"بزنس" الربيع العربي
يبدو أن الحقبة الأميركية الناجمة عن تفرد أميركا في قيادة العالم، بعد انتصارها والغرب في الحرب الباردة، التي امتدت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى انهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق، قد وسمت كل شيء في هذا العالم وفي هذا العصر بما في ذلك ما يحدث فيه من "ثورات" ديمقراطية، سياسية واجتماعية، خاصة هذه التي تعنينا كعرب، وتحدث هذة الأيام في بلادنا، بما يسمى "الربيع العربي".
قبل الربيع العربي بأكثر من نصف قرن، شهدت المنطقة العربية ثورة التحرر من الاستعمارين البريطاني والفرنسي وقامت الشعوب العربية بـ"انقلابات سياسية" على أنظمة الحكم التي كانت تسميها رجعية، وكانت أنظمة ملكية عموماً، وأقامت بدلاً منها الجمهوريات، وذلك من خلال إقدام مجموعات من الضباط بهذه الانقلابات، بعد "تنظيم" صفوفهم وتحركاتهم ومن ثم قيامهم بالإعداد "للثورة" التي كانت تتضمن عادة الاستيلاء على الإذاعة والتلفزيون، إن وجد، وقيادة الجيش، ومحاصرة القصر الملكي، وخلال ساعات قليلة الإعلان عن نجاح الثورة في تسلم مقاليد الحكم والسلطة.
ما كان الأمر يحتاج "ثورة شعبية" ولا مواجهات عسكرية، او حروباً أهلية، حدث استثناء في اليمن، ولا أموالاً لدعم احتجاجات الثورة ولا قواتها العسكرية، كما يحدث الآن في سورية وقبلاً منها في ليبيا، وحتى الثورات على المستوى الكوني ما كانت تحتاج أموالاً ولا حروباً، ولا تدخلات خارجية من أي نوع، بما في ذلك التدخل الإعلامي أو السياسي، فكانت الثورات داخلية تماماً،و بعيدة عن "البزنس" تماماً.
لم يمول أحد الثورة الفرنسية، ولا الثورة الروسية، حيث نظم العمال صفوفهم في "سوفيتات" أي جماعات، تشبه "تنسيقيات" الثورة السورية الآن، وما كان العمال في اضراباتهم يتطلعون الى تعويض او دعم مالي من احد.
تشير التقديرات الى ان خسائر دول الربيع العربي وصلت الى تريليون دولار، طبعاً هذا الرقم يشمل الخسائر غير المنظورة والناجمة عن تعطل الاقتصاد خلال فترة عدم الاستقرار والاضطراب الداخلي، لكن لا شك ان هناك مليارات صرفتها أكثر من جهة لدعم الثورة، منها أحزاب وقوى داخلية، ومنها دول وقوى خارجية إقليمية وحتى دولية، إن كان على الإعلام أو على نشاطات الثورة او على جهدها العسكري او حتى على ما نجم عن المواجهة من آثار على الصعيد الإنساني، مثل لجوء نحو ربع مليون سوري الى دول الجوار، حيث هم بحاجة الى إيواء والى إعاشة، وعلى سبيل المثال طلب وزير التخطيط الأردني 750 مليون دولار من أجل اعالة ربع مليون سوري متوقع لجوؤهم للأردن حتى نهاية العام!
في ليبيا ومن قبلها في العراق، ولأنهما دولتان نفطيتان، تدخل الأميركيون وبعض دول الغرب عسكرياً، ولا شك أنهم "عوضوا" فاتورة الحرب أضعافاً، فليس هناك شيء "لله" في السياسة، لا الأميركيون ولا الغرب ولا القطريون ولا السعوديون يتدخلون من اجل خاطر عيون الشعوب، أو بهدف التعاطف معها لتحريرها من الطغاة، وإلا لتفضلوا، وفعلوا شيئاً من أجل الفلسطينيين الذين يتعرضون منذ أكثر من ستين عاماً لأسوأ أنواع الاحتلال والقتل والقمع المنهجي والمتواصل.
المهم أن الثورات في العصر الأميركي باتت نوعاً من "البزنس" السياسي، والشرق الأوسط بضعف شعوبه وقدرتها على إدارة شؤونها بنفسها، كذلك تخلفها عن العصر بعدم انخراطها في الإنتاج الاقتصادي، وبقائها في دائرة الاستهلاك والتبعية، أبقاه كمنطقة وحيدة خاضعة تماماً للهيمنة والسيطرة الأميركية المطلقة!
المثير في الأمر أن الاحتجاج العربي، في خمس دول عربية حتى الآن، (تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سورية) لم يرفع شعاراً واحداً له علاقة بالغرب أو أية قضايا إقليمية او الصراع العربي / الإسرائيلي، أو حقوق الفلسطينيين المصادرة من قبل الاحتلال الاسرائيلي، كذلك لم يتوقف أحد عند المفارقة التي تقول إن الدول التي تساند الثورات الشعبية على طريق التغيير الديمقراطي، انما هي دول محكومة من قبل انظمة أكثر ديكتاتورية من الدول التي تجري فيها الثورات، فنظام الحكم في قطر أو السعودية أولاً هو نظام ملكي /أميري، أي متوارث، والملك والأمير فيه حاكم فعلي وليس على الطريقة البريطانية، كما أن كلاً من قطر والسعودية ومعظم دول الخليج، تعيش فيها الأسر الحاكمة في حالة فساد ورغد لا حدود له على حساب المال العام.
فهل ان "الجزيرة" و"العربية" ستبديان نفس الاهتمام الإعلامي بأي حراك أو احتجاج يمكن ان يحدث في بلديهما؟ وهل سيدعم الأميركيون والغرب ثورات الشعوب في الملكيات العربية بعد الانتهاء من حكم الأسد في سورية، ام أنهم سيكتفون بالتغيير في بعض الدول العربية؟
السؤال المثير الآن مرتبط بمقدمات حراك شعبي فلسطيني، بدأت قبل أيام في مدن الضفة الغربية، وينتظر أن تنطلق في غزة، اليوم / الجمعة، المثير هو ان الشباب الفلسطيني لم يستجب لدعوات رئيسه بالانطلاق ضد الاحتلال قبل عام، وأنه يرفع شعاراته ضد حكومة فياض، فقط، مع انه يعرف أن مشكلاته المباشرة من بطالة وفقر سببها الاحتلال والانقسام، لكن يبدو انه قد بات أولاً على السلطة ان تدفع ضريبة وقوفها امام المواطنين، أي ضريبة السلطة بدلاً عن الاحتلال، وثانياً أنه حتى الفلسطينيين، باتوا ينسون ما هو سياسي، ويتذكرون فقط ما هو معيشي ومباشر، كل ذلك في العصر الأميركي، عصر البزنس السياسي، بكل معنى الكلمة.