واشنطن تريد حلاً ينقذ إسرائيل ويؤسس لاستراتيجية أميركية جديدة

بقلم: 

ترتفع الحرارة إلى ما قبل درجة الغليان بقليل في أوردة وشرايين الفلسطينيين في الوطن أو المنفى وكثير من المواطنين العرب، وهم يرون كيري يعود مجدداً، لا يترك مجالا للتنفس في ظل تعتيم مطبق على المفاوضات، يزيده سوءاً التسريبات الإسرائيلية اليومية التي تتناقلها وسائل الإعلام العربية بدون الكثير من التمحيص.
أتساءل مثل كثيرين، إذا ما كان الرئيس محمود عباس قد فرض علينا جميعاً، أمام إصرار واشنطن المريب، أن ننحني كي لا ننكسر، أو أن الرجل الأكثر دهاء في تاريخ القيادات الفلسطينية أو "مكراً" كما يحلو لكثيرين من الإعلاميين والإرهابيين الإسرائيليين الكثر أن يوصفوه، ينصب أشراكاً فلسطينية لهم تمتد من شمال فلسطين التاريخية إلى جنوبها، ومن نهر يحرم على الفلسطينيين مجاورته إلى بحر حصتنا فيه، من النظر والسمك والسباحة والنفط والغاز هذه الأيام، أسوأ من غصة في الحلق.
في كامب ديفيد قبل ثلاثة عشر عاماً ترك أبو مازن المفاوضات قبل نهايتها بقليل لأسباب خاصة ولكن بعد أن اتفق مع أبو عمار أن لا اتفاق بدون اللاجئين والقدس وكامل حدود الأراضي المحتلة من فلسطين العام 1967.
آنذاك اختلفنا، بعضنا قال: وقع يا أبو عمار ويا أبو مازن مهندس أوسلو.. أوسلو أخرى والمشوار طويل والضوء في نهاية النفق ما دام شبل "سيرفع علم فلسطين فوق مآذن وكنائس وأسوار القدس" ولو بعد حين.
وما دام هناك ماء في البحر الميت يشرب منه من لا نعجبه. آخرون وهم الأكثرية الساحقة، رأوا إن الإسرائيليين بزعامة باراك أرادوا فقط إيقاع الفلسطينيين وقيادتهم التاريخية المعاصرة في ورطة قاتله.
هؤلاء كانوا محقين، ولكنهم أيضا كانوا قادرين على حماية خطوط أبو عمار الحمر عبر انتفاضة عظيمة حمت المشروع الفلسطيني، كما لا يمكن أن يؤدي إليه أي حل وفق المتطلبات الإسرائيلية الأمنية والاقتصادية والمائية والجغرافية الهوائية والتلمودية، وتلبية مطلب باراك الرئيسي في كامب ديفيد بإنهاء كافة "المطالبات الفلسطينية" في الصراع "الفلسطيني الإسرائيلي"، ويعني من ضمن ما يعني، تخلي الفلسطينيين عن حق العودة وقرابة 95 المائة من ملكيتهم المثبتة لفلسطين وفق الوثائق التاريخية المحفوظة!.
من ينسى كيف نسق الرئيس الأميركي كلينتون مع أيهود باراك، وقيامهما بعد نصف ساعة من إعلان فشل كامب ديفيد، بتحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية الفشل، الأمر الذي نقض كل التعهدات الأميركية للقيادة الفلسطينية، بعدم تحميل الجانب الفلسطيني فشل كامب ديفيد الذي عقد أساسا استجابة لإصرار باراك وإبلاغه كلينتون أن لديه ما يقدمه ويصلح أساسا للحل، وثبت لاحقاً كذب هذا الادعاء، كما أظهرت الرواية الفلسطينية لما حدث في كامب ديفيد، وأيد ذلك معظم روايات من شاركوا في المفاوضات (عدا روايات دينيس روس، ومارتين انديك المؤيدين كليا ودائماً لإسرائيل)، بما في ذلك شلومو بن عامي وزير الخارجية الإسرائيلي، الذي اعترف لاحقاً أن العرض الإسرائيلي الحقيقي قدم في مفاوضات طابا، ولكن بعد فوات الأوان.
