الذي يسبق انتخابات الرئاسة الأميركية التي ستجرى في الرابع من شهر تشرين الثاني المقبل، لتمارس أقصى ما تستطيع الضغط والابتزاز للحصول من مرشحي الرئاسة الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري ميت رومني، على مواقف ووعود وتعهدات لصالح سياساتها ومصالحها. الرجلان أوباما ورومني تجاوزا المقطع الأخير بحصولهما على الترشح رسمياً من قبل مؤتمري الحزبين، وبدآ حملاتهما الانتخابية، بدون أن تتوفر لدى أي منهما الثقة بقدرته على الفوز. خلال العام المنصرم على الأقل دأبت إدارة أوباما على تقديم الكثير من الدعم والمكافآت لإسرائيل والتواطؤ مع كل ما ترتكبه من جرائم، وتقديم دعم عسكري نوعي لضمان تفوقها، حتى قال الرئيس أوباما عن حق إن إسرائيل لم تحظ في تاريخها بدعم وقوة العلاقات التي تحققت للعلاقات الأميركية- الإسرائيلية في عهده. لقد أدار أوباما ظهره لكل الوعود، والأحلام التي أطلقها في الأشهر الأولى من تسلمه وظيفته الرسمية كرئيس للولايات المتحدة، وتحمل فوق ذلك الكثير من الإهانات التي وجهتها له ولبعض أركان إدارته بعنجهية قيادات سياسية إسرائيلية رسمية، وفي المقابل لم يتوقف الضغط الذي مارسته وتمارسه إدارة أوباما على الفلسطينيين، وكل ذلك أملاً في شراء رضى إسرائيل واللوبي اليهودي الأميركي وبالتالي أصوات ودعم أصوات اليهود لصالحه.

على أن مسيرة العلاقات بين إسرائيل وإدارة الرئيس أوباما، تشهد نكراناً للجميل من قبل إسرائيل، التي لا تكتفي حكومتها وساستها بما قدمته الإدارة الأميركية من دعم سخي وتأييد مطلق، هذه المسيرة كان لا بد من أن تصل إلى عقدة صعبة لا تستطيع معها إدارة أوباما مواصلة سياسة التساهل والتبعية التي انتهجتها. لا حدود لطلبات إسرائيل، ولا حدود لعنجهيتها، وممارساتها الفوقية حتى إزاء حلفائها، فلقد أدرك نتنياهو أهمية الاقتراب من مربع الزمن الحرج، ليدخل في اشتباك مع الإدارة الأميركية، على خلفية موقفها من الملف النووي الإيراني.

وعلى الرغم من أن الرئيس أوباما قد صرح أكثر من مرة، أن بلاده لن تسمح لإيران النجاح في امتلاك السلاح الذري وأن كل الخيارات مطروحة، إلا أن إسرائيل تسعى وراء ضمانات أميركية ملموسة، بمنع إيران من تحقيق ذلك. وبدلاً من أن تدير إسرائيل خلافاتها مع الإدارة الأميركية عبر القنوات الدبلوماسية، وبهدوء يليق بحليفين تاريخيين، تعمد نتنياهو أن يوجه نقداً شديداً للرئيس أوباما خلال استقباله رئيس لجنة الكونغرس لشؤون الاستخبارات مايك روجرز، بحضور السفير الأميركي في إسرائيل دان شابيرو، الأمر الذي يقال حسب الصحافة الإسرائيلية إلى أنه أدى إلى شجار هادئ بين الطرفين. يدعي نتنياهو أن أوباما يمارس ضغوطاً على إسرائيل، لمنعها من توجيه ضربة عسكرية للمشروع النووي الإيراني، الذي يهدد وجودها، وذلك بدلاً من أن يعمل ما فيه الكفاية لمنع إيران من النجاح في مشروعها، ما دعى السفير شابيرو لأن يرد على ذلك مذكراً بما قاله الرئيس أوباما في هذا الشأن. وعملياً فإن هذه الواقعة تشكل امتداداً لموقف أميركي ورد على لسان الجنرال مارتن ديمبسي رئيس أركان الجيش الأميركي، الذي أوضح أنه لا يريد أن يكون شريكاً لمشروع إسرائيل وأن هجوم إسرائيل لن ينجح في تدمير المشروع النووي الإيراني، فقد يؤخره أو يعطله لوقت قصير، لكنه سيخرب على نظام العقوبات الذي يلتف حوله المجتمع الدولي.

