نحن المنفيون ورائحة البلاد البعيدة

خاص بزمن برس

يُحطم المنفى العلاقات والروابط الإنسانية القوية للمنفيّ، فهو يقتلعه من مكانة الطبيعي ويُلقى به في عالم غريب عنه. لا يختار المنفيّ منفاه، فهو يجد نفسه بين غرباء عليه العيش معهم في عذاب انتظار العودة للعالم الذي تركه وراءه. المنفى هو الحياة في قسوة المؤقت في انتظار الدائم الذي لا يأتي. يختصر المنفى حياة ملايين البشر الذين يعيشون حياتهم في المؤقت، والذي يُعاش على مستويين، كحالة جماعية أو كحالة فردية. يشكلّ انقطاع العلاقة مع الوطن الأم أساس معاناة المنفيّ، فلا هو يعيش هناك حيث اقتلع، ولا يكفّ عن الانتماء إلى هناك في الوقت ذاته، فما تُرك هناك سيستعاد يوماً، وهذا هو حلم المنفي الذي يحافظ عليه طوال سنوات النفي التي لا تنتهي.

غريب في عالم ليس له

يكمن رعب المنفى في قلق الانتماء بين مكان الوجود المادي للجسد البشري وبين المكان الذي ينتمي إليه المرء بعلاقاته الإنسانية والاجتماعية والثقافية، في التوّزع بين اليومي القائم وبين العاطفة التي تعيد إلى أماكن أخرى. يجترح المنفيّ معجزة العيش، لأنه يعيش يومياً بما يذكره بعدم انتمائه إلى المكان، وهو أحد الأسباب التي تجعله غير قادر على الانسجام مع المحيط الجديد. ولأن المنفى يتحول إلى قدر يعيد تشكيل الإنسان من الداخل، فهو ينمو فينا كبشر، لذلك فهو ليس عبوراً للحدود فحسب، إنه كما وصفه جيسواف ميووش: المنفى «يسلبنا نقاط الارتكاز التي تساعدنا في عمل الخطط، وفي اختبار أهدافنا، وتنظيم أفعالنا.

كل واحد وهو في بلده يقيم علاقات مع أسلافه. وهذه العلاقات إما علاقات إعجاب وإما تضاد على السواء. إن دافعنا هو رغبة مساواتهم واللحاق بهم في شيء ما، من أجل أن نضم أسمنا للأسماء المحترمة في قريتنا أو بلدتنا أو بلدنا.

هنا في الخارج، لا يبقى شيء من هذا القبيل، لأننا نُبذنا من التاريخ الذي هو دائماً تاريخ مساحة خاصة على الخريطة». بذلك يصبح أي زرع هو في أرض الآخرين لا يمكن حصاده. في لحظات، قد ينقلب كل شيء ضدّ المنفيّ في المنفى، فيصبح عليه ترتيب حقيبته من جديد ليبحث عن منفى آخر يعيد فيه إنتاج الغربة وترتيبها على قلق جديد. في التوتر الدائم الذي يتحول إلى أساس حياة المنفيّ، يصبح من المشروع أن «ينظر المنفيون إلى غير المنفيين بشيء من الحقد. فغير المنفيين ينتمون إلى محيطهم الطبيعي، بينما المنفيّ لا ينتمي، دائماً... والمخاوف المحلّقة ستنتاب المنفيّ بسهولة، وهويته تتدعم بالضغوط السلبية (الريبة والغيرة والحقد) أكثر مما تتدعم بالعوامل الإيجابية (الحب والشعور بالاستمرارية، والثقة)» كما يقول إدوارد سعيد.

