فلسفة المقاومة الفلسطينيَّة

بقلم: 

إنّ تناول أيّ مسألة جدلية تخضع للفلسفة وحالتها الجدلية سواء الفلسفة المادية أو المثالية، ومكوناتهما الفلسفية الّتي تتناول سبر التحليل والتفسير للحالة الجدلية التراكمية الّتي لا تنتهي، بما أنّ الفلسفة لا نهاية لها، ولا تعريف محدد يمكن التأصيل عليه كقاعدة عامة وأساسية تتناهى وتتماهى إليها حصر التعريفات المنبثقة عن فلسفة مكونات أخرى ملتصقة بها. لذلك هنا وبطريقة حصرية تمّ إلصاق مصطلح فلسفة في عملية البحث والتحوير في ماهية المقاومة بإطارها العام، الذي يحوز على هلامية، وفضفاضية تعريفية للحالة الفلسطينية العامة في إطارها العام دون الحصر أو الانحصار في مدرسة واحدة واضحة المعالم.
إنّ اصطباغ مفهوم المقاومة بمفهوم الفلسفة يأتي ضمن التحوير والمحورية الجدلية الّتي تماهى إليها التعريف الدقيق للمصطلح، وصياغته وفق مفاهيم محددة متعارف عليها، وفق الرؤية الجدلية والفكرية المتعددة، وذات المآرب المتنوعة، سواء على صعيد الفكر(الأيديولوجيا) أو العقيدة والروحانية العقائدية، وعلى وجه التحديد في سياق التبارز الفلسفي حول المفهوم سواء في الفهم الخاص داخل الأيديولوجيا الواحدة أو السياق العام المتعدد والمتنوع، وهو السياق الذي يمكن من خلاله فك طلاسم اللاحدود التعريفية لهذه الفلسفة التحاورية فيما بينها، وعلى سبيل المثال في حالتنا الفلسطينية، ومتابعة لاصطلاح المقاومة وفلسفتها لا يمكن التسليم بأنّ التاريخ معزول، أو أنّ المستقبل لا يمكن له إعادة بناء التاريخ، في حدوده العامة وديباجته اللغوية الفلسفية في سياق مكوناته، أيّ أنّ المستقبل يمكن له بناء أو تدوير التاريخ وفق الحالة المتعلقة بمفهوم الفلسفة المقاومة أو فلسفته المقاومة، ولنتأمل الأحزاب الأيديولوجية ذات المكون الفكري الموحد أو الواحد، فعلى سبيل الأنمذجة تَمثل أقدم حزب فلسطيني ألَّا وهو الحزب الشيوعي سابقًا(حزب الشعب حاليًا) في طرح مفهوم فلسفة المقاومة وفق رؤى ومفاهيم محددة ضمن حدود وتجارب معينة كالتجربة الهندية الّتي استطاع غاندي أنّ يشكل مدرسة محددة انسجمت مع الحالة الهندية، وهو ما دفع منظري الحزب الشيوعي للبناء المفاهيمي والممارسة على أسس محددة، وطرح فلسفة المقاومة، في الوقت الذي طرحت فيه الجبهتين الشعبية والديمقراطية فلسفة مغايرة وأخرى لمفهوم وممارسة المقاومة، والتأسيس على مفهوم العنف الثوري في الممارسة، أيّ إنّ كان أعلى درجات الحب الجنس، فالحزبين الماركسيِّين اعتبرا أنّ أعلى درجات المقاومة(العنف الثوري) كطرحٍ يتماشى والواقع، وهذا الخلاف الفلسطيني في الأيديولوجيا الواحدة أسّس لعملية تمايز وليس تزاوج في الفكرة الّتي ترتأي التنوع الفلسطيني في الجدلية حول مفهوم المقاومة، وهو التزاوج الذي أحدث نوعًا فلسفيًا بين بعض الماركسييِّن وبعض القوى الدينية الّتي تماهت وتبّنت فلسفة العنف الثوري أعلى درجات المقاومة وهما حركتي الجهاد الاسلامي الّتي جعلت جُل عقيدتها الفلسفية تبني على واقع التأسيس المنبعث والمنطلق من العنف الثوري، خلافًا لعقيدة وفهم حركة الإخوان المسلمين(المجمع الاسلامي) سابقًا، حماس