وحتى لا نبتعد أكثر... رأى أبو مازن قبل ذلك أن أوسلو يأخذنا إلى حلقة الاشتباك مع إسرائيل في البقعة الجغرافية المتصارع عليها، ويبقينا في "اللعبة". اشتباك كما حذر الرئيس والعارف بأدق تفاصيل المفاوضات، قد يقود إلى "الدولة الفلسطينية أو إلى التهلكة".
لا تهلكة الآن ولا دولة على الأرض، لكن فلسطين في طور التجسد والنمو وترسخت كإسفين عميق يخربط ويشق عقل ووعي الإسرائيليين الزائف والخادع عن حالهم وحال فلسطين، وبعد أن ترسخت فلسطين في السياسة الدولية كحقيقة لا بد من بلورتها في الواقع.
اشتباك متواصل وغير متكافئ في الظاهر، لكنه ليس كذلك لو تأملنا قليلا حال إسرائيل المزري، وخياراتها المستقبلية المحدودة، والشكوك الكثيرة بقابلية حياتها واستمرارها وفقدانها مقومات البقاء بسياسات كهذه باغية وعنصرية. يقابلها قوة فلسطينية وعربية مستمدة من قوانين الطبيعة وحق البشر في الحياة الكريمة العادلة، وإرادة صلبة في رفض الظلم والعدوان.
يقبل الفلسطينيون في هذه الحقبة من التاريخ، بجعل الحل أساس مستقبلهم في ما تبقى من فلسطين، في حين تريد إسرائيل حلاً ناجزاً للقضية الفلسطينية في ما يسمونه "الأراضي المتنازع" عليها في الضفة وليسمي الفلسطينيون الفتات الإسرائيلي دولة، تحل فيها القضية الفلسطينية برمتها وفق متاهات الصيغ المطاطة الإسرائيلية للأمن والاقتصاد والمعابر وكل ما يلزم الحياة لرقابة التوازن السكاني وحل قضية اللاجئين بعيداً، وأيضاً لضبط وإفشال كل ما يهدد أمن إسرائيل، أي فرض الرؤية الإسرائيلية وحشر الفلسطينيين ومستقبلهم برمته وفق الحاجات الإسرائيلية مهما كانت.
على ماذا إذاً يفاوض الرئيس، وماذا ينتظر من كيري العائد للمرة الحادية عشرة قريباً، مع التذكير هنا أن هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الأسبق زار المنطقة 42 مرة بعد حرب تشرين الأول العام ١٩٧٣ قبيل التوصل لاتفاقات فصل القوات على الجبهتين السورية والمصرية تاركا مصير الفلسطينيين لما تريده القيادات الإسرائيلية ومشاريعها الاستيطانية.
مدريد، أوسلو، كامب ديفيد، طابا وأنابوليس، ثم وعود أوباما في الفترة الرئاسية الأولى، وفشله الأكثر مرارة عند الفلسطينيين بسبب نكوث الرئيس العارف بصلب القضية الفلسطينية والتراجع أمام نتنياهو واللوبي اليهودي.
أحاول مثل كثيرين غيري، وبعناء وقلق يسببه أولاً ركاكة وعود إسناد المفاوضات إلى مرجعية واضحة كما أظهر اختبار طرح الحل الأمني الإسرائيلي الذي اقترحه كيري (عكس ما فعل الرئيس السابق كارتر حين ضمن رسالة دعوة الطرفين المصري والإسرائيلي إلى كامب ديفيد الأول، وثبت بنداً والتزم به، جعل من قراري مجلس الأمن ٢٤٢ و٣٣٨ أساس المفاوضات وحل الصراع العربي الإسرائيلي بالرغم من معارضة مناحيم بيغن الشديدة). وثانياً السرية المطبقة، وتولي الجانب الإسرائيلي وآلاته الإعلامية والأمنية محاولة وضع أجندة ما نقرأه من أخبار حول المفاوضات عبر الدسائس والشائعات والكذب والتشويه، حيث يتم ترك العرب والشعب الفلسطيني في الداخل والمنفى ومن يناصرهم، نهب التسريبات الإسرائيلية (كما حدث قبل أيام إثر مغادرة كيري إلى السعودية من أحاديث إسرائيلية تناقلتها بعض وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية دون حذر، وخاصة الأكاذيب عن تضمين المقترحات الأميركية بنداً بنقل وضم ربع فلسطينيي الداخل إلى الضفة وتهجير اللاجئين الفلسطينيين إلى أستراليا!).
