متى يحين وقت المصارحة؟
خاص - زمن برس
حتى الآن، يفتقر الخطاب السياسي الفلسطيني بمختلف أشكاله وتعبيراته، للوضوح والصراحة والشفافية، بالرغم من أن كل طرف يدعي، بأنه كامل الأوصاف، والملتصق دون سواه بهموم وتطلعات الشعب، وعنده حصرياً الحل الأمثل لمعالجة قضيتي التحرر الوطني، والبناء الديمقراطي. ربما تكون هذه الذاتية والعصبوية للانتماء السياسي أو الفكري، واحدة من مميزات وسمات التعددية السياسيةوالتنظيمية بصفة عامة، وأن ما هو موجود في بلادنا لا يختلف عما هو موجود على هذا الصعيد في معظم دول العالم، غير أن ما لدينا ينطوي على قدر عالٍ من العصبوية، وعدم الاعتراف بالآخر أو تهميشه، والأسوأ تقديم التناقضات الداخلية على التناقض الرئيسي مع الاحتلال.
خطاب الرئيس محمود عباس يوم السبت الماضي، الثامن من الشهر الجاري، على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها السلطة، وما ينجم عن ذلك من احتجاجات شعبية تتزايد رقعتها، هذا الخطاب شأنه شأن الخطابات السابقة، من حيث أفق تشخيصه للأزمة، والحلول التي يتطلع إليها، وأيضاً من حيث مدى وضوحه إزاء الخيارات الأساسية.
لا يختلف عن ذلك خطاب حركة حماس والحكومة المقالة في قطاع غزة، الذي جاء على شكل ردود فعل على خطاب الرئيس، بما في ذلك الرد على ما تعتقد أنها اتهامات، ومحاولات لتصدير الأزمة، دون أن تنسى حماس تبرئة ذمتها، مما ينسب إليها، والرد باتهامات للطرف الآخر. في الأساس أرجع الرئيس عباس أسباب الأزمات التي يعاني منها الشعب الفلسطيني إلى الاحتلال، بدون أن يغفل مسؤولية حماس عن تعطيل المصالحة، وتبديد مرتجعات المقاصة عن البضائع التي تدخل إلى القطاع والتي تذهب لصالح الاحتلال، فيما هي من حق الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى نزوعها نحو الانفصال.
حماس وعلى لسان أكثر من مسؤول سياسي، أرجعت الأزمة التي تحدث عنها الرئيس عباس، إلى نهجه السياسي وخياراته، وتعاونه الأمني والاقتصادي مع الاحتلال، وسلوك السلطة في التعامل مع القوى الأخرى، وبدورها حملته مسؤولية تعطيل المصالحة لكونه يختار التركيز فقط على ملف الانتخابات، بينما ينص إعلان الدوحة وما جاء قبله وبعده في القاهرة على اتفاق رزمة يبدأ بتشكيل حكومة التوافق الوطني. بالنسبة للمواطن الفلسطيني، للوطنيين الفلسطينيين، تغيب عن خطابي الطرفين الأسئلة الجوهرية التي لا جواب صريح عنها حين تطرح، ويفضل الطرفان تجنب طرحها أو الإجابة عنها حين تطرح من قبل آخرين. الوطنية الفلسطينية تستدعي بإلحاح الإجابة عن جملة الأسئلة الأساسية بأفق وطني وليس بآفاق فصائلية.
ماذا بعد نحو عشرين عاماً على اتفاقية أوسلو، كخيار يعتمد المفاوضات من أجل انتزاع الحقوق الفلسطينية وتحقيق السلام، وكآليات ونتائج ترتبت عن تلك الاتفاقية وذلك الخيار؟ سنذهب إلى آخر الشوط مع أصحاب هذا الخيار، ولكن من حقنا أن نسأل إلى متى، ومتى وفي أي ظروف وشروط يمكن التوقف للبحث عن خيار آخر؟ بالعموم لم يبق أحد في الساحة الفلسطينية، إلا وقد وصل إلى استنتاج يؤكد فشل هذا الخيار، سوى الملتزمين به، ولكن على هؤلاء أن يصارحوا الشعب، بالإجابة عن سؤال، إن كانت هناك فرصة للنجاح أم أنهم أصبحوا مرتهنين ومحكومين للوقائع العملية الملموسة التي خلقها هذا الخيار، بما في ذلك السلطة الوطنية بعقيدتها ودورها ووجودها في الأساس. ومن ناحية أخرى، وبالنظر لمعطيات الواقع وتداعياته، وشروط العمل السياسي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يتوجب على حركة حماس أن تجيب عن السؤال ذاته، ما هي الخيارات التي تعتقد حماس أنها يمكن أن تحظى بإجماع الشعب الفلسطيني وفصائله؟ وتؤدي إلى النهوض بالفعل الكفاحي الوطني الفلسطيني؟
وكيف تفكر في مستقبل السلطة التي تحوز عليها في قطاع غزة؟ وأي نظام سياسي تقوم بإنشائه واستناداً إلى أي أفق؟ من الواضح أن الاحتلال يمتلك الإمكانيات، ويوظف هذه الإمكانيات لمنع قيام سلطة فلسطينية واحدة في الضفة وغزة، بقيادة واحدة فتحاوية أو حمساوية، وهو سيواصل تقويض مبدأ الوحدة الجغرافية للأراضي المحتلة عام 1967، عبر انقسام سياسي فلسطيني يدوم طويلاً ويتسم بالصراع وباستهلاك الجهد الوطني الداخلي، فما هو الجواب على هذا التحدي؟ إزاء المصالحة، لا يسمع المواطن الفلسطيني سوى عبارات واتهامات كل طرف للطرف الآخر بالمسؤولية عن تعطيل هذه المصالحة.
وفي أحيان ليست قليلة يجري إلقاء تبعات الفشل على أطراف عربية وإقليمية. بالنسبة للمواطن الفلسطيني فإن الأهم هو أن المصالحة لم تتم، وأنها معطلة إلى أجل غير معروف، والأرجح أنه يحمل طرفي الانقسام المسؤولية، وليس مستعداً لأن يلعب دور "القاضي" الذي عليه أن يفصل في قضية، لا تتوفر لها أداة تنفيذ الحكم. وبعيداً عن الأخلاقيات والرومانسية، نتساءل إن كانت القيادات السياسية من كل الأنواع والمستويات، تفكر بموضوعية في مدى توفر عوامل الصمود للمواطن الفلسطيني على أرضه؟ إن استمرار هذا الفراغ في ميزان التفكير الاستراتيجي، من شأنه أن يفاقم الأزمة، ويعمق الهوة بين القيادة وشعبها، إلى الحد الذي قد يؤدي إلى انفجار الوضع الشعبي ضد السلطات بأنواعها، بدلاً من أن يكون دور القيادة مبادراً باتجاه تفجير كل طاقة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال وسياساته.