من الواضح أن حكومة نتنياهو تشعر بالتوتر، وترى أن الوقت مناسب جداً لممارسة الضغط على إدارة الرئيس أوباما لاتخاذ موقف حاسم لجهة دعم بالمشاركة والتغطية، عملية عسكرية سريعة ضد المنشآت النووية الإيرانية، تتذرع إسرائيل باستعجالها لأسباب عدة:

أولاً: عن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي صدر مؤخراً يؤكد أن إيران وسعت على نحو ملموس قدرات تخصيب اليورانيوم في المفاعل المقام تحت الأرض في بوردو وتقوم بعمليات تطهير وإخفاء واسعة لنشاطاتها في المفاعل العسكري في بارشين، وأنها ضاعفت في الأشهر الأربعة الأخيرة عدد دوائر الطرد المركزي من 1064 إلى 2140. بمعنى أن إيران قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى غايتها، ما يدعو إسرائيل للاعتقاد بأن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عموماً، لا يبدي اهتماماً كافياً للنتائج المترتبة عن ذلك، والتي تعرض وجود إسرائيل وحدها للخطر. ثانياً تعتقد إسرائيل أن نظام العقوبات وتواصل المفاوضات لن يجدي نفعاً ولم يفت من عضد إيران، أو يدعوها للتراجع، بقدر ما أن ذلك يقدم لإيران الغطاء اللازم لكسب المزيد من الوقت الذي تستثمره في تحقيق المزيد من التقدم والتوسع في المشروع النووي.

ثالثاً: أنه بدلاً من أن يؤدي الصراع والخلاف حول المشروع النووي الإيراني إلى إضعاف إيران، وعزلها، فإن إسرائيل هي التي تشعر بالعزلة نتيجة انفرادها في وضع الخيار العسكري كأولوية وبسبب سياساتها ضد الفلسطينيين وعملية السلام. يشكو نتنياهو على نحو علني من أن مؤتمر قمة حركة عدم الانحياز، وفر لطهران الفرصة لشرح وتسويق سياساتها ومواقفها على مسامع مسؤولي أكثر من مئة وعشرين دولة، ويتهم هؤلاء والمجتمع الدولي بالتواطؤ والصمت حيال ما تفعله إيران، لذلك فإنه يتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكي يخترق هذا الصمت، ويعيد الأمور إلى نصابها حيث إيران من وجهة نظره، هي دولة إرهابية، تهدد بإبادة إسرائيل وينبغي نزع الشرعية عنها.

رابعاً: فإنه في ضوء استمرار وتفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية في إسرائيل، فإن حكوماتها لا تجد سوى الحروب الخارجية مخرجاً، وفرصة لإسكات الأصوات المعارضة وجعلها تنخرط في الدفاع عن البلاد، هذا فضلاً عن العزلة الدولية المتزايدة التي تعاني إسرائيل من وطأتها بسبب مواقفها من السلام والحقوق الفلسطينية، وعدم قدرتها على وقف مسلسل جرائمها بحق الشعب الفلسطيني والقانون لدولي.

في إطار هذه السياسة شديدة التطرف، يعود ليبرمان لمواصلة تحريضه على قتل الرئيس محمود عباس، بمحاصرته في المقاطعة مثلما حاصرت قواته سابقاًَ الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى حين وفاته كما يدعي نافياً تهمة المسؤولية عن اغتياله، ويصف وزير الخارجية الفلسطيني الدكتور رياض المالكي ضد إسرائيل في قمة الانحياز، بأنه يشبه إلى حد كبير خطاب الوزير الألماني النازي غوبلز، بل إن خطاب المالكي مأخوذ من خطاب غوبلز. وعملياً فإن نتنياهو وحكومته يتبنى بالكامل تصريحات وزير خارجيته ليبرمان، وإلا كان أعلن غير ذلك، أو طلب منه عدم تكرارها بعد أن أطلقها في المرة الأولى. وأمام احتمال تأجيل الفلسطينيين تقديم طلب دولة غير عضو في هذه الدورة للجمعية العامة، فإن المرجح هو أن يركز نتنياهو خطابه أمامها على الملف النووي الإيراني كأولوية، ما يقتضي السعي للقاء الرئيس أوباما كمحاولة ربما تكون أخيرة، لابتزاز الإدارة الأميركية قبل أن يقرر إلى أين تتجه أصوات اليهود، خصوصاً في ضوء الموقف المتماثل مع الموقف الإسرائيلي من إيران، الذي يصرح به ميت رومني. في كل الأحوال فإن هذا الخلاف هو خلاف داخل البيت من المحظور لأحد أن يراهن عليه، لبناء أوهام جديدة.