أحاول كغيري من الملايين الفلسطينية والعربية، تمعن ما توفره لنا المفاوضات الجديدة: هل هي بقاء داخل "اللعبة" أو أنها "انحناءة" فقط، أم أن الأمر أبعد، وأنه "جاد وخطير"، ويوفر لنا فرصة معقولة قد لا تتكرر قريباً!
أعتقد أن الرئيس يستغل الآن فرصة مهيأة متاحة وخطيرة، في وقت محدد تتقاطع فيه تداخلات إقليمية ودولية عديدة، كي يحاول الفلسطينيون بلورة ثمن صمودهم وبقائهم كشعب عصي على الاضمحلال في المنفى ومحاصر في الضفة وغزة وداخل الخط الأخضر، عله يحقق طموحهم في الدولة المستقلة حقاً. وذلك دون خسارة كبيرة أو تفريط في الحقوق.

قد يأخذ اتضاح النوايا الأميركية، وما وراء إصرار البيت الأبيض على المفاوضات، ووصولها مرحلة دقيقة، المزيد من الوقت. وقد يتكرر في فترة التسعة أشهر ما حدث منذ مؤتمر مدريد قبل عقدين، أي فشل المحاولة مجددا. وهذا يعني استمرار الصراع بأشكال أخرى في مقدمتها ما سيترتب على فشل الجهود الأميركية الأكثر جدية منذ كامب ديفيد، من نهاية لحل الدولتين، ونهاية قبول الفلسطينيين بتقاسم فلسطين وفق نتائج حرب العام 67، والعودة بالقضية إلى جذورها، ونكبة العام 1948، حيث شطبت فلسطين، وقامت على أنقاضها دولة إسرائيل.
تدرك أميركا أن العالم يتغير، وأن الصيغة القديمة لحماية إسرائيل، اعتمادا على ولاءات الأنظمة، قد انتهت، وأن الثورات أو الفوضى، أطاحت وتطيح بالنظام العربي الرسمي، وتهدد بالانتشار في الجوار العربي في لبنان والأردن بعد سورية والعراق وغيرها، وهذا يضعف إسرائيل استراتيجياً، ويقربها من دائرة الفوضى، ويعرضها لمخاطر لا تقوى على مجابهتها منفردة أو مع حلفائها في الولايات المتحدة المنشغلة بمنافسات عالمية وقضايا وصراعات ملتهبة، ومضاعفات كلفة عالية لحروبها الفاشلة في العراق وأفغانستان، أو بمساعدة الحليف الأوروبي القديم، الذي فقد القدرة على احتمال سياسات إسرائيل العنصرية، وحيث يعارض قرابة 82 في المائة من مواطني الاتحاد، السياسات الإسرائيلية في الضفة، وفق استفتاء أوروبي رسمي نشر مؤخراً.
تبين لأميركا أيضا الثمن الباهظ الذي ساهم في إضعافها نتيجة تبنيها السياسات العدوانية الإسرائيلية في المنطقة، بما في ذلك إسقاط نظام مبارك، ويهدد المنظومة الأمنية الأميركية في الخليج والأردن والعراق، بل أبعد من ذلك، يتضح لواشنطن ولمنافسيها، أن ترتيباتها لبديل "عربي إسلامي معتدل" معرضة للانهيار، كما هي الحال مع مصر، وقد ولى زمن الضمانات.