الحياة بالسلب

عندما يحددّ تزفيتان تودوروف صورة المنفيّ بين صور المسافرين في كتابه «نحن والآخرون» نجدها تتحددّ بالسلب أكثر مما تتحددّ بالإيجاب، خلافاً لأنماط المسافرين الآخرين، فهو يقول عنه «تشبه هذه الشخصية في جوانبها شخصية المهاجر، وتشبه الغرائبي في جوانب أخرى. فهو مثل المهاجر، يستقر في بلد ليس بلده، لكنه مثل الغرائبي، يتفادى الاستيعاب. ومع ذلك، خلافاً للغرائبي، فإنه لا يسعى إلى تجديد تجربته، ولا إلى إثارة الغرابة، وهو خلافاً للخبير، لا يهتم بشكل خاص بالشعب الذي يعيش بين ظهرانيه. من هو المنفيّ؟ إنه الذي يؤول حياته في الغربة كتجربة لعدم انتمائه إلى محيطه، وهو يبجلها لهذا السبب بالذات. يهتم المنفيّ بحياته بالذات، بل وحتى، بحياة شعبه بالذات، لكنه لاحظ في نفسه أنه لكي يرجح هذه الغاية، سيكون من الأفضل له أن يسكن الغربة، أي حيث لا ينتمي، إنه غريب ليس بصورة مؤقتة بل نهائية، انه الشعور ذاته، وإنّ كان أقل نمواً، الذي يدفع البعض إلى الإقامة في المدن الكبيرة، حيث الغفلة تعيق أي عملية اندماج كاملة، وأي عملية امتصاص للشخص من قبل الجماعة». ولأنّ المنفيين يصنعون تاريخ المنفى، فهم يتواصلون في ما بينهم، لقد أصبح المنفى جزءاً رئيسياً من العصر الحديث، الذي يجسّد اتجاهاً مميزاً للمجتمعات المعاصرة. فالمنفيّ ذلك الكائن الذي فقد وطنه من دون أن يكسب بذلك وطناً آخر، الكائن الذي يحيا في خارجية مزدوجة. ويقول تودورف في كتابه «فتح أميركا - مسألة الآخر» إنّ المنفى يتجسّد اليوم، على نحو أفضل، في المثل الأعلى لأوج دي سان فيكتور (بعد حرفه عن معناه الأصلي) الذي صاغه في القرن الثاني عشر «إن الإنسان الذي يجد وطنه حلواً ليس غير مبتدئ رخو، وذلك الذي يعتبر كل أرض بالنسبة له كأرضه هو قوي بالفعل، لكن الكامل وحده هو ذلك الذي يكون العالم كله بالنسبة إليه بلداً غريباً» (أنا البلغاري الذي يقيم في فرنسا، استعير هذا الاستشهاد من إدوارد سعيد، الفلسطيني الذي يعيش في الولايات المتحدة، الذي وجده هو نفسه عند اريك أورباخ، الألماني المنفي في تركيا).

ذهنية الشتاء

هجر البشر أوطانهم أو يُهجرون منها لاستحالة العيش فيها، فيجدون أنفسهم في المنفى الذي ينبع أساساً من الانفصال أو الشرخ الذي لا براء منه بين شخص ما ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها، مما يجعل وضع المرء في غاية الصعوبة عندما «يجد نفسه غريباً ضائعاً بلا حول ولا قوة، لا يفهمه أحد، من أصل غامض، ومن مكان مجهول من هذه الأرض». كما يقول جوزيف كونراد. «إنّ المنفى حالة للوجود غير المتصل، فأهل المنفى اجتثوا من جذورهم ومن أرضهم ومن ماضيهم، وعادة لا تكون لهم جيوش ولا دول ولا سلطات مركزية، وإنّ كانوا، وهذا شيء مهم، دائبي البحث عنها، وبالتالي فإنّ أهل المنفى يشعرون بحاجة ملّحة إلى إعادة تشكيل حياتهم المحطمة في شكل رواية يختارونها من عدة بدائل متنوعة».

