«الشفق»: هكذا اتخذت إسرائيل قرار الانسحاب من لبنان
صدر مؤخراً في إسرائيل كتاب «الشفق: القصة الحقيقية لانسحاب جيش الدفاع الإسرائيلي من لبنان»، في 192 صفحة جاءت بصيغة إثارة دراميّة، تتسارع فيها الأحداث، وتتدفق الحوارات ومحاضر المداولات. في نهاية الكتاب، يعرض المؤلف عاموس غلبوع، وهو عقيد احتياط ترأس «وحدة الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية - أمان» الاستنتاجات المركزيّة من هذا الملف.
مواجهة
بين «العسكريّ» و«السياسيّ»
الكتاب ينشغل بطريقة اتخاذ رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، ايهود باراك، قرار الانسحاب من لبنان، وبطريقة تنفيذ ذلك القرار في الفترة الواقعة بين شهر شباط /فبراير وحتى أيار/مايو العام 2000.
ميزة الكتاب أنه يكشف ما جرى في كواليس قرار الانسحاب، ويعتمد الكتاب على وثائق، ومحاضر الاجتماعات، ومفكرات خاصة، وسلسلة مقابلات شخصية أجراها غلبوع مع الأشخاص الضالعين باتخاذ قرار الانسحاب أو تنفيذه.
في صيف العام 2000، تطوّرت مواجهةٌ بين المستويين العسكريّ والسياسيّ، حول الخروج من لبنان. باراك، الذي شغل آنذاك منصب رئيس الحكومة ووزير الجيش، دعم خروجاً أحاديّ الجانب، بخلاف وعده بالانسحاب بناءً على اتفاق مع لبنان وسوريا. الجيش عارض ذلك، وفي شهر أيار /مايو بلغت المواجهة ذروتها.
اللواء عاموس ملكا، رئيس «أمان»، سمع عبر المذياع عن نيّة باراك عقد اجتماع للحكومة لدراسة الانسحاب، فبعث برسالة إلى رئيس الحكومة جاء فيها: «عدم دعوة «أمان» للحصول منها على تقديرات استخبارية حول الانسحاب يشكّل خللاً، ويمنع حصول أعضاء الحكومة على معلومات، ويلحق الضرر بوظيفة مُعدّ التقديرات القومية. من الواضح أن تقديرات «أمان» لا تنسجم بالضبط مع تقديرات جزء من أعضاء الحكومة. ومع ذلك، فإنني أصرّ على طرح تقديرات «أمان»».
خلف التوتر الذي ساد بين المستويين العسكري والسياسي حول ملف الخروج من لبنان، وقفت اعتبارات مهنية. فرئيس الأركان اعتقد أن الخروج الأحادي من لبنان بلا اتفاق، سيجلب «حزب الله» إلى الحدود ويتسبّب بهجمات في الجليل، ويحطّم جيش لحد بشكل كامل.
باراك اعتقد أن الجيش يبالغ بتقدير المخاطر. المستوى العسكريّ كان يشعر بالإهانة، فباراك يحجب المعلومات عنه. غابي اشكنازي، قائد لواء الشمال آنذاك ومنفذ خطة الخروج من لبنان، لم يشارك في غالبية اللقاءات التي عقدها رئيس الحكومة. ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية «أمان»، مُعدّ التقييمات الاستخبارية، لم يلتقِ باراك تقريباً.
باراك سعى جاهداً في السابق ضد انسحابٍ أحاديّ الجانب. في البداية، علّق آماله على اللقاء الذي جمع الرئيسين بيل كلنتون وحافظ الأسد في جنيف. بعد فشله وتبدّد الآمال بالتوصل إلى اتفاقٍ مع سوريا، تبنّى باراك بشدّة توصية أوري لبروني، منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في لبنان، القاضية بالانسحاب بناءً على اتفاق مع الأمم المتحدة، يستند على القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن. احتاج باراك وقتاً حتى نهاية شهر أيار على الأقل، للحصول على ما يعتبره شرعيةً دوليةً ضروريةً تحرم «حزب الله» القدرة على مواصلة الهجمات ضد إسرائيل بعد الانسحاب.
تسرّبت الأنباء إلى الإعلام الإسرائيلي عن الانسحاب الوشيك، ما شجّع «حزب الله» بحسب غلبوع على تصعيد هجماته ضد جيش لحد. وسجّلت في مطلع أيار موجةٌ من الهرب ضربت صفوف جيش لحد، الذي بدأت تظهر عليه علامات الانهيار. والجيش الإسرائيلي صار متردّداً الآن، يطالب بالخروج من لبنان بشكلٍ فوري، وجيش لحد بدأ ينهار. بدا أن الجيش الإسرائيلي لن يكون قادراً على الاحتفاظ بالمنطقة الأمنية في جنوب لبنان حتى شهر حزيران /يونيو، من دون الزجّ بقواتٍ إضافيةٍ، على الأقل كتيبة. ولكن باراك أراد استنفاذ الخطوات مع الأمم المتحدة، والانتظار حتى ينشر تيريه لارسن، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، تقريره في نهاية شهر أيار، حول التزامات إسرائيل ولبنان بعد الانسحاب.
