الحركات الإسلامية وشرعية الوجود بين الدعوي والسياسي

بقلم: 

بعد أن أعلن زعيم حركة النهضة في تونس الشيخ راشد الغنوشي في مؤتمر الحركة العاشر المنعقد بتاريخ 20/5/2016م، ما اصطلح عليه الفصل بين الدعوي والسياسي، وأن الحركة سيكون عملها منصب على الجهد السياسي،وأن العمل الدعوي هو من مهمة علماء الدين والدعاة والأئمة والوعاظ،وأوضح بصورة لا لبس فيها أن الهدف هو فصل المهام والوظائف وتحديد الصلاحيات ورسم الحدود.

لقد اطلعت على عدد غير قليل مما كتب عن هذا الأمر، ورأيت الناس في تحليلاتهم قد اتجهوا يساراً ويميناً، وقد خاض في ذلك من ادعو الحرص على الحركة وأنها قد تفتتت وخلعت ثوبها الإسلامي، لتلبس ثوباً علمانياً بحتاً يجعلها نسخة كباقي الأحزاب العلمانية، مما يفقدها مبرر وجودها، وهناك من قال أن ما فعلته النهضة في تونس هو جريمة بحق الحركات الإسلامية وخاصة "حركة الإخوان المسلمون"، حيث يعتبر هذا الفصل - حسب وجهة نظرهم- هو إدانة للإخوان الذين قدموا وضحوا وساندوا الشعوب المنتفضة على الظلم والاستبداد وخاصة في مصر وتراجع عن نهجهم وتبرئة من منظومتهم الحركية.
وآخر ما قرأت لأحد الكتّاب الذي قد أفرد مقالته لمناقشة التكاليف الباهظة - كما يدعي - التي تمّ إنفاقها في هذا المؤتمر، والذي تم إعداد قاعته وشكله حسب مؤتمرات الأحزاب في أوروبا وأمريكا، ليعطي بذلك رسالة عن مدنية هذا الحزب بثوبه الجديد، كما خاض – وذلك حسب وجهة نظره – في الأخطاء التاريخية التي اقترفتها النهضة، ثمّ عرّج على الاختلاف والتباين بين قيادات حركة النهضة وبين زعيمها التاريخي.
وللمرور على فكرة "الدعوي والسياسي" ، أرى من وجهة نظري أن المشكلة  في هذا النتاج تكمن في أمرين، أحدهما داخلي متعلق بالحركات الإسلامية،والثاني خارجي متعلق بالنخب السياسية الحاكمة والأحزاب الأخرى المختلفة، يسارية كانت أم علمانية أو الأحزاب التي احتكرت لنفسها لفظ "المدنية" أو" الليبرالية".
ولو تعرضنا للمشكلة الأولى المتعلقة بالحركات الاسلامية، فلا بدّ أولاً من الحديث عن نشأة هذه الحركات، والتي بدأت بالظهور في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث تعددت أهدافها من الاصلاح الإجتماعي المبني على أسس عقائدية إلى المشاركة في محاربة بقايا الاستعمار كما حدث في مصر ودول شمال إفريقيا وبلاد الشام، ثمّ تحولت هذه الحركات بعد استقلال الدول العربية إلى النقد ومحاربة الفساد الاجتماعي والسياسي، وكل ذلك كان يعتمد بصورة أساسية على الكلمة سواء كانت خطابة ووعظاً أم كتابة، وأحيانا عن طريق التظاهر وإن كان شحيحاً وذلك بسبب قوة الردع التي كانت توجِّهها السلطات.
لقد باءت أغلب محاولات الحركات الإسلامية بالمشاركة السياسية مع أنظمة الحكم بالفشل، بسبب حصارها والتضييق عليها،مما انعكس ذلك على تجربة الحركات الاسلامية في الحكم فيما بعد، إذ تعتبر هذه التجارب ضعيفة بسبب قلة الممارسة وعدم تراكم الخبرة، وعند ذلك تكون هناك أخطاء تجعل المنكرين على الحركات الاسلامية بمشاركتها السياسية يصوبون سهامهم ونفوذهم للنيل من هذه الحركات وإجهاض تجربتها، فما حدث في الجزائر عام 1992م لا يغيب عن الأذهان ، ثمّ ما حدث في الأردن ‏، حيث شاركت الحركة الاسلامية في الانتخابات وحظيت بنتائج جيدة وشاركت في الحكومة، ليُقر بعدها قانون الصوت الواحد لحرمانها من جماهيريتها في الانتخابات، وقد جاءت بعد ذلك التجربة الفلسطينية - رغم خصوصيتها -  والذي كان من نتيجتها الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي وما تبعه من حروب على قطاع غزة، وأخيراً ما حدث في مصر وتونس، حيث أُقصيت جماعة الاخوان المسلمين في مصر من المشهد السياسي وبالصورة المؤلمة التي يعلمها القريب والبعيد رغم فوزها في خمس انتخابات ديمقراطية ، وفي تونس أُجبرت حركة النهضة على التخلي عن الحكم الذي وصلت إليه بانتخابات ديمقراطية كذلك بغض النظر عن المبررات دون أن تكمل دورتها الانتخابية، وقد آثرت ترك الحكومة حفظاً للسلم الأهلي والإجتماعي، وخوفاً من أن تُفرض عليها معركة يكون الخاسر الوحيد فيها الوطن التونسي بمكوناته وتاريخه،وينقلب فيه المشهد سوريّاً أو مصرياً.