هكذا يصف إدوارد سعيد المنفي في «تأملات في المنفى». ولأن المنفى لا يمكن أبداً أن يكون حالة رضى عن النفس، واطمئنان، واستقرار، فإن ادوارد سعيد يستعير كلمات الشاعر الأميركي والاس ستيفيز حيث يقول: «المنفى، هو "ذهنية الشتاء" حيث تكون فيه أنفاس الصيف والخريف قريبة بقدر تباشير الربيع، لكنها لا تُطَال. ولعلّ هذه طريقة أخرى للقول إنّ حياة المنفى تسير بحسب رزنامة مختلفة، رزنامة أقلّ فصولاً واستقراراً بالقياس إلى الحياة في الوطن. فالمنفى هو حياة تُعاش خارج النظام المعتاد. حياة مترحّلة، طباقية، بلا مركز؛ وما أن يألفها الإنسان ويعتاد عليها حتى تنفجر قواها المُزَعزِعَة من جديد».

منفى شعب

إذا كان المنفى قد أنتج على المستوى الفردي عبقريات، استطاعت تجاوز آلام المنفى وتحولت إلى نجوم في سماء الثقافة والفكر. فقد ذرف ملايين البشر المنسيين حيواتهم في محرقة المنفى دون أن يسمع بهم أحد. وتشكل الحالة الفلسطينية نموذجاً للمنفى الجماعي، حالة اقتلاع مستمرة. فقد كان الغياب القصري للفلسطينيين عن وطنهم الذي دُمر أمام أعينهم، ذروة المأساة. فكان أن نقلوا ما يستطيعون نقله من الرموز، ليتحولوا إلى «بلاد تتنقل» حسب تعبير الياس صنبر. يمكن القول أن الفلسطينيين، شعب منفى، فقد تكونت الوطنية الفلسطينية في المنفى، ومن انقطاع العلاقة مع الوطن، فلا هو يعيش هناك، ولا يكف عن الانتماء إلى هناك في الوقت ذاته، فما تُرِك هناك سيستعاد يوماً، وهذا هو الحلم الفلسطيني الذي لا يزال مستمراً. وكما يقول إدوارد سعيد الذي يتعامل في كتابه «ما بعد السماء الأخيرة: حيوات الفلسطينيين» مع الحالة الفلسطينية كنموذج مثالي للمنفى، تعطي صاحبه نظرة خاصة إلى الحياة والأشياء، تعطي استمرارية وانقطاع من نوع خاص. فهو يؤكد اختلاف مشاعر الفلسطينيين وتوحدها في آن «فالحال أن مصيرنا قد كان من الاختلاف والتبعثر بحيث يستحيل مثل هذا التطابق. مع ذلك، فليس من شك في أننا نشكل جماعة / جالية بحق، وإن تكن جماعة / جالية مبنية على المعاناة والنفي» ويتساءل عن معنى الوجود الفلسطيني في ظل حالة الشتات التي يعانيها الشعب الفلسطيني «هل نحن موجودين؟ وما دليلنا على ذلك؟ كلما ابتعدنا عن فلسطين ماضينا، تقلقل مركزنا واختل وجودنا وتقطع حضورنا متى صرنا شعباً؟ حتى كففنا أن نكون كذلك؟ أم هل نحن في طريقنا إلى أن نصير كذلك؟» في التجربة الفلسطينية تعمق المنفى بمرور الزمن، وانتقل من تجليات المنفى كحالة جماعية، وأخذ طريقه إلى الحالة الفردية، وأصبح هناك أبناء منفى، ليس بمعنى الانتماء فقط، بل بالولادة أيضاً. بادئ الأمر تشتت الفلسطينيون عام 1948 من المدن الساحلية باتجاه غزة جنوباً ولبنان وسوريا شمالاً والأردن شرقاً. تكررت هجرتهم باتجاه الدول التي استضافتهم على مضض وعلى أساس مؤقت. ترحلوا في أول الأمر آلافاً مؤلفة، فعائلات محظوظة، فأفراد يشدون النظر نحو العالـم الواسع

وهكذا تغيرت طبيعة الجماعة الوطنية الفلسطينية بشكل متزايد مع تغير أوضاعهم.