أزمة نتنياهو و(واشنطن) الحقيقية تكمن في الثمن الذي يتوجب عليه دفعه مقابل السلام مع الفلسطينيين والعرب. إنه في ورطة لا مثيل لها، وأصبح الثمن الذي يتوجب عليه وعلى إسرائيل دفعه يشكل طوقا من العقد تلتف حول عنقه، وربما تمكن من حلحلة بعضها الآن إذا ما أدرك هو وقومه، أنها فرصتهم الأخيرة للتوصل إلى حل الدولتين.
يقينا إن أبو مازن لن يقبل بأقل مما اتفق عليه مع ياسر عرفات قبل مغادرته كامب ديفيد. ويقينا انه يرى ان ما يلوح في الأفق العربي والفلسطيني، كفيل بان يعزز في السنوات القادمة، ومهما بدت الصورة قاتمة الآن، معركة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية من اجل الاستقلال والتحرر.
أظن أن موقع ومكانة فلسطين وسط هذه التحولات هو رهانه الأكبر وورقة الفلسطينيين الرئيسة وقاطرتهم الى المستقبل. أظن ان إستراتيجية واشنطن الجديدة في المنطقة تتطلب حل الصراع بين فلسطين واسرائيل.
أظن أن الرجل، قليل الكلام هذه الأيام، يريد من أبناء شعبه تفويضا مبنيا على الثقة لاختبار المرحلة وحال لسانه يقول:
افهموني لبعض الوقت. بعض الوقت فقط من "ستة إلى تسعة أشهر لتنفيذ حل الدولتين"، وفق البند المنصوص عليه لاتفاق بدء المفاوضات، كما ابلغ الرئيس الفلسطيني نظيره الأميركي باراك اوباما عشية بدء المفاوضات. والتأكيد له مجددا قبل أيام على الشروط الفلسطينية للحل: دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة كاملة على ما احتل من فلسطين العام ١٩٦٧ وعاصمتها القدس المحتلة، وتنفيذ حق العودة وفق قرار ١٩٤، ولا تراجع عن متطلبات الحد الأدنى هذه، لم يحدث في الماضي، ويقينا انه لن يحدث في المستقبل لا قبل أبو مازن ليس معه ولا مع خليفته.
وعلى إسرائيل أن تدفع ثمن الاستقلال الفلسطيني وحق تقرير المصير لشعب لم تستطيع التخلص منه، أو بعثرة إرادته، بل انه جاثم على صدرها في الداخل، ويحيط بها من كل الجهات، ينظر إلى وطنه وهو يصر على ان لا سلام إن لم يتحقق العدل. وهذا هو جذر الفشل المزمن في المشروع الصهيوني برمته.
تحاول الولايات المتحدة الآن وقبل فوات الأوان إنقاذ حليفتها إسرائيل وما تبقى من المنظومة الأمنية الأميركية في المنطقة، عبر صياغة جديدة، إحدى ركائزها توفير أساس يقبله الفلسطينيون لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
كل التقديرات تشير إلى المزيد من التدهور في المنطقة سيصل إسرائيل وجوارها، ولن يقتصر سوء الحال على الناس في الجوار، بل ستصل الإسرائيليين أيضاً.
إن صمدنا في مواجهة الضغوط الأميركية والعربية، لربما نجحت واشنطن والغرب في فرض إرادتهما على إسرائيل، وفرض سلام يلبي الحاجات الفلسطينية في دولة مستقلة حرة كاملة السيادة على منافذها ومصادرها وعلاقاتها، وإلا فإن من شأن استمرار الصراع استخدام الفلسطينيين والعرب وإدارته بطريقة جديدة بحيث ينهك إسرائيل ويجبرها في وقت قصير على أن تصبح كيانا عاديا متواضعا يعيش بالضمانات وليس بحد السيف.
العقل الإسرائيلي لا يصدق ولا يريد أن يرى أن السحر انقلب على الساحر أو يكاد، وأن نار أهل هذه البلاد الغاضبة لن تبقي مهربا لأحد ظالم، إن ظلت فلسطين بكل ما عنته وتعنيه على هذه الحال من التواطؤ والعبث الغربي والظلم والقهر الإسرائيلي وغياب الكرامة والمستقبل.

المصدر: 
الأيام