أما المشكلة الثانية والتي تعتبر خارجية، فهي تتعلق بالدولة وأجهزتها وبالأحزاب التي تشكل مظلة للسلطات الحاكمة، تُروّج هذه السلطات أنها الحامي للبلاد ونهضتها وتقدمها، وقد ادّعت خلال عقود أنّ حركات ما يعرف بالإسلام السياسي هي حركات رجعية تريد أن تعيد الأوطان لعصر الناقة والجمل وأنها تعادي الحداثة والتطور، وحاولت إقناع الجماهير بأن الحركات الإسلامية هي صنيعة الغرب وهي حركات عميلة له، فيما أخفت هذه النخب الحاكمة تواصلها التاريخي بأجهزة المخابرات الغربية، وأنّ جيوشها وقادة أجهزتها وأبناء حكامها قد درست وتخرجت من الكليات العسكرية الغربية، ولم تقطع تواصلها البتة بمراكز توجيهها تحت عنوان تبادل الخبرات وإنشاء الدورات العسكرية والأمنية في الوطن العربي الكبير، وفيما يتعلق بالمنافسة بين الأحزاب العلمانية والحركات الاسلامية، حيث ترى تلك الأحزاب أن الإسلام مؤثر أساسي في المنطقة العربية، فالمواطن العربي يميل بفطرته لدينه ولذلك نجد أن عوام الشعب، وخاصّة الطبقة الوسطى تجد حاجتها في الحركات الاسلامية ممّا يجعلها منافساً قوياً في أي انتخابات تجري ،وفي أي مستوى كانت سواء في القطاعات الطلابية أو نقابات المعلمين والمهندسن والأطباء وغيرها، من هنا فإن أغلب الأحزاب العلمانية واليسارية تجد نفسها في تحالف ظاهر معلن أو بصمت وتوافق مع النخب السياسية الحاكمة والمتحالفة مع أجهزة الدولة العسكرية والأمنية،وأحياناً تموّل هذه الأجهزة بعض هذه الأحزاب لتمكينها من الصمود والوقوف نداً أمام الحركات الإسلامية، وهدفها الأساسي منع الحركات الإسلامية من الوصول إلى الحكم، وقد أدّى هذا الضغط على الحركات الإسلامية أحياناً كثيرة؛ إلى أنتاج تيارات إسلامية جهادية خرجت في طريقة عملها عن الإجماع الوسطي الذي يعتمد على السلمية والحكمة والموعظة الحسنة، وهدفها تقويض منظومة الحكم الاستبدادي في هذه الدول.
من هنا أرى أن تجربة النهضة الجديدة، والتي من بين أهدافها هو حماية المنظومة المجتمعية من الإنزلاق للعنف، إضافة إلى حماية نفسها كحركة من المخاطر التي قد تودي بوجودها في ظل الهجمة المستعرة على الحركات الإسلامية ورائدتها "حركة الأخوان المسلمون"، والتي تُشَن عليها حرباً بلا هوادة في أغلب الأقطار العربية، وأخيراً السعي لتمكين العمل الدعوي من القيام بوظيفته بصورة مسموح بها وبحرية تجعله يحفظ وجوده.
إنّ ما قامت به حركة النهضة في تونس، هو قراءة للواقع المرير الذي تحياه الساحة العربية، وهو محاولة لدرء الأخطار المحدقة التي قد تجتاح الساحة التونسية، صاحبة الزهرة الأولى في الربيع العربي.
لقد أرسلت حركة النهضة التونسية بفصلها الدعوي عن السياسي رسائل عِدّة، داخلية وخارجية، هدفها الأساسي حماية وجودها وشرعيّته، وقد قدمت عذرها وحجتها لخصومها ولم تُبْقِ في جعبتها من الوضوح إلاّ الشمسَ في أيدي خصومها، فهل يكون جوابُهم لها ماقاله بخيل مروٍ للبغداي الذي أكرمه لسنوات وعندما زاره ذات مرةٍ، أنكره فخلع البغدادي قلنسوته وعباءته زيادةً في العريف، فقال البخيل له لو خرجت من جلدك ما عرفتك!!