حلم المنفيّ

العجز عن الإمساك بالمركز ما كان ليكون، لولا الحياة الثابتة والمستقرة والمتجانسة التي كان يعيشها الفلسطينيون في وطنهم قبل الاقتلاع، وهذا الاستقرار كان أساس المقارنة مع الحالة اللاحقة من الاقتلاع والشتات والمنفى. فبالاقتلاع «اختفى "ثبات الجغرافيا"، و"تواصل الأرض"، اختفاءً تاماً من حياتي وحياة الفلسطينيين. لذلك نحن نستعيد ونُرَّقع الشيء بالشيء. لقد أحتفظ الفلسطينيون بتموجات أصواتهم كما كانت في يافا، والقدس، والمدن التي خلفوها، وإن صارت لهجاتهم متأثرة بلهجة بيروت أو ديترويت أو باريس» ـ ادوارد سعيد ـ وتم تركيب حقائق جديدة فوق الشيء الذي ضاع. فأخذت الأشياء الصغيرة في الحياة الفلسطينية تأخذ معناها المتجاوز لقيمتها، وتأخذ دلالات ماورائية، الصور الفوتوغرافية، الملابس، الأشياء المنتزعة من مكانها الأصلي، طقوس الكلام والعادة.

أصبح الفلسطينيون المدفوع بهم عنوة خارج أرضهم، وخارج الزمن، «غائبين» أجساماً حدودية بين الغياب والحضور، الأرض الأصلية والمنفى، الذاكرة ونفي الذاكرة، الزمن وإلغاءه هذا المجال المحرّم، تلقاه الفلسطينيون دفعة واحدة كأرض مبتلعة لا محتلة. بسبب من تهجر شعبها، فإنّ ضياع فلسطين عيش كغياب فيزيائي لا نتيجة غزو. اصبح هذا المجال في نظر الفلسطينيين غير مرئي، وفلسطين مجالاً غارقاً، مغطى، جوفياً، يتعين إعادة إظهاره إلى النور، كان هذا الشعور من القوة ومن العمق بحيث شمل حتى الأقلية منهم التي بقيت في فلسطين.

ما أنْ وقعت الكارثة، حتى صار الفلسطينيون ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم البدائل الحية عن بلادهم. بات كل واحد منهم يصبح هو فلسطين ويحملها في منفاه، مشوشاً الأماكن التي يمر بها. هذه الحركة. هذا الانتقال غير المنقطع، والشعور بأنّ الحفاظ على النفس يعني الحفاظ على البلاد، هذا كله شكل المدماك الجديد لهذا الشعب الذي كان كل شيء ينذره لأن ينفجر ويموت. لأنهم كذلك نقلوا أوطانهم إلى أبنائهم الذين ولدوا في المنافي، ولم يصلح الرهان على فقدان الفلسطينيين للذاكرة في المنافي، لـم ينس الذي هجروا من البلاد ولا الذين ولدوا بعيداً عنها. وكلام محمود درويش الذي كتبه في «ذاكرة للنسيان» في هذا السياق لا ينسى «خجلت من خوفي وممن يدافعون عن رائحة البلاد البعيدة، الرائحة التي لـم يشموها لأنهم لـم يولدوا فيها ولدوا منها بعيداً عنها. وتعلموها وبلا كلل. تعلموها من ذاكرة مسلطة ومن مطاردة ملحة» إذا كان من الصحيح أنّ الحياة لا تُعاش بالأحلام فقط، فمن الصحيح أيضاً أن لا أحد يستطيع أن يَسلب المنفيين أحلامهم بوطن حتى لو كانت أوطانهم مستحيلة التحقيق، فالحلم بالوطن البعيد هو ما يقتات عليه المنفيّ في منفاه الطويل.