قرار الخروج: التنفيذ والتحليل
في مساء 22 أيار، عُقد اجتماعٌ بمكتب باراك في تل أبيب وتدفقت خلاله الأنباء السيئة من الميدان: جيش لحد ينهار ومسيرات «حزب الله» قرب المواقع العسكرية اللحدية تزايدت.
بحسب غلبوع، لما همّ المشاركون بالنقاش لمغادرة الغرفة، طلب باراك من رئيس أركانه موفاز البقاء وسأله: «هل أنتم قادرون على الخروج في هذه الليلة؟». موفاز المتفاجئ، رداً بالإيجاب. بعد مشاوراتٍ، تقرّر تأجيل الخروج من لبنان ليوم واحد، ليلة الثالث والعشرين والرابع والعشرين من ذلك الشهر، وحذّر باراك من مغبة تسريبات تخرج من قيادة الشمال.
قرار الخروج من لبنان كان قراراً شفاهياً صدر بحضور ثلاثة أشخاص، هم: باراك وموفاز والسكرتير العسكري، من دون صدور أيّ وثيقة مكتوبة، ومن دون أيّ أمرٍ عسكريّ لشعبة العمليات. وتم إطلاع المجلس الوزراي المصغر وبقية قادة هيئة الأركان عليه لاحقاً. في صباح 24 أيار 2000، الجيش الإسرائيلي كان خارج لبنان.
في باب الاستنتاجات، يحلل غلبوع في كتابه، باختصار، أوجهاً عدة لآلية اتخاذ قرار الانسحاب، وطريقة تنفيذه، وعملية الانسحاب، والعلاقات بين المستويين السياسي والعسكري، ودور جهاز الاستخبارات العسكرية «أمان» في عملية اتخاذ القرار، وطريقة التعاطي مع جيش لحد، ومسألة الردع في مواجهة «حزب الله».
وتبقى المعلومة الأبرز التي يكشفها الكتاب هي أن رئيس الحكومة الإسرائيلية قرّر الانسحاب من لبنان، من دون التشاور مع «أمان». ويستذكر الكاتب أن قرار اجتياح لبنان في العام 1982، تم اتخاذه من قبل المستوى السياسي (رئيس الحكومة مناحيم بيغين، وزير الدفاع آرييل شارون)ـ من دون أخذ تقديرات «أمان» بعين الاعتبار. وبحسب غلبوع، فإن وثيقة تقدير الموقف الأولى التي أعدّها «أمان» حول الانسحاب من لبنان بلا اتفاق، كُتبت بعدما اتخذ بارك قرار الانسحاب.
الكتاب أوضح دوافع «حجب باراك المعلومات عن الجيش»، بزعم أنه لم يكن بحاجة لتقديرات ومعلومات استخبارية حول المخاطر الأمنية. فهو، بصفته رئيس أركان سابق وقائداً سابقاً لـ «أمان»، يدرك جيداً المخاطر، وليس بحاجةٍ لسماعها من «أمان». في المقابل، كان بحاجة لمعلومات استخبارية حيوية من نوع آخر، تتعلق بقدرة جيش لحد على الصمود، وموقف الجهات الدولية من تنفيذ القرار رقم 425 بشكلٍ أحاديّ. ويخلص غلبوع الى أن مساهمة «أمان» في هذا الإطار كانت هامشية، «فهو كان يعتبر جيش لحد جزءاً من القوات الإسرائيلية وليس من قوات العدو فلم يتجسّس عليها».
الإستنتاج المركزي المستخلص من «ملف الانسحاب من لبنان» صاغه غلبوع على النحو التالي: «عندما تكون المشكلة الرئيسة التي تواجه المستوى السياسي هي العدو والتهديد العسكري الذي يُشكله، تتولى الاستخبارات الدور المركزي (مثلما جرى في حربَيْ 1967 و1973). ولكن في الخروج من لبنان، كما الدخول إليه، كان العدو منظمات إرهابية (المنظمات الفلسطينية دخولاً، و «حزب الله» خروجاً)».
صحيح أن باراك لم ينتظر تقديرات الاستخبارات العسكرية عندما اتخذ قراره الاستراتيجي بالانسحاب من لبنان، ولكن اعتمد على «أمان» في تقدير مسألتين هامتين في هذا السياق، هما: أهداف محتملة لضربها في حال اندلاع أيّ مواجهةٍ جديدة، وثانياً، إنذارات حول هجماتٍ محتملة. ويقف غلبوع مقيّماً تقديرات «أمان» منذ 15 عاماً وبعدها على الانسحاب: «حزب الله سيسيطر على جنوب لبنان بشكل كامل، وستتحول مزارع شبعا لهدفٍ شرعيّ لهجماته، والانسحاب من لبنان سيلهم الفلسطينيين لإطلاق موجة عنف».