حاليًاالّتي تماثلت في فلسفتها المقاومة على الرؤية والفلسفة الّتي أسس عليها الحزب الشيوعي الفلسطيني(اللاعنف) وشكّلت توافقًا في رؤيتها للعنف الثوري، مخالفةً لحركة الجهاد الاسلامي وحزب الله اللبناني، ولكن هذا الاختلاف شهد بناء المستقبل للتاريخ كنموذجٍ حي، حيث تفاعلت حركة حماس مع المتغيرات والتحولات على الساحة الفلسطينية وأحدثت انحراف حاد في فلسفتها المقاومة، لتعيد تشكيل التاريخ والماضي بناءً على المستقبل لتتحول هذه الحركة لظاهرة كفاحية تعبر عن مفهوم فلسفة المقاومة وجدلية حركتها المادية، وهذا يؤكد الحتمية الّتي استنبطناها من واقع إمكانية أنّ يشكل المستقبل التاريخ ويعيد إنتاجه. والنموذج الآخر الذي يؤكد هذه الحتمية هو الحركة العلمانية (فتح) الّتي انطلقت بإيمان فلسفي بمفهوم العنف الثوري، ومارسته فلسفة وممارسة في واقع العملية المقاومة، إلَّا أنّها أعادت تشكيل التاريخ بأنّأول الرصاص تبني فلسفة المقاومة بتشعباتها الجدلية، ومنحت العنف الثوري صيغة معينة تستخدمه وفق فلسفة الشد والجذب فقط دون البناء عليه كقاعدة ثابتة، بل بنت عليه كقاعدة خدماتية متحركة لينه تتمحور في مسميات فلسفية جدلية غامضة.
هنا إنّ الفلسفة المقاومة لا زالت في طي الجدلية سواء منْ حيث التعريف أو الممارسة، أو منْ حيث الحفاظ على قواعدها وبناها، وتعريفها، وصياغة الرؤية حولها، حيث إنّ الخلفيات الأيديولوجية والعقائدية تنحصر في أضيق نطاق تعريفي للممارسة، فمثلًا لا يمكن بناء رؤية فلسفية مقاومة مستقبلية في ذهن (حركة المبادرة) بما أنّ العقيدة الفلسفية لهذه الحركة تعود لفهم وفلسفة ورؤى مؤسسها مصطفى البرغوثي الذي يتبنى رؤية حزب الشعب والحزب الشيوعي الفلسطيني السابق. كذلك(الطريق الثالث) الذي أسسه رأس المال الفلسطيني، وعبّر عنه المستثمر الاقتصادي بشخص سلام فياض، خلافًا للثابت الفلسطيني في فهم حركة الجهاد الإسلامي لمفهوم فلسفة المقاومة وممارستها الّتي لا زالت ثابتة، وتسير في نسق بناء البنى التحتية الصلبة للمقاومة انطلاقًا من فلسفتها ورؤياها للمقاومة، وكما هو الحال بحركة حماس الّتي انتهجت سياسة أكثر ميوعة، ومرونة في الإنصهار بالفلسفة السياسية الّتي حولتها لحزب سلطة إلَّا أنّها حيّدت فلسفتها المقاومة وأسست وتؤسس لبنى تحتية دائمة، وتحافظ على ديمومتها من خلال سياسة التوازن والبناء. كذلك تجربة حزب الله اللبناني الّتي تمازجت بين العمل السياسي وفلسفة المقاومة، أيّ البقاء دومًا في ديمومة الاستعداد والبناء وفق فلسفة جدلية واضحة، عكس حزبي اليسار الجبهتين الشعبية والديمقراطية اللتان أسستا لفلسفة المقاومة، وأسستا البنى التحتية لها في مراحل تاريخية، وتخلت في مراحل المستقبل عن هذا البناء كفلسفة ثابتة، وإنّ كانت العقيدة راسخة بهذه الفلسفة الّتي سرعان ما تبعث في الجسد كما فعلت الجبهة الشعبية في عملية استحضار عقيدتها الفلسفية الأصيلة بعد مقتل أمينها العام أبو علي مصطفى وردت باغتيال الوزير رحيعام زئيفي وهو ما يؤكد قطعًا أنّ العقيدة الفلسفية راسخة كنهج ومنهج، ولكنها غير ثابتة كممارسة، وكبنى تحتية مستنفرة ومستعدة.
