مؤخرة الالتزامات
على خط الهبوط التدريجي لمنحنى الالتزامات العربية، على امتداد المسافة بين هزيمة 67 ولحظة الموت السريري العربي، عسكرياً وسياسياً؛ كانت هناك محطات وعلامات فارقة. بدأنا بـ "لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات" وأن "لا صوت يعلو على صوت المعركة". وكان الافتراض، أن تتعاضد الأقطار العربية في هذا الاتجاه. ثم بعد حرب تشرين الثاني (أكتوبر) 1973 بات ما كان يُقال همساً، عن واقعية الحل السلمي "العادل" منهج عمل رسمياً، وقيل لنا، إن المساندة العربية الفعالة، ستكون ضمانة انتزاع تسوية مشرّفة، تنهض على أساسها دولة فلسطين المستقلة. فمن يخالف هذا الخيار، إنما هو يتخلى عن الممكن طلباً للمستحيل، ويتطرف ويعاند تيار الحياة، وسنن الكون، ووقائع العالم والإقليم. وقد تماشينا مع خيار التسوية، مستأنسين بوعود الدعم للحق الفلسطيني في المسعى السلمي.
لكن مُجريات الأمور أوصلت الحال العربي الى المزيد من التفتت، فتحولنا في السياسة والمفاوضات الى "مسارات" أنتج بعضها اتفاقات صلح منفرد. وكان المحتلون ينفردون في كل فترة بمسار، فيوهمونه بأنهم قاب قوسين أو أدنى، من التوصل معه الى اتفاق تسوية.
في ذات انفراد، أوهموا النظام السوري ـ مثلاً ـ أن أموره سالكة معهم. وقد حدث في أحد الاجتماعات، أن طُلب من هذا النظام المبُشّر بتسوية وشيكة، أن يتريث وأن يشترط تزامن المسارات العربية، لكي لا نبقى وحدنا. فما كان من فاروق الشرع، وزير الخارجية الطليق آنذاك، ونائب الرئيس المحددة حركته وإطلالته في هذه الأثناء؛ إلا أن صرخ مستنكراً: إن توصلنا الى حل على الجبهة السورية، هل نضع يدنا على خدنا وننتظركم؟! تهافت الجميع على التسوية، كلٌ على مساره، ودخلنا في الحصار العربي الذي التزم بقطيعة كاملة مع منظمة التحرير الفلسطينية، على إثر حرب الخليج الثانية. وعندما أخذتنا ظروف تلك المرحلة الى اتفاق اوسلو لـ "إعلان المبادئ"؛ جاء "الراعي" الاميركي بالأشقاء للحضور وللمباركة، حاملين وعودهم بأن هذا الخيار "الرشيد" الذي أخذنا به، هو الذي سوف يستحث الدعم السياسي والمادي، وسيكون كفيلاً برجحان التفسير الفلسطيني لبنود الاتفاق. وعندما انقلب المحتلون على التسوية من حيث الفكرة وتطبيقاتها، توافرت الوعود الغامضة بضغوط عربية وباستخدام كل الأوراق، للوقوف مع مشروع التسوية الذي نراه. كنا، في ذلك الوقت، قد أصبحنا مجرد واحد من مسارات منفصلة.انقض المحتلون علينا، وبطشت بنا آلتهم العسكرية، وأدركنا بأن لا نصير لنا.
وبحكم مقاصد خطط التصفية والإجهاز على الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي التي بلغت ذروتها بقتل الزعيم ياسر عرفات؛ جرت مياه آسنة كثيرة، في مجرى الأحداث وبين الشقوق.وكان مقتضى الأمر، أن تظل السلطة الفلسطينية قائمة، فانتعش التأييد العربي لاستمرارها ودعمها من منطلق الالتزام. ولما انتهت مرحلة تثبيت فرضية "المُنجز الوطني" الذي تمثله السلطة؛ اقتطع فريق الزلازل والمقاومة، جزءاً منها، بينما المقاومة تفترض ضمناً قدراً بعيداً من الوحدة "الوطنيّة" في وجه العدوّ، ناهيك عن ذاك القدر البعيد المفترض من التصوّر المشترك للمستقبل. ثم بات "الانقسام" موضوعاً للزجر عند البعض، وللتخلي عن الالتزام عند البعض الآخر. وأصبح الذين يريدون للسلطة أن تبقى، هم أنفسهم الذين يريدون لها أن تواجه مشقة الاستمرار في الحياة، وأن تلتزم سريرها في غرفة الإنعاش. لكن وقائع الأنين، أبقت على مؤخرة الالتزامات أو آخرها: ستكون هناك تلبية لبعض حاجتنا الى المال. عندئذٍ يصل المنحنى الى النقطة السُفلى، التي ليس بعدها سوى فضيحة الخروج عن النَص!