في هذا الشأن الفلسفي لمفهوم  يتمتع بالمرونة، والميوعة معًا وفق واقع المتغيرات الدائمة لا يمكنعزل الفهم السائد الأيديولوجي والعقائدي عن الممارسة، ولكن يمكن التأسيس عليه كقاعدة انطلاق في تحديد فلسفة المقاومة وفق مطاطيتها وحتميتها لدى الأيديولوجيا والعقيدة معًا، والاستسلام للفروض والعوامل الخارجية، ونسبة التغيير في الوعي الجمعي للجماعة، والقدرة على التعاطي مع الثابت والمتغير في رسم المدرسة الفلسفية المقاومة، وهو ما تمّ الاستناد عليه في سرد الأمثلة المتاحة في واقعنا الفلسطيني الذي قٌيم أو صٌنِف لثلاث مستويات، فلسفة عقائدية مقاومة ثابتة ومتغيرة عبّر عنها حركة الجهاد الاسلامي، وحركة حماس، وحزب الله اللبناني رغم التمايز المذهبي ما بين سني_ شيعي، وفلسفة أيديولوجية غير ثابتة الممارسة والبناء كالجبهتين الشعبية والديمقراطية، وفلسفة علمانية مرنة تتبنى مفهوم الخدماتية للفلسفة كحركة فتح.
وعليه فليس الضرورة ممّا سبق الايمان الراسخ بقوالب الفلسفة المقاومة الظاهرة على مرآة الممارسة الحالية، فهناك بواطن يمكن الاسترشاد والاستشفاف للمستقبل عليها لتحوير مدى الفهم الفلسفي المطلق للتكتيك، والاستراتيجي في التعاطي مع مسألة الفلسفة المقاومة إنّ استثنينا حزب الشعب كثابت لا يحيد عن الفهم الفلسطيني لمفهوم المقاومة، وكذلك حركة المبادرة الّتي خرجت من رحم الفكرة والأيديولوجيا، مادون ذلك يمكن البناء والاسترشاد على التحولات التكتيكية في عملية تأريخ القناعة والممارسة لفلسفة المقاومة في ضوء انقلاب دائم ومتحرك في عملية الممارسة كاستشراف للمستقبل الذي يمكن على ضوئه المراهنة والقطع بأنّ قوانا تتبنى فلسفتين هما فلسفة الثبات وتتجسد في الجبهتين الشعبية والديمقراطية رغم حالة الترهل والتراجع والتماهي والتعاطي الفلسفي التنظيمي على حساب الفلسفة المقاومة، وكذلك حركة الجهاد الاسلامي الّتي لا زالت متقوقعة ثابتة في قاعدتها الفلسفية المتفولذة بفهم العنف الثوري. أما الفلسفة غير الثابتة والمتحولة، والمتغيرة وفق معايير الحالة التكتيكية السياسية هي حركتا حماس رغم ما تبديه من ثبات في الفهم الفلسفي المقاوم، وكذلك حركة فتح رغم حالة الشّد والجذب والميوعة لفهمها الفلسفي المقاوم.